التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1460 [ ص: 123 ] حديث أول عن أبي الرجال .

مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يمنع نقع بئر


( قال أبو عمر : ) زاد بعضهم عن مالك في هذا الحديث بهذا الإسناد يعني فضل مائها ، وهو تفسير لم يختلف في جملته ، واختلف في تفسيره ، ولا أعلم أحدا من رواة الموطأ عن مالك أسند عنه هذا الحديث ، وهو مرسل عند جميعهم فيما علمت هكذا .

( وذكره الدارقطني عن أبي صاعد عن أبي علي الجرمي عن أبي صالح كاتب الليث عن الليث بن سعد ، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، عن مالك بن أنس عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يمنع نقع بئر ، وهذا الإسناد ، وإن كان قريبا عن مالك فقد رواه أبو قرة موسى بن طارق عن مالك أيضا .

[ ص: 124 ] كذلك إلا أنه في الموطأ مرسل عند جميع رواته ، والله أعلم ) ، وقد أسنده عن أبي الرجال محمد بن إسحاق ، وغيره ( وقال ابن وهب في تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع نقع بئر : هو ما تبقى فيها من الماء بعد منفعة صاحبها ) ، وأخبرنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمر وحدثنا عبيد بن عمرو ، ومحمد بن عبد الملك قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني قال : حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة عن عائشة قالت : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنع نقع بئر يعني فضل مائها .

هكذا جاء هذا التفسير في نسق الحديث مسندا ، وهو كما جاء فيه لا خلاف في ذلك بين العلماء فيما علمت على ما قال ابن وهب وغيره ، وفيما أذن لنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن العباس الإخميمي أن نرويه عنه ، وأجاز لنا ذلك ، وأخبرنا به بعض أصحابنا عنه ، قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن موسى [ ص: 125 ] بن أبي مالك المعافري قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي قال : حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة ، عن عائشة قالت : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنع نقع ( بئر ) يعني فضل مائها .

أخبرنا عبد العزيز بن عبد الرحمن قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، وحدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ( قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال ) : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح قال : حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة عن عائشة قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يمنع نقع بئر ، يعني فضل الماء وحدثنا سعيد بن نصر قال : ( حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : ) حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال : حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان عن أبي الرجال عن أمه عمرة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يمنع نقع ماء بئر .

[ ص: 126 ] ( قال أبو عمر : كان ابن عيينة يقول في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يمنع نقع بئر : هو أن لا يمنع الماء قبل أن يسقى ، وقال ابن وهب : تفسير قوله لا يمنع نقع بئر ، هو ما بقي فيها من الماء بعد منفعة صاحبها .

قال أبو عمر : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع فضل الماء في وجوه أيضا صحاح ، والمعنى فيها كلها متقارب ، فمن ذلك حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء يمنع به الكلأ .

ومنها حديث جابر ، حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جريج عن أبي الزبير ، عن جابر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء .

ومنها حديث داود العطار عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال عن إياس بن عبد ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع فضل الماء هكذا ، قال داود العطار : وخالفه سفيان بن عيينة عن عمرو بإسناده فقال عن بيع الماء [ ص: 127 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدثنا داود العطار ، قال : حدثنا عمرو بن المنهال ، عن إياس بن عبد ، قال لرجل : لا تبع الماء ; فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الماء وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو أخبره أبو المنهال أن إياس بن عبد قال لرجل : لا تبع الماء ; فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الماء .

( وأخبرنا خالد بن قاسم : حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن العسكري أنبأنا الربيع بن سليمان أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال عن إياس بن عبد أنه قال : لا تبيعوا الماء ; فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الماء ) .

قال سفيان : لا يدري عمرو أي ماء هو .

وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا سعيد بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا البخاري ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد عن [ ص: 128 ] الأعمش : سمعت أبا صالح ، يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم رجل كان له فضل ماء فمنعه ابن السبيل وذكر الحديث .

أخبرنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن إسحاق القاضي قال : حدثنا أحمد بن مسعود الزبيري قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وحدثنا أحمد بن عبد الله : حدثنا الميمون بن حمزة ، قال : حدثنا الطحاوي ، قال : حدثنا المزني قالا جميعا : أخبرنا الشافعي بمعنى واحد ، قال : معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الماء ، وعن بيع فضل الماء ، وأنه نهى عن منع فضل الماء هو - والله أعلم - أن يباع الماء في المواضع التي جعله الله فيها ، وذلك أن يأتي الرجل الرجل له البئر أو العين أو النهر ليشرب من مائه ذلك ، وليسقي دابته ، وما أشبه هذا فيمنعه ذلك ، فهذا هو المنهي عنه ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يمنع فضل الماء ( وأما قول رسول الله - صلى الله [ ص: 129 ] عليه وسلم - لا يمنع فضل الماء ) ليمنع به الكلأ فمعنى ذلك أن يأتي الرجل بدابته ، وماشيته إلى الرجل له البئر ، وفيها فضل عن سقي ماشيته فيمنعه صاحب البئر السقي ، يريد بيع فضل مائه منه ، فذلك الذي نهى عنه من ( بيع ) فضل الماء ، وعليه أن يبيح غيره فضل مائه ليسقي ماشيته ; لأن صاحب الماشية إذا منع أن يسقي ماشيته لم يقدر على المقام ببلد لا يسقي فيه ماشيته فيكون منعه الماء الذي يملك منعا للكلأ الذي لا يملك .

ودلت السنة على أن مالك الماء أحق بالتقدم في السقي من غيره ; لأنه أمر بأن لا يمنع الفضل ، والفضل هو الفضل عن الكفاف والكفاية ، ودلت السنة على أن المنع الذي ورد في فضل الماء هو منع شفاه الناس ، والمواشي أن يشربوا فضلا عن حاجة صاحب الملك من الماء ، وأن ليس لصاحب الماء منعهم .

وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك متفقة تفسرها السنة المجتمع عليها ، وإن كانت الأحاديث بألفاظ شتى ، قال : وإن كان هذا في ماء البئر كان فيما هو أكثر من ماء البئر أولى أن لا يمنع من الشفة ، قال : ولو أن رجلا أراد من رجل له بئر فضل مائه من تلك البئر ليسقي بذلك زرعه لم يكن له ذلك ، وكان لمالك البئر منعه من ذلك ; لأن النبي [ ص: 130 ] - صلى الله عليه وسلم - إنما أباحه في الشفاه التي يخاف مع منع الماء منها التلف عليها ، ولا تلف على الأرض ; لأنها ليست بروح فليس لصاحبها أن يسقي إلا بإذن رب الماء . قال : وإذا حمل الرجل الماء على ظهره فلا بأس أن يبيعه من غيره ; لأنه مالك لما حمل منه ، وإنما يبيع تصرفه بحمله قال : وكذلك لو جاء رجل على شفير بئر فلم يستطع أن ينزع بنفسه لم يكن باس أن يعطي رجلا أجرا ، وينزع له ; لأن نزعه إنما هو إجارة ليست عليه ، هذا كله قول الشافعي .

وأما جملة قول مالك وأصحابه في هذا الباب فذلك أن كل من حفر في أرضه أو داره بئرا فله بيعها ، وبيع مائها كله ، وله منع المارة من مائها إلا بثمن ، إلا قوما لا ثمن معهم ، وإن تركوا إلى أن يردوا ماء غيره هلكوا فإنهم لا يمنعون ، ولهم جهاده إن منعهم ذلك ، وأما من حفر من الآبار في غير ملك معين لماشية أو شفة ، وما حفر في الصحاري كمواجل المغرب ، وأنطابلس ، وأشباه ذلك فلا يمنع أحد فضلها ، وإن منعوه حل له قتالهم ، فإن لم يقدر المسافرون على دفعهم حتى ماتوا عطشا فدياتهم على عواقل المانعين ، والكفارة من كل نفس على كل رجل من أهل الماء المانعين مع وجيع الأدب .

[ ص: 131 ] وكره مالك بيع فضل ماء مثل هذه الآبار من غير تحريم ، قال : ولا بأس ببيع فضل ماء الزرع من بئر أو عين ، وبيع رقابهما قال : ولا يباع أصل بئر الماشية ، ولا ماؤها ، ولا فضله يعني الآبار التي تحفر في الفلاة للماشية والشفاه ، وأهلها أحق بريهم ، ثم الناس سواء في فضلها إلا المارة أو الشفة أو الدواب فإنهم لا يمنعون .

قال أبو عمر : أما البئر تنهار للرجل ، وله عليها زرع أو نحوه من النبات الذي يهلك بعدم الماء الذي اعتاده ، ولا بد له منه ، وإلى جنبه بئر لجاره يمكن أن يسقي منها زرعه ، فقد قال مالك وأصحابه : إن صاحب تلك البئر يجبر على أن يسقي جاره بفضل مائه زرعه الذي يخاف هلاكه إذا لم يكن على صاحب الماء فيه ضرر بين ، وعلى هذا المعنى تأول مالك قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع نقع بئر يعني بئر الزرع ، واختلف أصحابه هل يكون ذلك بثمن أو بغير ثمن ؟ فقال بعضهم : يجبر ويعطى الثمن ، وقال بعضهم : يجبر ولا ثمن له ، وجعلوه كالشفاه من الآدميين والمواشي ، فتدبر ما أوردته عن الشافعي ، ومالك تقف على المعنى الذي اختلفا فيه من ذلك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه في هذا الباب كقول الشافعي سواء ، وقالوا : لكل من له بئر في أرضه المنع من الدخول [ ص: 132 ] إليها إلا أن يكون للشفاه ، والحيوان إذا لم يكن لهم ماء فيسقيهم قالوا ، وليس عليه سقي ( زرع ) جاره ( وقال سفيان الثوري : إنما جاء الحديث في منع الماء لشفاه الحيوان ، وأما الأرضون فليس يجب ذلك على الجار في فضل مائه ) ، .

وذكر ابن حبيب قال : ومما يدخل في معنى لا يمنع نقع بئر ولا يمنع ، وهو بئر البئر تكون بين الشريكين يسقي منها هذا يوما ، وهذا يوما وأقل ، وأكثر ، فيسقي أحدهما يومه فيروي نخله أو زرعه في بعض يومه ، ويستغني عن السقي في بقية اليوم أو يستغني في يومه كله عن السقي فيريد صاحبه أن يسقي في يومه ذلك ، قال ذلك له ، وليس لصاحب اليوم أن يمنعه من ذلك ; لأنه ليس له منعه مما لا ينفعه حبسه و لا يضره تركه .

قال أبو عمر : قول ابن حبيب هذا حسن ، ولكنه ليس على أصل مالك ، وقد قال : - صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ، وقد مضى القول في هذا المعنى ، وما للعلماء فيه من التنازع في باب ابن شهاب عن الأعرج من كتابنا هذا ، والحمد لله .

قال ابن حبيب : ومن ذلك أيضا أن تكون البئر لأحد الرجلين في حائطه فيحتاج جاره ، وهو لا شركة له في البئر [ ص: 133 ] إلى أن يسقي حائطه بفضل مائها ، فذلك ليس له إلا أن تكون بئره تهورت فيكون له أن يسقي بفضل ماء جاره إلى أن يصلح بئره ، ويقضي له بذلك ، وتدخل حينئذ في تأويل الحديث لا يمنع نقع البئر قال : وليس للذي تهورت بئره أن يؤخر إصلاح بئره ، ولا يترك والتأخير ، وذلك في الزرع الذي يخاف عليه الهلاك إن منع السقي إلى أن يصلح البئر قال : فأما أن يحدث على البئر عملا من غرس أو زرع ليسقيه بفضل ماء جاره إلى أن يصلح بئره فليس ذلك له قال لي مطرف ، وابن الماجشون عن مالك ، وفسره لي أيضا ابن عبد الحكم ، وأصبغ بن الفرج ، وأخبرني أن ذلك قول ابن وهب وابن القاسم وأشهب ، وروايتهم عن مالك .

واختلفوا أيضا في التفاضل في الماء ، فقال مالك : لا بأس ببيع الماء متفاضلا ، وإلى أجل ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وقال محمد بن الحسن : هو مما يكال ، ويوزن فعلى هذا القول لا يجوز عنده فيه التفاضل ، ولا النسا ، وذلك عنده فيه ربا ; لأن علته في الربا الكيل والوزن ، وقال الشافعي : لا يجوز بيع الماء متفاضلا ، ولا يجوز فيه الأجل ، وعلته في الربا أن يكون مأكولا جنسا ، وقد مضى القول في أصولهم في علل الربا في غير موضع من كتابنا هذا فلا وجه لإعادته هاهنا

التالي السابق


الخدمات العلمية