التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
560 [ ص: 138 ] حديث ثالث لأبي الرجال .

مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن ، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنه سمعها تقول : لعن رسول الله المختفي والمختفية . يعني نباش القبور .


قال أبو عمر : هذا التفسير في هذا الحديث هو من قول مالك ، ولا أعلم أحدا خالفه في ذلك ، وأصل الكلمة الظهور والكشف ; لأن النباش يكشف الميت عن ثيابه ، ويظهره ، ويقلعها عنه . ومن هذا قول الله عز وجل في الساعة : ( أكاد أخفيها ) ، على قراءة من قرأ بفتح الهمزة قال أبو عبيدة : يقال : خفيت خبزتي أخرجتها من الدار ، وأنشد لامرئ القيس بن عابس الكندي :


فإن تكتموا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

.

قال : وقال امرؤ القيس بن حجر :

خفاهن من أنفاقهن كأنما     خفاهن ودق من عشي مجلب



[ ص: 139 ] وقال الأصمعي مجلب بالجيم الرعد ، قال أبو عبيدة : والغالب على هذا النحو أن يكون خفيت بغير ألف ، وقد يكون أيضا بالألف بمعنى واحد أخفاها : أظهرها ، ويكون من الأضداد ( ويقال : خفيت الشيء أظهرته ، وأخفيته سترته ( وممن قرأ : أخفيها بفتح الهمزة سعيد بن جبير لم يختلف عنه ، ومجاهد على اختلاف عنه ) .

وقد روي هذا الحديث مسندا من حديث مالك ، وغيره رواه عن مالك يحيى الوحاظي ، وغيره : حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : أخبرنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي قال : حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي ، قال : حدثنا مالك ، عن أبي الرجال ، عن عمرة عن عائشة قالت : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المختفي والمختفية .

( رواية الوحاظي مشهورة عنه في توصيل هذا الحديث ، وكذلك رواه عبد الله بن عبد الوهاب عن مالك عن مالك ، حدثناه خلف بن قاسم ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى : حدثنا هشام بن إسحاق : حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، قال : سمعت مالك بن أنس ، قيل له : حدثك أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن ، عن [ ص: 140 ] أمه عمرة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المختفي والمختفية ، قال أبو عمر : لا أعلم اختلافا بين أهل العلم أن المقصود باللعن في هذا الحديث هو النباش الذي يحفر على الميت فينبشه ، ويخرجه ، ويجرده من ثيابه ويأخذها ، وأما من فعل ذلك بوليه من الموتى لعذر ما ، ووجهه غير الوجه الذي ذكرنا فلا بأس بذلك .

وقد أخرج جابر بن عبد الله أباه من قبره الذي دفن فيه ، ودفنه في غير ذلك الموضع ، وفعل ذلك معاوية بشهداء أحد حين أراد أن يجري العين ، وذلك بمحضر من الصحابة ، ولم يبلغني أن أحدا أنكره يومئذ ، واختلف الفقهاء في النباش : هل عليه القطع إذا نزع من الميت من الثياب ما يحق فيه القطع أم لا ؟ فقال الكوفيون : لا قطع عليه ; لأن القبر ليس بحرز ، ولأن الميت لا يملك ، وقال مالك : عليه القطع ; لأن القبر كالبيت ، وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن بشار بندار ، قال : حدثنا عبد الرحمن قال : سمعت مالكا يقول : القبر حرز الميت كما أن البيت حرز للحي .

[ ص: 141 ] قال أبو عمر : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي ذر أنه سمى القبر بيتا في حديث ذكره ، وقال الله عز وجل : ( ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا ) وقد استدل ابن القاسم في قطع النباش بهذه الآية .

وأما نبش الموتى وإخراجهم لمعنى غير هذا المعنى ، فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا خالد بن خداش ، قال : حدثنا غسان بن مضر ، قال : حدثنا سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله قال : دعاني أبي ، وقد حضر قتال أحد ، فقال لي : يا جابر لا أراني إلا أول مقتول يقتل غدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني لن أدع أحدا أعز منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لك أخوات فاستوص بهن خيرا ، وإن علي دينا فاقض عني . فكان أول قتيل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فدفنته هو وآخر في قبر واحد ، فكان في نفسي منه شيء فاستخرجته بعد ستة أشهر كيوم دفنته .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثني سعيد بن عامر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي نجيح عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال : دفن مع أبي رجل في قبر فلم تطب نفسي حتى حولته وحدثنا [ ص: 142 ] عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد قال : حدثنا بندار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي مسلمة عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله أن أباه قال : إني معرض نفسي للقتل ، ولا أراني إلا مقتولا ، وإني لا أدع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي منك ، وأوصاه ببناته ودين عليه ، فقتل يوم أحد فدفنوا بأحد ، قال : فلم تطب نفسنا فاستخرجناهم بعد ستة أو سبعة أشهر فوجدناهم لم يتغيروا غير أن طرف أذن أحدهم قد تغير ، وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، وأخبرنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم قالا : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا حامد بن يحيى قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير سمع جابرا يقول : لما أراد معاوية أن يجري العين التي في أسفل أحد ، عند قبور الشهداء الذين بالمدينة أمر مناديا فنادى من كان له ميت فليأته فليخرجه قال جابر : فذهبت إلى أبي فأخرجناهم رطابا ينثنون .

قال أبو سعيد : لا أذكر بعد هذا منكرا أبدا . قال جابر : فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطر الدم .

قال أبو عمر : وقد روينا أن طلحة بن عبيد الله رآه بعد قتله ، ودفنه مولى له في النوم فشكا إليه أن الماء يؤذيه فنبشه ، وأخرجه من جنب ساقية كان دفن إليها ، ووجد جنبه قد اخضر فدفنه في غير ذلك الموضع ، وقد ذكرنا هذا الخبر في كتاب [ ص: 143 ] الصحابة في باب طلحة على وجهه ، والحمد لله . وقد روى مالك عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة موقوفا من قولها كسر عظم المؤمن ميتا ككسره وهو حي ، وأكثر الرواة للموطأ يقولون فيه عن مالك : أنه بلغه أن عائشة كانت تقول : كسر عظم المؤمن ميتا ككسره وهو حي تعني في الإثم ، وهو حديث يدخل في هذا الباب من جهة المعنى ، ومن جهة الإسناد ، ولا أعلم أحدا رفعه عن مالك ، وقد روي مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندا من حديث عائشة من رواية عمرة وغيرها : فرأيت ذكره هاهنا ; لأن أصله من رواية مالك ، وهو من هذا الباب أيضا ; لأنه يدل على كراهة حفر قبور المسلمين : حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو أسامة عن سعد بن سعيد قال : سمعت عمرة تقول : سمعت عائشة تقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا . وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن قال : قالت عمرة : أعطني قطعة من [ ص: 144 ] أرضك أدفن فيها ، فإن عائشة قالت : كسر عظم الميت ككسره ، وهو حي ، قال محمد : وكان مولى بالمدينة يحدث عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الحسن الكوفي قال : حدثنا حذيفة ، قال : حدثنا زهير ; يعني ابن محمد عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا .

قال أبو عمر : هذا كلام عام يراد به الخصوص ; لإجماعهم على أن كسر عظم الميت لا دية فيه ولا قود ، فعلمنا أن المعنى ككسره حيا في الإثم لا في القود ولا الدية ; لإجماع العلماء على ما ذكرت لك ( وفي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النباش دليل على أن كل من أتى المحرمات ، وارتكب الكبائر المحظورات في أذى المسلمين ، وظلمهم جائز لعنه ، والله أعلم .

وقد تكلمنا على هذا المعنى في غير هذا الموضع ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله ، والواصلة والمستوصلة ، والخمر وشاربها . الحديث ، وكثيرا ممن يطول الكتاب بذكرهم ، وتفرد حبيب عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن خالد بن عبد الله بن حرملة عن الحارث بن خفاف بن أسلم قال : ركع رسول الله صلى الله [ ص: 145 ] عليه وسلم ثم رفع رأسه ، فقال : غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله اللهم العن بني لحيان ، ورعلا ، وذكوان . قال خفاف : فجعل لعن الكفر من أجل ذلك ، قال الدارقطني : تفرد به حبيب عن مالك ، وهو صحيح عن محمد بن عمرو ) وفي قول من قال : في هذا الحديث : كسر عظم المومن ، دليل على أن غير المومن بخلافه ، والله أعلم .

وقد اختلف الفقهاء في نبش قبور المشركين طلبا للمال فقال مالك : أكرهه ، وليس بحرام ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا بأس بنبش قبور المشركين طلبا للمال ، وقال الأوزاعي : لا يفعل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر سجى ثوبه على رأسه ، واستحث على راحلته ثم قال : لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تدخلوها ، وأنتم باكون مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، قال أبو عمر : هذا حديث يرويه ابن شهاب مرسلا ، ورواه مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث القعنبي ، وروى من غير هذا الوجه أيضا : أنه لما أتى ذلك الوادي أمر الناس فأسرعوا ، وقال : إن هذا واد ملعون .

وروي عنه أنه أمر بالعجين فطرح ، وقد روى محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية عن يحيى بن أبي يحيى ، قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله - صلى الله [ ص: 146 ] عليه وسلم - حين خرجنا إلى الطائف فمررنا بقبر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا قبر أبي رغال ، وهو أبو الطائف ، وكان من ثمود ، وكان بهذا الحرم يدفع عنه ، فلما خرج أصابته النقمة بهذا المكان ، ودفن فيه ، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس فاستخرجوا معه الغصن ، وفي هذا الحديث إباحة نبش قبور المشركين لأخذ المال .

حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد قال : حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال : حدثنا يونس بن بكير وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب : حدثنا إبراهيم بن سعيد قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق . فذكره بإسناده .

( قال أبو عمر : أبو رغال هذا هو الذي يرجم قبره أبدا كل من مر به ، واختلف في قصته ; فقيل : إنه كان من ثمود ، واستحق ما استحقت ثمود فصرف الله عنه ، لكونه في الحرم فلما خرج منه أخذته الصيحة فمات فدفن هناك ، وقيل : إنه كان وجهه صالح النبي - عليه السلام - على [ ص: 147 ] نفقات الأموال فخالف أمره وأساء السيرة ، فوثب عليه ثقيف ; وهو قسي بن منبه ، فقتله ، وإنما فعل ذلك لسوء سيرته في أهل الحرم ، فقال غيلان بن سلمة الثقفي ، وذكر قسوة الله على أبي رغال :


نحن قسي وقسي أبونا

.

وقال أمية بن أبي الصلت :


نفوا عن أرضهم عدنان طرا     وكانوا للقبائل قاهرينا
وهم قتلوا الرئيس أبا رغال     بنخلة إذ يسوق بها الوضينا

.

وقال عمرو بن دارك العبدي ، يذكر فجور أبي رغال وخبثه فقال :

وإني إن قطعت حبال قيس     وحالفت الحرون على تميم
لأعظم فجرة من أبي رغال     وأجور في الحكومة من سدوم

.

وقال مسكين الدارمي : .


وأرجم قبره في كل عام     كرجم الناس قبر أبي رغال

.

وقد روي عن أنس قال : كان موضع مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبور المشركين ، وكان فيه حرث ونخل فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت ، وبالنخل فقطع ، وبالحرث فسوي . حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد [ ص: 148 ] الرحمن : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا الحارث بن أبي أسامة : حدثنا العباس بن الفضل ، حدثنا عبد الوارث بن أبي التياح ، عن أنس ، وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قراءة مني عليه ، أن أحمد بن محمد المكي حدثهم قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، وقرأت عليه أيضا أن بكر بن العلاء ، حدثهم قال : حدثنا أحمد بن موسى الشامي قالا جميعا : حدثنا القعنبي عن مالك ، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحاب الحجر : لا تدخلوا على هؤلاء المعتدين إلا أن تكونوا باكين . فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم .

قال أبو عمر : وقد أجاز الدخول عليهم في حال البكاء وحدثنا يعيش بن سعيد ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب قال : حدثنا عبد الوهاب الرياحي قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا روح ; وهو ابن القاسم ، عن إسماعيل ، وهو ابن أمية عن يحيى ; وهو ابن أبي يحيى ، عن عبد الله بن عمر قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمررنا بقبر ، فقال : هذا قبر أبي رغال ، وهو امرؤ من ثمود ، وكان مسكنه الحرم فلما أهلك الله قومه بما أهلكهم به منعه لمكانه من الحرم فخرج حتى إذا بلغ هاهنا مات فدفن ، ودفن معه غصن من ذهب فابتدرناه فاستخرجناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية