التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1303 [ ص: 299 ] حديث خامس لنافع عن ابن عمر .

مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمشتري .


قد مضى القول في فقه هذا الحديث في باب حميد الطويل من كتابنا هذا ، ورواه أيوب عن نافع فزاد فيه ألفاظا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى تزهي ، وعن السنبل حتى يبيض ، نهى البائع والمشتري .

[ ص: 300 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال : حدثنا ابن عيينة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى تزهو ، وعن السنبل حتى يبيض وتأمن العاهة ، نهى البائع والمشتري .

وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد ، وقد كان الشافعي مرة يقول : لا يجوز بيع الحب في سنبله ، وإن اشتد واستغنى عن الماء ، ثم بلغه هذا الحديث فرجع إلى القول به ، وأجاز بيع الحنطة زرعا في سنبله قائما على ساقه إذا يبس ، واستغنى عن الماء كقول سائر العلماء ، وهو ما لا خلاف فيه عن جماعة فقهاء الأمصار ، وأهل الحديث .

وقد روي عن ابن شهاب أنه أجاز بيعه فريكا قبل أن يشتد ، وخالفه مالك وغيره ، ومالوا إلى ظاهر الحديث " حتى يبيض ويشتد ويستغني عن الماء " .

ومن قول الشافعي أن كل ثمرة وزرع دونها حائل من قشر أو أكمام ، وكانت إذا صارت إلى مالكيها أخرجوها من قشرها وأكمامها ، ولم تفسد بإخراجهم لها ، قال : فالذي أختار فيها أن لا يجوز بيعها في شجرها ، ولا موضوعة بالأرض للحائل دونها ، وحجته في ذلك الإجماع على لحم الشاة المذبوحة غير المسلوخة [ ص: 301 ] أنه لا يجوز بيعه حتى تسلخ ، ويخرج من الجلد قال : ولم أجد أحدا من أهل العلم التابعين أخذ عشر الحنطة في أكمامها ، ولا عشر الحبوب ذوات الأكمام ، ولا بيعها محصودة مدروسة في التبن غير منقاة .

قال أبو عمر : لم يجمعوا على كراهية بيع الشاة المذبوحة قبل السلخ ; لأن أبا يوسف يجيز بيعها كذلك ، ويرى السلخ على البائع ، وأجاز بيع الطعام في سنبله ، وجعل على البائع تخليصه من تبنه وتمييزه ، والذي حكى الشافعي عليه الجمهور .

وذكر ابن وهب في موطئه عن مالك أنه سئل عن الدالية تكون على واحدة فيطيب منها العنقود والعنقودان فقال مالك : إذا كان طيبه متتابعا فاشيا فلا بأس بذلك قال : ، وربما أزهى بعض الثمر واستأخر بعضه جدا فهو الذي يكره . قال : وسئل مالك عن الرجل يبتاع الحائط فيه أصناف من الثمر قد طاب بعضه ، وبعضه لم يطب فقال : ما يعجبني قال : وسئل مالك عن بيع الأعناب والفواكه من الثمار فقال : إذا طاب أولها وأمن عليها العاهة فلا بأس ببيعها قال : وسئل عن الحائط الذي تزهي فيه أربع نخلات أو خمس ، وقد تعجل زهوه قبل الحوائط أترى أن تباع ثمرته ؟ قال : نعم لا بأس به ، وإن [ ص: 302 ] تعجل قبل الحوائط قال : وسئل عن الحائط ليس فيه زهو ، وما حوله قد أزهى أترى أن تباع ثمره وليس فيه زهو ؟ قال : نعم لا أرى به بأسا إذا كان الزمن قد أمنت فيه العاهات فأزهت الحوائط حوله ، وإن لم يزه هذا ; لأن منها ما يتأخر قال : وسئل عن الرجل يبيع الثمار من النخيل والأعناب بعد أن تطيب على من سقيها فقال : سقيها على البائع قال : ولولا أن السقي على البائع ما اشتراه المشتري قال : وقال مالك : توضع الجائحة في الثمرة إذا كانت من قبل الماء قليلة كانت أو كثيرة ، وإن كانت أقل من الثلث قال : وليس الماء كغيره ; لأن ما جاء من قبل الماء فكأنه جاء من قبل البائع .

وقال الشافعي : لو كان لرجل حائط آخر فأزهى حائط جاره إلى جنبه ، فأزهى حائط جاره إلى جنبه ، وبدا صلاحه حل بيعه ، ولم يحل بيع هذا الحائط الذي لم يبد صلاح أوله ، قال : وأقل ذلك أن تزهي في شيء منه الحمرة أو الصفرة ، ويؤكل شيء منه .

قال أبو عمر : قد مضى القول في هذا الباب مستوعبا ، وفي الجائحة فيه ، وفي أكثر معانيه في باب حميد الطويل من كتابنا هذا ، وجرى منه ذكر صالح في باب أبي الرجال منه أيضا ، وذكرنا منه هاهنا ما لم يقع ذكره في ذينك البابين .

[ ص: 303 ] وأما الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب فمختلفة الألفاظ متفقة المعاني متقاربة الحكم ، بعضها فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، وفي بعضها حتى تطعم ، وفي بعضها حتى تزهي ، وفي بعضها حتى تحمر وتصفر ، وفي بعضها حتى تشقح ، ومعنى تشقح عندهم تحمر أو تصفر ويؤكل منها ، وفي بعضها طلوع الثريا ، وهي ثابتة محفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وأبي هريرة وجابر وابن عباس وأبي سعيد الخدري ، وغيرهم .

ولا خلاف بين العلماء أن جميع الثمار داخل في معنى تمر النخل ، وأنه إذا بدا صلاحه ، وطاب أوله حل بيعه ، وإنما اختلف مالك والشافعي في الحائط إذا أزهى غيره قربه ، ولم يزه هو ، هل يحل بيعه ؟ على ما ذكرنا عنهما ، وقد روي عن مالك مثل قول الشافعي ، والأول عنه أشهر .

وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن الزمن إذا جاء منه ما يؤمن معه على الثمار العاهة ، وبدا صلاح جنس ونوع منها جاز بيع ذلك الجنس ، والنوع حيث كان من تلك البلدة ، وكان يلزم الشافعي أن يقول مثل قول مالك هذا ، قياسا على قوله في الحائط إذا تأخر إباره وأبر غيره ، فإنه راعى الوقت في ذلك دون الحائط ، وراعى في بيع الثمار الحائط بنفسه ، وهو أمر متقارب واحد منهما وجه تدل عليه ألفاظ الأحاديث لمن تدبرها ، وذلك واضح يغني عن القول فيه .

[ ص: 304 ] حدثنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا روح قال : حدثنا زكرياء بن إسحاق قال : حدثنا عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها .

حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن محمد الخصيبي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي قال : حدثنا حامد بن يحيى البلخي بطرطوس سنة ثلاث وثلاثين ( ومائتين ) قال : أنبأنا عبد الله بن الحارث المخزومي قال : حدثنا شبل بن عباد المكي عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها .

وحدثنا عبد الله بن محمد ( قال ) : حدثنا محمد بن بكر ( قال ) : حدثنا سليمان بن الأشعث ( قال ) : حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان بن حبان عن سعيد ( بن ) مينا قال : [ ص: 305 ] سمعت جابر بن عبد الله يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الثمرة حتى تشقح ، قيل : وما تشقح ؟ قال : تحمار وتصفار ويؤكل منها .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا هشام الدستوائي قال : حدثنا أبو الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى تطعم .

ويجوز عند مالك ، وأصحابه بيع المغيب في الأرض نحو الفجل والجزر واللفت حين يبدو صلاحه ويؤكل منه ، ويكون ما قام منه ليس بفساد ، وكذلك البقول يجوز فيها بيعها إذا بدا صلاحها وأكل منها ، وكان ما قلع منها ليس بفساد ، ولا يجوز عند الشافعي بيع شيء مغيب في الأرض حتى يقلع وينظر إليه .

وجائز عند أبي حنيفة بيع الفجل والجزر والبصل ونحوه مغيبا في الأرض ، وله الخيار إذا قلعه ورآه .

[ ص: 306 ] هذا إذا قلعه البائع فإن خلى بينه ، وبين المشتري فقلعه المشتري فلم يرضه فإن كان القلع لم ينقصه فله الخيار ، وإن كان نقصه القلع بطل خيار الرؤية ، ولا خلاف بين العلماء في بيع الثمار والبقول والزرع على القلع ، وإن لم يبد صلاحه إذا نظر إلى المبيع منه وعرف قدره .

التالي السابق


الخدمات العلمية