التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
740 [ ص: 165 ] حديث ثان لموسى بن عقبة .

مالك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله ، أنه سمع أباه يقول : بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة .


قال أبو عمر : هكذا روى هذا الحديث جماعة الرواة للموطأ ( عن مالك رحمه الله ) وكذلك رواه ابن عيينة كما رواه مالك سواء بلفظ واحد ، وبإسناده قال فيه : سمعت موسى سمع سالما : سمعت ابن عمر فذكره ، ورواه شعبة عن موسى بن عقبة فخالفهما في معناه ( وسنذكر ذلك في هذا الباب إن شاء الله ) وأما قوله في هذا الحديث : بيداؤكم فإنه أراد موضعكم الذي [ ص: 166 ] تزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يهل إلا منه قال ذلك ابن عمر منكرا لقول من قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أهل في حجته حين أشرف على البيداء ، والبيداء الصحراء يريد بيداء ذي الحليفة ، وأما قوله : ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالإهلال في الشريعة هو الإحرام بالحج ، وهو التلبية بالحج أو العمرة ، وهو قول لبيك اللهم لبيك ، وينوي ما شاء من حج أو عمرة ، وأكثر الفقهاء يقولون : إن الإحرام فرض من فرائض الحج ، وركن من أركانه ، إما بالقول والنية جميعا ، وإما بالنية على حسب اختلافهم في ذلك ، مما سنذكره في باب نافع عند ذكر ( حديث ) التلبية في كتابنا هذا إن شاء الله .

( واتفق مالك بن أنس والشافعي ) على أن النية في الإحرام تجزئ عن الكلام ) وناقض ( في هذه المسألة ) أبو حنيفة فقال : إن الإحرام عنده من شرط التلبية ، ولا يصح إلا بالنية كما لا يصح الدخول في الصلاة إلا بالنية ، والتكبير ثم قال : [ ص: 167 ] فيمن أغمي عليه فأحرم عنه أصحابه ، ولم يفق حتى ( فاته ) الوقوف بعرفة أنه يجزيه إحرام أصحابه عنه ، وبه قال الأوزاعي . وقال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد : من عرض له هذا فقد فاته الحج ، ولا ينفعه إحرام أصحابه عنه ، قالوا : وناقض مالك فقال : من أغمي عليه فلم يحرم فلا حج له ، ومن وقف بعرفة مغمى عليه أجزأه ، وقال بعض أصحابنا : ليس بتناقض ; لأن الإحرام لا يفوت إلا بفوت عرفة ، وحسب المغمى عليه أن يحرم إذا أفاق قبل عرفة ، فإذا أحرم ثم أغمي عليه فوقف به مغمى عليه أجزأه من أجل أنه على إحرامه .

قال أبو عمر : الذي يدخل علينا في هذا أن الوقوف بعرفة فرض فيستحيل أن يتأدى من غير قصد إلى أدائه كالإحرام سواء ، وكسائر الفروض لا تسقط إلا بالقصد إلى أدائها بالنية ، والعمل هذا هو الصحيح في هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

ووافق أبو حنيفة مالكا فيمن شهد عرفة مغمى عليه ، ولم ينو حتى انصدع الفجر ، وخالفهما الشافعي فلم يجز للمغمى عليه ، وقوفه بعرفة حتى يصح ويفيق عالما بذلك قاصدا إليه ، وبقول الشافعي قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ، وأكثر الناس . وسنذكر التلبية ، وحكمها في باب نافع من كتابنا هذا ، إن شاء [ ص: 168 ] الله ، وأصل الإهلال في اللغة رفع الصوت ، وكل رافع صوته فهو مهل ، ومنه قيل للطفل إذا سقط من بطن أمه فصاح قد استهل صارخا ، والاستهلال والإهلال سواء ، ومنه قول الله عز وجل ( وما أهل به لغير الله ) لأن الذابح منهم كان إذا ذبح لآلهة سماها ، ورفع صوته بذكرها ، وقال النابغة :


أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد

.

يعني بإهلاله رفعه صوته بالحمد والدعاء إذا رآها ، وقال ابن أحمر :


يهل بالغرقد ركبانها     كما يهل الراكب المعتمر

.

واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لحجته من أقطار ذي الحليفة ، ولا خلاف أن ميقات أهل المدينة ذو الحليفة ، وسنذكر المواقيت وما للعلماء في حكمها ، في باب نافع من كتابنا هذا إن شاء الله .

فقال قوم : أحرم من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه ، وقال آخرون : لم يحرم إلا من بعد أن استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد ، وقال آخرون : إنما أحرم حين أظل على البيداء فأشرف عليها [ ص: 169 ] وقد أوضح ابن عباس المعنى في اختلافهم رضي الله عنه ، فأما الآثار التي ذكر فيها أنه أهل حين أشرف على البيداء ، فأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا النضر قال : أخبرنا أشعث بن عبد الملك ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالبيداء ثم ركب ، وصعد جبل البيداء ، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : أخبرنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا أشعث ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر ثم ركب راحلته ، فلما علا على البيداء أهل .

وقرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا أبو قلابة قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم من البيداء ، وربما قال : من المسجد ، حين استوت به راحلته ، ورواية شعبة لهذا الحديث عن موسى بن عقبة مخالفة ، لرواية مالك عنه بإسناد واحد .

[ ص: 170 ] وروى مالك عن سعيد المقبري ، عن عبيد بن جريج أنه سمع عبد الله بن عمر يقول : لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته . وابن جريج ، وغيره عن محمد بن المنكدر عن أنس ، مثله بمعناه ومحمد بن إسحاق ، عن أبي الزناد ، عن عائشة بنت سعد ، عن أبيها قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته ، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على البيداء .

ففي هذه الآثار كلها الإهلال بالبيداء ، وهي مخالفة لحديث مالك في هذا الباب .

وقد ذكر هذه الآثار كلها أبو داود ، وهي آثار ثابتة ، صحاح من جهة النقل ، وحديث ابن عباس يفسر ما أوهم الاختلاف منها .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر بن عبد الرزاق قال : حدثنا سليمان بن الأشعث قال : حدثنا محمد بن منصور قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، قال : حدثني أبي ، عن ابن إسحاق قال : حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري ، عن سعيد بن جبير قال : [ ص: 171 ] قلت لعبد الله بن عباس : يا أبا عباس ، عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أوجب ، فقال : إني لأعلم الناس بذلك ; خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجا فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتين أوجبه مجلسه ، فأهل بالحج حين فرغ من الركعتين فسمع منه أقوام فحفظ عنه ، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به راحلته يهل ، فقالوا : إنما أهل حين استقلت به ناقته ، ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما وقف على شرف البيداء أهل ( بها وأدرك ذلك منه أقوام ، فقالوا : إنما أهل حين علا على شرف البيداء ) فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه .

قال أبو عمر : قد بان بهذا الحديث معنى اختلاف الآثار في هذا الباب ، وفيه تهذيب لها ، وتلخيص وتفسير لما كان ظاهره الاختلاف منها ، والأمر في هذا عند جميع العلماء ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية