التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1309 [ ص: 149 ] حديث رابع لأبي الرجال مالك عن أبي الرجال .

مالك عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنه سمعها تقول : ابتاع رجل ثمر حائط في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعالجه ، وقام فيه حتى تبين له النقصان ، فسأل رب الحائط أن يضع له ، أو أن يقيله فحلف أن لا يفعل ، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تألى أن لا يفعل خيرا فسمع ذلك رب الحائط ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله هو له .


( قال أبو عمر : لا أعلم هذا الحديث بهذا اللفظ يسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه متصل ( إلا من رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة ، وكان مالك يرضى سليمان بن بلال [ ص: 150 ] ويثني عليه ذكره البخاري قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني أخي عن سليمان ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن ، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن قالت : سمعت عائشة تقول : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما ، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ، ويسترفقه في شيء ، وهو يقول : والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أين المتألي على الله أن لا يفعل المعروف ؟ فقال : أنا يا رسول الله ، فليفعل أي ذلك أحب ) .

وفيه دليل على أن لا جائحة يقام بها ، ويحكم بإلزامها البائع في الثمار إذا بيعت قلت الجائحة أو كثرت ; لأنه لم يذكر فيه مقدار النقصان كثيرا كان أم قليلا ، ولو لزمت الجائحة في شيء من الثمار البائع بعد بيعه لبين ذلك [ ص: 151 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولبين المقدار ، وهذا معنى اختلف فيه العلماء ، وقد ذكرنا ما لهم في ذلك من الأقوال ، وما احتجوا به من الآثار في باب حميد الطويل من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته هاهنا .

وفي الحديث أيضا الندب إلى حط ما أجيح ( به ) المبتاع في الثمار إذا ابتاعها ، ندب البائع لذلك وحض عليه ، ولم يلزمه ولا قضى عليه به ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : تألى ( على الله ) أن لا يفعل خيرا .

ومن قال بوضع الجوائح على المبتاع في الثمار ، وإلزامها البائع احتج بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ وبحديثه أيضا عليه الصلاة والسلام ; أنه نهى عن بيع السنين ، وأمر بوضع الجوائح ، وقد مضى ما للعلماء في هذه الآثار من التأويل والتخريج ، والوجوه ، والمعاني في باب حميد على ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى حديث عمرة هذا دون لفظه من حديث أبي سعيد الخدري ، وهو حديث صحيح .

[ ص: 152 ] أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال : حدثنا عيسى قال : حدثنا سحنون قال : أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج وعثمان عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال : أصيب رجل في ثمار ابتاعها ، وكثر دينه ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) تصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك .

وكان أبو عبد الرحمن النسائي يقول : هذا الحديث أصح من حديث سليمان بن عتيق في وضع الجوائح ، وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الديبلي قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى ( ح ) وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا شبابة قالا جميعا : حدثنا الليث بن سعد عن بكر بن عبد الله بن الأشج عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري قال : أصيب رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها بدين فكثر دينه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغرمائه : [ ص: 153 ] خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك . ليس في حديث عبد العزيز بن يحيى " تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه " وهذا الحديث وحديث عمرة يدلان على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقض بوضع الجائحة ( في قليل ولا كثير ) والذين قالوا : معنى هذا الحديث في قوله : ليس لكم إلا ذلك ، يعني في ذلك الوقت حتى الميسرة ( لأنه كان مفلسا ، ويحتمل أن يكون الذي بقي عليه كان دون الثلث ، فقال : ليس لكم غير ذلك ) وخالفهم غيرهم فقالوا : لو كان ذلك لبين في الحديث ، وهذه دعوى ، وقد قال قوم : إن معنى الأمر بوضع الجوائح إنما هو في وضع خراج الأرض وكرائها عمن أصاب زرعه أو ثمره آفة .

ومنهم من قال : إنما هذا قبل القبض فإذا قبض المبتاع ما ابتاعه فلا جائحة فيه ، ومنهم من قال : الأمر بوضع الجوائح إنما كان على الندب إلى الخير بدليل حديث عمرة هذا ( وقوله فيه : تألى ألا يفعل خيرا ) لا أنه شيء يجب القضاء به ; لأن العلماء مجمعون على أن من قبض ما يبتاع بما يجب [ ص: 154 ] به قبضه من كيل أو وزن أو تسليم ، وصار في يد المبتاع كما كان في يد البائع ، أن المصيبة والجائحة فيه من المبتاع إلا الثمار إذا بيعت بعد بدو صلاحها فإنهم اختلفوا في ذلك فواجب رد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه من نظير ، وفي هذه المسألة نظر .

وقد ذكرنا مذهب مالك وأهل المدينة فيها ، ومذهب غيرهم أيضا ، وحجة كل فريق منهم في باب حميد الطويل من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية