التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1292 [ ص: 90 ] حديث أول لأبي الأسود . مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل أنه قال : أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين عن جذامة بنت وهب الأسدية أنها أخبرتها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم


( قال أبو عمر : ) ( هكذا هو في الموطأ عند جميع الرواة ، إلا أبا عامر العقدي ، فإنه جعله عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر جذامة ، وكذلك رواه القعنبي في سماعه من مالك في غير الموطأ ، ورواه في الموطأ كما رواه سائر الرواة عن عائشة عن جذامة ) . [ ص: 91 ] وهذا حديث صحيح ثابت ، وفيه رواية الصاحب عن الصاحب ، ورواية المرء عمن هو دونه في العلم ، وجذامة هذه هي أم قيس بنت وهب بن محصن أخي عكاشة بن محصن الأسدي ، وقد ذكرناها في كتابنا في الصحابة بما فيه كفاية . ( حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق : حدثنا محمد بن جعفر الإمام : حدثنا خلف بن هشام البزار وحدثنا خلف ( حدثنا أحمد ) بن الحسن بن إسحاق : حدثنا جعفر بن محمد بن بكر البالسي حدثنا أبو جعفر عبد الله بن محمد بن نفيل النفيلي الحراني قالا جميعا : حدثنا مالك بن أنس عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة عن عائشة عن جذامة الأسدية قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد ) هممت أن أنهى عن الغيلة حتى بلغني أن الروم وفارس تفعله ، قال النفيلي : فلا يضرهم ، وقال خلف : فلا يضر أولادهم ) ذلك . وأما الغيلة فقد فسرها مالك في موطئه إثر هذا الحديث ، ذكره القعنبي وغيره عن مالك قال : والغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي ترضع ، حملت أو تحمل . قال أبو عمر : اختلف العلماء وأهل اللغة في معنى الغيلة ; فقال منهم قائلون : كما قال مالك : معناها أن يطأ الرجل امرأته [ ص: 92 ] وهي ترضع ، وقال الأخفش : الغيلة والغيل سواء ، وهو أن تلد المرأة فيغشاها زوجها وهي ترضع فتحمل ، فإذا حملت فسد اللبن على الصبي ، ويفسد به جسده ، وتضعف قوته ، حتى ربما كان ذلك في عقله ، قال : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فيه ) أنه ليدرك الفارس فيدعثره عن سرجه أي يضعف فيسقط عن السرج قال الشاعر :

فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف

يقال : قد أغال الرجل ولده ، وأغيل الصبي ، وصبي مغال ومغيل ، إذا وطئ أبوه أمه في رضاعه ، قال امرؤ القيس : فألهيتها عن ذي تمائم مغيل وقال أبو كبير الهذلي :

ومبرأ من كل غير حيضة     وفساد مرضعة وداء مغيل

وأما الحديث الذي ذكره الأخفش فهو حديث أسماء بنت يزيد بن السكن ( والغيل لبن الفحل قال الأصمعي ) : [ ص: 93 ] ذكره ابن أبي شيبة قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا ابن أبي غنية ، عن محمد بن مهاجر ، عن أبيه عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تقتلوا أولادكم سرا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن ظهر فرسه ، ورواه حماد بن خالد الخياط قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن مهاجر مولى أسماء بنت يزيد قال : سمعت أسماء تقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تقتلوا أولادكم سرا ، فذكر نحوه إلا أنه قال : والذي نفسي بيده إن الغيل ربما أدرك الفارس ، أو أنه ليدرك الفارس فيدعثره ، وقال بعض أهل العلم ، وأهل اللغة : الغيل أن ترضع المرأة ولدها وهي حامل ، وقال بعض أهل العلم أيضا : الغيل نفسه الرضاع ، وجمعه مغايل . ( وقال الأصمعي : الغيل لبن الحامل ، ويقال : الغيل الماء الجاري على وجه الأرض ، ويقال : الغيل نيل مصر الذي تنبت عليه زروعهم ) . وفي هذا الحديث إباحة الحديث عن الأمم الماضية بما يفعلون . وفيه دليل على أن من نهيه عليه السلام ما يكون أدبا ورفقا وإحسانا إلى أمته ليس من باب الديانة ، ولو نهى عن الغيلة كان ذلك وجه نهيه عنها ، والله أعلم . وقال ابن القاسم [ ص: 94 ] وابن الماجشون ، وحكاه ابن القاسم عن مالك ولم يسمعه منه ، في الرجل يتزوج المرأة ، فيصيبها وهي ترضع : أن ذلك اللبن له ، وللزوج قبله ; لأن الماء يغير اللبن ، ويكون منه الغذاء ، واحتج بهذا الحديث : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ، قال ابن القاسم : وبلغني عن مالك : إذا ولدت المرأة من الرجل فاللبن منه بعد الفصال وقبله ، ولو طلقها وتزوجت وحملت من الثاني فاللبن منهما جميعا أبدا حتى يتبين انقطاعه من الأول . وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي : اللبن من الأول في هذه المسألة حتى تضع فيكون من الآخر ، وهو قول ابن شهاب ، وقد روي عن الشافعي أنه منهما حتى تضع فيكون من الثاني ، وقد مضى القول في لبن الفحل في باب ابن شهاب عن عروة ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية