التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
914 مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول : دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال فتوضأ فلم يسبغ الوضوء ، فقلت له : الصلاة يا رسول الله فقال : الصلاة أمامك ، فركب ، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم أناخ كل أناس بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء فصلاها ، ولم يصل بينهما شيئا .


( قال أبو عمر : هكذا رواه جماعة الحفاظ الأثبات من رواة الموطأ عن مالك فيما علمت ، إلا أشهب وابن الماجشون فإنهما روياه عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس عن أسامة بن زيد ذكره النسائي قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدثنا أشهب ، وكذلك حدث به المعافى ، عن ابن الماجشون ، والصحيح في هذا الحديث طرح [ ص: 157 ] ابن عباس من إسناده ، وإنما هو لكريب عن أسامة بن زيد ) وكذلك رواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، وحماد بن زيد عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة مثل رواية مالك سواء ، ولم يخالف فيه على موسى بن عقبة فيما علمت ، ورواه إبراهيم بن عقبة ، واختلف عليه فيه فرواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة ، ومحمد بن أبي حرملة جميعا عن كريب عن ابن عباس عن أسامة بن زيد ، أدخلا بين كريب وبين أسامة عبد الله بن عباس ، ورواه حماد بن زيد عن إبراهيم بن عقبة ، عن كريب عن أسامة ، ورواه إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن أبي حرملة ، عن كريب ، عن أسامة لم يذكر ابن عباس ، وكذلك رواه ابن المبارك عن إبراهيم بن عقبة مثل رواية حماد بن زيد ، فدل ذلك كله على ضعف رواية ابن عيينة ، وصحة رواية مالك ومن تابعه ، وأن ليس لابن عباس ذكر صحيح ( في هذا الحديث ، والله أعلم .

وفي هذا الحديث من الفقه ، الوقوف بعرفة يوم عرفة ، ثم الدفع منها بعد غروب الشمس على يقين من مغيبها ليلة النحر إلى المزدلفة ، وهذا ما لا خلاف فيه ، والوقوف المعروف بعرفة بعد صلاة الظهر والعصر في مسجد عرفة جميعا في أول وقت الظهر [ ص: 158 ] إلى غروب الشمس ، والمسجد معروف ، وموضع الوقوف بجبال الرحمة معروف ، وليس المسجد موضع وقوف ; لأنه فيما أحسب من بطن عرنة الذي أمر الواقف بعرفة أن يرتفع عنه ، وهذا كله أمر مجتمع عليه لا موضع للقول فيه .

وأما قوله في هذا الحديث : نزل فبال فتوضأ فلم يسبغ الوضوء فهذا عندي - والله أعلم - أنه استنجى بالماء أو اغتسل به من بوله ، وذلك يسمى وضوءا في كلام العرب ; لأنه من الوضاءة التي هي النظافة ، ومعنى قوله لم يسبغ الوضوء ; أي لم يكمل وضوء الصلاة ، لم يتوضأ للصلاة ، والإسباغ الإكمال فكأنه قال : لم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ولكنه توضأ من البول . هذا وجه هذا الحديث عندي ، والله أعلم .

وقد قيل : إنه توضأ وضوءا خفيفا ، ليس بالبالغ وضوءا بين وضوءين لصلاة واحدة ، وليس هذا اللفظ في حديث مالك ، ومالك أثبت من رواه ، فلا وجه للاحتجاج برواية غيره عليه .

وقد قيل في ذلك : إنه توضأ على ( بعض ) أعضاء الوضوء ( ولم ) يكمل الوضوء [ ص: 159 ] للصلاة على ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا أجنب ليلا ، وأراد النوم غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، وربما مسح برأسه ، ونام ، وهو لم يكمل الدفع للصلاة ، وهذا عندي وجه ضعيف لا معنى له ، ولا يجب أن يضاف مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعل الذي حكاه عن ابن عمر لم يضبط .

والوضوء على الجنب عند النوم غير واجب ، وإنما هو ندب ( لأنه ) لا يرفع فيه حدثه ، وفعله سنة وخير ، وليس من دفع من عرفة إلى المزدلفة يجد ما يتوضأ به وضوءا يشتغل به عن النهوض إلى المزدلفة ، والنهوض إليها من أفضل أعمال البر .

فكيف يشتغل عنها بما لا معنى له ؟ ! ألا ترى أنه لما حانت تلك الصلاة في موضعها نزل فأسبغ الوضوء لها ؟ أي توضأ لها كما يجب ، فالوضوء الأول عندي الاستنجاء بالماء ( لأنه لم يحفظ عنه قط أنه توضأ لصلاة واحدة مرتين ، وإن كان يتوضأ لكل صلاة ، ويحتمل قوله : الصلاة أي توضأ لها ، إذ رآه اقتصر على الاستنجاء ويحتمل غير ذلك ) والله أعلم .

وقد روى عبد الله بن أبي مليكة عن أمه عن عائشة قالت : بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه عمر بكوز من ماء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لم أومر أن [ ص: 160 ] أتوضأ كلما بلت ، ولو فعلت لكانت سنة ، وهذا على ما قلنا ، وبالله توفيقنا .

ففي هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستنجي بالماء على ( حسب ) ما ذكرناه . ( ومن بين ما يروى في استنجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالماء ما رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن معاذ عن عائشة أنها قالت لنسوة عندها : مرن أزواجكن أن يغسلوا عنهم أثر الغائط والبول ، فإني أستحيهم ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله . ذكره يعقوب بن شيبة عن يزيد بن هارون ، عن سعيد .

وحدثنا سعيد بن نصر : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان عن عمرو قال : سمعت ابن الحويرث يقول : سمعت ابن عباس يقول : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج من الغائط ( فأتى بطعامه ) فقيل له : ألا تتوضأ ؟ فقال : ما أصلي فأتوضأ ، وهذا بين أنه كان عليه السلام لا يتوضأ وضوء الصلاة إلا للصلاة ، وأنه لا يتوضأ كلما بال وضوء الصلاة ) [ ص: 161 ] وفي هذا الحديث أيضا من الفقه أن الإمام إذا دفع بالحاج ، والناس معه لا يصلون المغرب في تلك الليلة إلا مع العشاء في وقت واحد بالمزدلفة ، وهذا أمر مجتمع عليه لا خلاف فيه .

واختلف العلماء فيمن لم يدفع مع الإمام لعلة وعذر ، ودفع وحده بعد دفع الإمام بالناس ، هل له أن يصلي تلك ( الصلاتين ) في المزدلفة أم لا ؟ فقال مالك : لا ، يصليهما أحد قبل جمع إلا من عذر ، فإن صلاهما من عذر لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق .

وقال الثوري : لا يصليهما حتى يأتي جمعا ، وله السعة في ذلك إلى نصف الليل ، فإن صلاهما دون جمع أعاد ، وقال أبو حنيفة : إن صلاهما قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة ، وسواء صلاهما قبل مغيب الشفق أو بعده ، عليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة ، وحجة هؤلاء كلهم قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لأسامة : " الصلاة أمامك " يعني بالمزدلفة ، واختلف عن أبي يوسف ومحمد ، فروي عنهما مثل قول أبي حنيفة ، وروي عنهما : إن صلى بعرفات أجزأه ، وعلى مذهب الشافعي لا ينبغي أن يصليهما قبل جمع فإن فعل أجزأه ، وبه قال أبو ثور وأحمد وإسحاق ، وروي ذلك عن عطاء وعروة وسالم والقاسم وسعيد بن جبير ، وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال : لا صلاة إلا بجمع . ولا مخالف له من الصحابة فيما علمت [ ص: 162 ] قال أبو عمر : قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : " الصلاة أمامك " يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يصليهما إلا هناك ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : خذوا عني مناسككم ولم يصلهما إلا بالمزدلفة ، فإن كان له عذر فعسى الله أن يعذره ، وأما من لا عذر له فواجب أن لا تجزئه صلاته قبل ذلك الموضع على ظاهر هذا الحديث ، ومن أجاز الجمع بينهما قبل المزدلفة أو بعدها في غيرهما فإنه ذهب إلى أنه سفر ، وللمسافر الجمع بين الصلاتين على ما ذكرنا من أحكامهم وأقوالهم في كيفية الجمع بينهما للمسافر فيما سلف من كتابنا هذا ، وله أن لا يجمع بينهما ، لا يختلفون في ذلك للمسافر بغير عرفة والمزدلفة .

قال مالك : يجمع الرجل بين الظهر والعصر يوم عرفة إذا فاته ذلك مع الإمام ، قال : وكذلك المغرب والعشاء يجمع أيضا بينهما بالمزدلفة من فاته ذلك مع الإمام .

قال : وإن احتبس إنسان دون المزدلفة لموضع عذر جمع بينهما أيضا قبل أن يأتي المزدلفة ، ولا يجمع بينهما حتى يغيب الشفق ، قال أبو حنيفة : لا يجمع بينهما إلا من صلاهما مع الإمام يعني صلاتي عرفة ، وصلاتي المزدلفة ، قال : وأما من صلى وحده [ ص: 163 ] فلا يصلي كل صلاة منهما إلا لوقتها ، وكذلك قال الثوري : قال : إن صليت في رحلك فصل كل صلاة لوقتها .

وقال الشافعي ، وأبو يوسف ومحمد ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وإسحاق : جائز أن يجمع بينهما من المسافرين من صلى مع الإمام ، ومن صلى وحده إذا كان مسافرا ، وعلتهم في ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما جمع بينهما من أجل السفر فلكل مسافر الجمع بينهما ، وكان عبد الله بن عمر يجمع بينهما وحده ، وهو قول عطاء .

وقد ذكرنا حكم الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة ، وحكم الأذان بينهما والإقامة ، ومن أجاز أن تناخ الإبل ، وغير ذلك بينهما ، ومن لم يجز ذلك ، وما للعلماء في ذلك كله من الأقوال والاعتلال من جهة الأثر ، والنظر في باب ابن شهاب عن سالم من كتابنا هذا فلذلك لم نذكره هاهنا ، وبالله توفيقنا .

وفي هذا الحديث أيضا دلالة واضحة على أن الجمع في ذلك توقيف منه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 164 ] ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - لأمامة حين قال له : الصلاة يا رسول الله فقال له : " الصلاة أمامك " يريد موضع الصلاة أمامك ، وهذا بين لا إشكال فيه ، وهو أمر مجتمع عليه ، وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن من السنة لمن جمع بين الصلاتين أن لا يتنفل بينهما .

( روى سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن عكرمة قال : اتخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتخذتموه مصلى يعني الشعب ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية