التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
269 [ ص: 240 ] حديث أول لنافع عن ابن عمر .

مالك عن نافع ، وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى .


لم يختلف الرواة عن مالك في هذا الحديث ، وكل من رواه عنه فيما علمت من رواة الموطأ وغيرهم ، هكذا قالوا فيه عنه صلاة الليل مثنى مثنى ، إلا الحنيني وحده ، فإنه روى هذا الحديث عن مالك والعمري جميعا عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فزاد فيه ذكر النهار ، وذلك خطأ عن مالك لم يتابعه أحد عنه على ذلك .

والحنيني ضعيف كثير الوهم والخطأ ، والعمري هذا هو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، [ ص: 241 ] أخو عبيد الله بن عمر ضعيف أيضا ليس بحجة ( عندهم لتخليطه في حفظه ) فأما أخوه عبيد الله بن عمر فثقة أحد الجلة من أصحاب نافع ، ورواية عبيد الله بن عمر لهذا الحديث عن نافع كرواية مالك : صلاة الليل مثنى ( مثنى ) ، ولم يذكر النهار ، وكذلك رواية أيوب السختياني له أيضا عن نافع لم يذكر النهار ، هؤلاء هم الحجة في نافع ، فأما رواية عبيد الله فحدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا أحمد بن عمر بن منصور قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر عن صلاة الليل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما قد صلى .

وأما رواية أيوب فحدثنا عبد الوارث بن سفيان : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا أحمد بن يزيد المعلم : حدثنا يزيد بن محمد عن إسماعيل ، ويزيد بن زريع جميعا عن أيوب عن نافع عن ابن عمر ، أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فذكر مثله سواء لم يذكر النهار ، ولا يصح عن نافع في هذا [ ص: 242 ] الحديث غير ذلك ، وكذلك عبد الله بن دينار ، ولا يصح عنه غير ذلك أيضا كما قال مالك ( عنه ) .

حدثنا سعيد بن نصر : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل : حدثنا الحميدي : حدثنا سفيان قال : حدثنا عبد الله بن دينار قال : سمعت ابن عمر يقول سمعت رجلا يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر كيف يصلي أحدنا بالليل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما مضى من صلاتك قال سفيان : وهذا أجودها .

قال أبو عمر : عند سفيان بن عيينة في هذا الحديث أسانيد منها عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عمر ، وعبد الله بن أبي لبيد عن أبي سلمة عن ابن عمر ، والزهري عن سالم عن ابن عمر ، وقال في حديثه هذا : عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه أجودها ، وذلك ; لأن فيه سمعت وحدثنا ، ولأنه فيه أعلى من غيره ، والله أعلم ( وليس هذا الحديث عن الزهري إلا من رواية الوليد بن مسلم خاصة ) ، وقد روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة منهم نافع ، وعبد الله بن دينار ، وسالم وطاوس وأبو سلمة [ ص: 243 ] بن عبد الرحمن ، ومحمد بن سيرين ، وحبيب بن أبي ثابت ، وحميد بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن شقيق كلهم قال فيه عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل مثنى مثنى لم يذكروا النهار ، ورواه علي بن عبد الله الأزدي البارقي عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فزاد فيه ذكر النهار ، ولم يقله أحد عن ابن عمر غيره ، وأنكروه عليه .

واختلف الفقهاء في صلاة التطوع بالليل ، والنهار فقال مالك والليث بن سعد ، والشافعي ، وابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، وهو قول أبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وقال أبو حنيفة والثوري : صل بالليل والنهار إن شئت ركعتين ، وإن شئت أربعا أو ستا أو ثمانيا ، وقال الثوري : صل ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين ، وهو قول الحسن بن حي ، وقال الأوزاعي : صلاة الليل مثنى مثنى ، وصلاة النهار أربعا ، وهو قول إبراهيم النخعي ، ذكر ابن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم قال : صلاة الليل مثنى مثنى ، والنهار أربع أربع ركعات ، إن شاء لا يسلم [ ص: 244 ] إلا في آخرهن ، وقال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله ; يعني أحمد بن حنبل : يسأل عن صلاة الليل والنهار في النافلة فقال : أما الذي أختار فمثنى مثنى ، وإن صلى أربعا فلا بأس ، وأرجو أن لا يضيق عليه فذكر له حديث يعلى بن عطاء عن علي الأزدي فقال : لو كان ذلك الحديث يثبت . ومع هذا حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين في تطوعه بالنهار ، ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها ، والفجر ، والأضحى ، وإذا دخل المسجد صلى ركعتين فهذا أحب إلي ، وإن صلى أربعا فقد روي عن ابن عمر أنه كان يصلي أربعا بالنهار .

وقال ابن عون : قال لي نافع : أما نحن فنصلي بالنهار أربعا قال : فذكرته لمحمد فقال : لو صلى مثنى كان أجدر أن يحفظ ، وحدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا أبو طالب محمد بن زكرياء المقدسي ببيت المقدس قال : حدثنا أبو محمد مضر بن محمد قال : سألت يحيى بن معين عن صلاة الليل ، والنهار فقال : صلاة النهار أربعا لا يفصل بينهن ، وصلاة الليل ركعتين فقلت له : إن أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فقال : بأي حديث ؟ فقلت : بحديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي الأزدي عن ابن عمر أن النبي [ ص: 245 ] صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ، فقال : ومن علي الأزدي حتى أقبل منه هذا ، أدع يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن ، وآخذ بحديث علي الأزدي لو كان حديث علي الأزدي صحيحا لم يخالفه ابن عمر . قال يحيى : وقد كان شعبة ينفي هذا الحديث ، وربما لم يرفعه .

قال أبو عمر : قوله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل مثنى مثنى ، ( كلام ) خرج على جواب السائل كأنه قال له : يا رسول الله كيف نصلي بالليل ؟ فقال : مثنى مثنى ، ولو قال له وبالنهار : جاز أن يقول كذلك أيضا مثنى مثنى ، وما خرج على جواب السائل فليس فيه دليل على ما عداه ، وسكت عنه ; لأنه جائز أن يكون مثله ، وجائز أن يكون بخلافه .

وهذا أصل عظيم من أصول الفقه ، فصلاة النهار موقوفة على دلائلها ، فمن الدليل على أنها وصلاة الليل مثنى مثنى جميعا أنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين لم يخص ليلا من نهار .

[ ص: 246 ] حدثنا عبد الله بن محمد : حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود : حدثنا محمد بن المثنى : حدثنا معاذ : حدثنا شعبة عن عبد ربه بن سعد عن أنس بن أبي أنس عن عبد الله بن نافع عن عبد الله بن الحارث عن المطلب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الصلاة مثنى مثنى ، يتشهد في كل ركعتين وذكر الحديث ، ورواه الليث عن عبد ربه فخالف شعبة في إسناده ، وقد ذكرنا حديث الليث في باب موسى بن ميسرة ، ودليل آخر ، وهو ما رواه علي بن عبد الله الأزدي البارقي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى فزاد زيادة لا تدفعها الأصول ، ويعضدها فتيا ابن عمر الذي روى الحديث ، وعلم مخرجه ، فإنه كان يفتي بأن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى : حدثنا سعيد بن نصر : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع وغندر عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي الأزدي عن ابن عمر [ ص: 247 ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل والنهار ركعتان ركعتان وقال غندر : مثنى مثنى .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان : حدثنا قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن عبد السلام : حدثنا محمد بن بشار بندار : حدثنا محمد ، وعبد الرحمن قالا : حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء أنه سمع عليا الأزدي أنه سمع ابن عمر يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يسلم في كل ركعتين .

وذكر مالك في الموطأ أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى يسلم في كل ركعتين ، فهذه فتوى ابن عمر ، وهو روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل مثنى ، وعلم مخرجه وفهم مراده ، وحديث مالك هذا ، وإن كان من بلاغاته ، فإنه متصل عن ابن عمر رواه ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث عن بكر بن عبد الله بن الأشج ، أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدثه : أنه سمع ابن عمر يقول : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ; يعني التطوع ، ومن الدليل أيضا على أن صلاة النهار مثنى مثنى كصلاة الليل سواء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي [ ص: 248 ] قبل الظهر ركعتين ، وبعدها ركعتين ، وبعد الجمعة ركعتين ، وبعد المغرب ركعتين ، وركعتي الفجر ، وكان إذا قدم ( من سفر ) صلى في المسجد ركعتين قبل أن يدخل بيته ، وصلاة الفطر والأضحى والاستسقاء ، وقال : إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين ، ومثل هذا كثير .

ودليل آخر أن العلماء لما اختلفوا في صلاة النافلة بالنهار ، وقام الدليل على حكم صلاة النافلة بالليل ، وجب رد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه قياسا .

واختلف العلماء القائلون بأن صلاة الليل يجلس في كل ركعتين منها في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى مثنى ، هل يقتضي مع الجلوس تسليما أم لا ؟ فقال منهم قائلون : لا يقتضي قوله هذا إلا الجلوس دون التسليم ، فمن شاء أوتر بثلاث ومن شاء أوتر بخمس ، ومن شاء أوتر بسبع ، ومن شاء أوتر بتسع ، ومن شاء أوتر بإحدى عشر ركعة لا يسلم إلا في آخرهن .

وروي ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ، وهو قول الثوري ، وكان إسحاق ابن راهويه يقول : أما من أوتر أو خمس أو سبع أو تسع فإن شاء سلم بينهن ، وإن شاء لم يسلم إلا في آخرهن ، وأما من أوتر بإحدى عشرة ركعة فإنه يسلم في كل ركعتين ، ويفرد الوتر بركعة .

[ ص: 249 ] وحجة الثوري وأبي حنيفة وإسحاق ، ومن تابعهم في هذا الباب ، ما روي عن عائشة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ، منها حديث سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة لا يسلم إلا في آخرهن ، وألفاظ الأحاديث عن عائشة في ذلك مضطربة ( جدا ) وقد ذكرناها في باب ابن شهاب عن عروة ، وسيأتي منها ذكر في باب سعيد بن أبي سعيد ، وباب هشام بن عروة إن شاء الله .

وحديث ابن عمر هذا يقضي على ما اختلف فيه من حديث عائشة في هذا الباب ; لأن حديث ابن عمر لم يختلف فيه أن صلاة الليل مثنى مثنى ، وإنما اختلف في ذكر صلاة النهار ( فيه ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى مثنى يقتضي التسليم والجلوس في كل ركعتين منها ، وهذا هو الصواب ، إن شاء الله ، الذي لا يدل لفظ مثنى إلا عليه ; ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال : صلاة الظهر مثنى مثنى ، وإن كان يجلس في الركعتين منها ، وأجاز جماعة العلماء أن يكون الوتر ثلاث ركعات لا زيادة ، واختلفوا هل يفصل بين الركعتين والركعة بتسليم أم لا ; فقال [ ص: 250 ] منهم قائلون : الوتر ثلاث لا يفصل بينهن تسليم ، ولا يسلم إلا في آخرهن روي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأنس بن مالك ، وأبي أمامة ، وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والحسن بن حي . وقال الثوري أحب إلي أن يوتر لا يسلم إلا في آخرهن قال : وإن شئت أوترت بركعة ، وإن شئت بثلاث ، وإن شئت أوترت بخمس ، وإن شئت أوترت بسبع ، وإن شئت بتسع ، وإن شئت بإحدى عشرة لا تسلم إلا في آخرهن . قال : والذي أجمع عليه من الوتر أنه بثلاث .

وقال آخرون : يفصل بين الشفع والوتر بتسليم . روي عن ابن عمر رحمه الله أنه كان يسلم بين الركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته ، وروي مثل قول ابن عمر في الفصل بين الشفع والوتر بالتسليم عن عثمان بن عفان ، وعبد الله بن عباس ، وسعد بن مالك ، وزيد بن ثابت أيضا ، وأبي موسى الأشعري ، ومعاوية ، وعائشة ، وابن الزبير ، وفعله معاذ القاري مع رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قول سعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وقال الأوزاعي : إن فصل فحسن ( وإن لم يفصل فحسن ) ، وكل هؤلاء يجيزون الوتر بركعة [ ص: 251 ] غير أن مالكا ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق يستحبون أن يصلي ركعتين قبلها ثم يسلم ، ثم يوتر بركعة ، وكان مالك من بينهم يكره أن يكون الوتر ركعة واحدة منفردة لا يكون قبلها شيء ، وكان يجب على أصله في ( إجازته ) التسليم بين الشفع والوتر أن لا يكره الوتر بركعة مفردة ، وقد : حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا أحمد بن عبد الله ( بن محمد ) بن عبد المؤمن قال : حدثنا الفضل بن محمد الجندي قال : حدثنا علي بن زياد قال : حدثنا أبو قرة قال : سألت مالكا عن الرجل ينام حتى يصبح فقال لي : إن كان صلى من الليل شيئا فليوتره بركعة واحدة ، وإن كان لم يصل في ليلته تلك شيئا فليوتر يصلي ركعتين ، ثم يسلم ، ثم يوتر بواحدة ; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى . قال أبو عمر : وممن روي عنه أيضا أنه أجاز الوتر بركعة ليس قبلها شيء كأنه صلى العشاء ، ثم أوتر بركعة عثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وأبو موسى الأشعري ، وابن عباس ومعاوية ، وقد روي عن ابن عباس أنه قيل له أوتر معاوية بركعة ليس قبلها صلاة ، [ ص: 252 ] فقال : أصاب ، وروي عنه أيضا في ذلك أنه قال : أصاب السنة ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود بن علي ، وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : الوتر ثلاث يسلم في الركعتين قال : قال مالك في الإمام يوتر بالناس في رمضان فلا يسلم بين الشفع والوتر : أرى أن يصلى خلفه فلا يخالف ، قال مالك : وكنت مرة أصلي خلفهم ، فإذا كان الوتر انصرفت ، ولم أوتر معهم ، وقد رد هذا على مالك بعض المتأخرين قال : الوتر معهم أفضل على كل حال ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتبت له بقية ليلته وقال الشافعي : الذي أختار للمصلي أن يصلي إحدى عشرة ركعة ، يوتر منها بواحدة ، فإن صلى دون ذلك ركعتين ركعتين ، وأوتر بواحدة ، وسلم من كل ركعتين ، وسلم بين الركعتين ، وركعة الوتر فحسن ، وإن أوتر بواحدة ليس قبلها شيء فلا حرج ، قال : وأحب الوتر إلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ، ويسلم في كل ركعتين منها ، ويفصل بين الوتر ، وبين ما قبله بسلام .

[ ص: 253 ] قال أبو عمر : قوله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى مثنى يوجب أن يجلس المصلي في كل ركعتين منها ، ويسلم لا يجوز غير ذلك ; لأنه لا يجوز أن يقال : صلاة الظهر مثنى ( مثنى ) ، ولا صلاة العصر مثنى ( مثنى ) ، وقوله : فإذا خفت الصبح ( أوترت ) بواحدة توتر به ما صليت يوجب أن يكون الوتر واحدة منفردة ، وإذا جازت الركعة بعد صلاة جازت دونها ; لأنها منفصلة بالسلام منها ، وقد ذكرنا من أجاز ذلك ، وفعله من الصحابة رضي الله عنهم ، وسائر العلماء ، وأما كراهية مالك وأصحابه الوتر بركعة ليس قبلها شيء ; فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث توتر له ما قد صلى ، ومن لم يصل قبل الركعة شيئا فأي شيء توتر له ، والوتر عندهم إنما يكون لصلاة تقدمته ألا ترى إلى قول ( ابن ) عمر رحمه الله : صلاة المغرب توتر ( صلاة ) النهار ، وقد روي عن ابن مسعود في هذا المعنى ما أجزت ركعة قط سماها البتراء ، وأما الشافعي فقال : لو تنفل أحد بركعة لم أعنفه ، ولو دخل المسجد فحياه بركعة لم أعب عليه ذلك ، وركعة أحب [ ص: 254 ] إلي من أن لا يصلي شيئا ، ولست آمرا أحدا ابتداء أن يصلي ركعة واحدة يتنفل بها في غير الوتر ، فإن فعل أعنفه ; لأن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أوتروا بركعة ليس قبلها شيء ، والوتر نافلة فكذلك التنفل ، وقال مالك وأصحابه أقل النافلة ركعتان ، ولا يتنفل أحد بركعة لا في تحية المسجد ، ولا في الوتر أيضا حتى يكون قبل ذلك شفع أقله ركعتان ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري .

( أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الحسن بن سليمان قبيطة : حدثنا عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء ; أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها ، هو عثمان بن محمد بن أبي ربيعة بن عبد الرحمن قال العقيلي الغالب على حديثه الوهم ) .

[ ص: 255 ] واختلف العلماء أيضا في الوتر بعد الفجر ما لم يصل الصبح فقال منهم قائلون : إذا انفجر الصبح فقد خرج وقت الوتر ، ولا يصلى الوتر بعد انفجار الصبح روي ذلك عن ابن عمر ، وعطاء ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وإسحاق ابن راهويه ، إلا أن أبا حنيفة كان يقول : إذا طلع الفجر فقد خرج وقت الوتر ، وعليه قضاؤه ; لأنه واجب عنده ، ومن حجة من جعل وقت الوتر آخر طلوع الفجر قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر هذا فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة ، وحجتهم أيضا ما ذكره عبد الرزاق ، وغيره عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : من صلى الليل فليجعل آخر صلاته ، وترا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك ، فإذا كان الفجر فقد ذهبت صلاة الليل ، والوتر فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أوتروا قبل الفجر ، وقال آخرون : وقت الوتر ما بين صلاة العشاء إلى أن تصلي الصبح ، وممن أوتر بعد الفجر عبادة ، وابن عباس ، وأبو الدرداء ، وحذيفة ، وابن مسعود ، وعائشة ، وقد روي ذلك عن ابن عمر أيضا ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ، كلهم يقول : يوتر ما لم يصل الصبح [ ص: 256 ] واختلف في هذه المسألة عن الأوزاعي وأبي ثور ، وكذلك اختلف فيها عن الشعبي ، والحسن ، والنخعي فروي عنهم القولان جميعا ، وقال أيوب السختياني ، وحميد : إن أكثر وترنا لبعد الفجر ، ومن أهل العلم طائفة رأت الوتر بعد طلوع الشمس ، وبعد صلاة الصبح ، وهو قول ليس عليه العمل عند الفقهاء إلا ما ذكرنا عن أبي حنيفة ، ومن قال بقوله في إيجاب الوتر ، وقد أوضحنا خطأه في ذلك في غير موضع من كتابنا هذا ، وبالله توفيقنا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا حامد بن يحيى وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قالا جميعا : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثنا حامد عن الزهري عن سالم عن أبيه ، وقال : سمعت الزهري عن سالم عن أبيه قال : سمعت رسول الله [ ص: 257 ] - صلى الله عليه وسلم - يقول : صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة وربما قال بركعة .

حدثني خلف بن قاسم قراءة مني عليه أن أبا طالب محمد بن زكرياء المقدسي حدثه ببيت المقدس قال : ( حدثنا ) محمد بن أحمد بن برد قال : حدثنا محمد بن المبارك الصوري قال : حدثنا معاوية بن سلام قال : حدثني يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، ونافع مولى ابن عمر ( عن عبد الله بن عمر ) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول صلاة الليل ركعتان فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة ، ومما يحتج به أيضا في أن الركعة في الوتر لا تكون منفردة لا شيئ قبلها ما أخبرنا به محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا الفضل بن عياض عن هشام عن ابن سيرين عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ص: 258 ] صلاة المغرب وتر ( صلاة ) النهار أرسله عن ابن سيرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ووقفه ) مالك عن نافع عن ابن عمر قوله ، ومن حجة من أجاز الوتر بواحدة ليس قبلها شيء ما رواه همام عن قتادة عن عبد الله بن ( شقيق ) عن ابن عمر أن رجلا من أهل البادية سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل فقال بإصبعيه هكذا ، مثنى مثنى ، والوتر ركعة من آخر الليل ، وروى وهب بن جرير عن أبي التياح عن أبي مجلز عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الوتر ركعة من آخر الليل ، وروى القطان عن شعبة عن قتادة عن أبي مجلز عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الوتر ركعة من آخر الليل وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الرحمن [ ص: 259 ] بن المبارك قال : حدثنا قريش بن حيان العجلي قال : حدثنا بكر بن وائل عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل وتابعه الأوزاعي : حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : ( أنبأنا ) العباس بن الوليد بن يزيد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثني الزهري قال : حدثني عطاء بن يزيد عن أبي أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الوتر حق فمن شاء أوتر بخمس ، ومن شاء أوتر بثلاث ، ومن شاء أوتر بواحدة ، ورواه ابن عيينة عن الزهري عن عطاء بن يزيد موقوفا من قوله : وزاد ، ومن غلب عليه فليومئ إيماء .

وذهب النسائي إلى أن الصحيح عنده موقوف ، وخرجه أبو داود مرفوعا كما ذكرنا عنه ، وهو أولى إن شاء الله ، وقد شبه على قوم من متقدمي الفقهاء مثل هذا الحديث وشبهه فقالوا : الوتر واجب .

[ ص: 260 ] وفي حديث الأعرابي في حديث ( طلحة ) بن عبيد الله في الخمس هل علي غيرها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ، إلا أن تطوع ، دليل على أن لا فرض إلا الخمس ، وسنوضح هذا المعنى بما يجب من القول فيه بعد ذكر الاختلاف في ذلك ، ونبين الصحيح فيه عندنا في باب أبي سهيل نافع من كتابنا هذا إن شاء الله .

وقد حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا محمود بن غيلان قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي قال : ليس الوتر بحتم مثل المكتوبة ، ولكنه سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن حديث أبي إسحاق أيضا عن عاصم بن ضمرة عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أوتروا يا أهل القرآن ; فإن الله وتر يحب الوتر والذين أوجبوه لم يخصوا بوجوبه صاحب القرآن من غيره ، وقد يحتمل أن يكون أهل القرآن هاهنا أهل الإسلام ، ولكن الظاهر غير ذلك .

وفي حديث طلحة ، وعبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مع قول الله عز وجل ( والصلاة الوسطى ) ما يغني عن قول كل قائل ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية