التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
987 [ ص: 35 ] حديث رابع عشر لنافع عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر . فغنموا إبلا كثيرة ، وكانت سهامهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا ، بعيرا .


هكذا رواه يحيى ، عن مالك على شك في أحد عشر بعيرا ، أو اثني عشر بعيرا . وتابعه على ذلك جماعة رواة الموطأ ، منهم : القعنبي ، وابن القاسم ، وابن وهب ، وابن بكير ، ومطرف ، وغيرهم إلا الوليد بن مسلم ، فإنه رواه عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ; وقال فيه : فكانت سهامهم اثني عشر بعيرا . ونفلوا بعيرا ، بعيرا ، دون شك وأظنه حمله على رواية شعيب بن أبي حمزة لهذا الحديث ، فإنه عند الوليد ، عن شعيب ، عن نافع ، [ ص: 36 ] عن ابن عمر ، اثني عشر بعيرا ، بلا شك . فحمل حديث مالك على ذلك . وهو غلط منه ، - والله أعلم - .

وأما أصحاب نافع ، منهم أيوب ، وعبد الله ، وغيرهم ، فإنهم قالوا اثني عشر بعيرا بغير شك ، لم يشك واحد منهم في مالك وحده ; وذكر أبو داود حديث مالك عن القعنبي ، عن مالك ، فجمعه مع حديث الليث ، ذكره عن يزيد بن موهب ، عن الليث عن مالك ، والليث ، جميعا عن نافع ، عن ابن عمر ، اثني عشر بعيرا ( دون شك ) . وهذا أيضا مما حمل فيه حديث مالك على حديث الليث ، لأن القعنبي رواه في الموطأ عن مالك ، على الشك في اثني عشر بعيرا . أو أحد عشر بعيرا - كما رواه يحيى ، وغيره ; فلا أدري جاء هذا حين خلط حديث الليث بحديث مالك ، أم من أبي داود ؟ [ ص: 37 ] حدثنا خلف بن سعيد بن أحمد ، وعبد الله بن محمد بن يوسف ، قالا حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال حدثنا أحمد بن خالد ، قال حدثنا علي بن عبد العزيز البغوي ، قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : كان مالك بن أنس حدثنا عن نافع ، عن ابن عمر ، عن بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم في سرية قبل نجد ، قال ابن عمر : فغنمنا غنائم كثيرة ، فكانت سهامنا من الجيش اثني عشر بعيرا . اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا .

وحدثنا محمد بن عبد الله بن حكم ، قال حدثنا محمد بن معاوية ، قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي ، قال حدثنا هشام بن عمار ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، أنه سمع نافعا ، يحدث عن ابن عمر ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد أربعة آلاف ، قال عبد الله : فاتبعت تلك السرية فكنت فيمن خرج فيها ، فبلغت سهمان [ ص: 38 ] الجيش اثني عشر بعيرا ، ونفل أهل السرية بعيرا ، بعيرا . قال الوليد بن مسلم : وحدثنا الليث بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : بلغت سهمان السرية اثني عشر بعيرا . ونفلنا بعيرا ، بعيرا ، فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي ، حدثنا مبشر ، وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا محمد بن عوف الطائي ، حدثنا [ ص: 39 ] الحكم بن نافع ، كلهم عن شعيب بن أبي حمزة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيش قبل نجد ، وانبعثت سرية من الجيش ، فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ، اثني عشر بعيرا ، ونفل أهل السرية بعيرا ، بعيرا ، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا .

قال أبو داود : وحدثنا الوليد بن عتبة الدمشقي ، قال : قال الوليد - يعني ابن مسلم : حدثت ابن المبارك بهذا الحديث ، قلت وكذا حدثنا ابن أبي فروة ، عن نافع ، فقال لا يعدل من سميت بمالك ، هكذا أو نحوه .

قال أبو عمر إنما قال ابن المبارك هذا القول ، لأن شعيب بن أبي حمزة ، خالف مالكا في معنى هذا الحديث ; لأن مالكا جعل الاثني عشر بعيرا من سهمان السرية ، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثها ، وأن القسمة والنفل كان كل ذلك لها ، لا يشركها فيه جيش ولا غيره ، وجعل شعيب بن أبي حمزة السرية منبعثة من جيش ، وأن قسمة ما غنموا كان [ ص: 40 ] بين أهل العسكر وأهل السرية ، وأن أهل السرية فضلوا على الجيش بعيرا ، بعيرا ، لموضع شخصهم ونصبهم ; وهذا حكم آخر عند جماعة الفقهاء ، إلا أنهم لا يختلفون أن كل ما أصابته السرية شركهم فيه أهل الجيش ; وكذلك ما صار لأهل العسكر شركهم فيه أهل السرية ; لأن كل واحد منهم رده لصاحبه ، إلا ما كان من النفل الجائز لأهل العسكر وللسرايا - على حسب ما بين ( من ذلك ) في هذا الباب - إن شاء الله .

وحديث الليث ، ومالك ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب عن نافع ، يدل على أن الاثني عشر بعيرا ، كان سهمان السرية ، وأنهم هم الذين نفلوا مع ذلك بعيرا ، بعيرا . إلا أن في حديث الليث دليلا على أن الأمير نفلهم ولقوله : فلم يغير ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفي حديث عبيد الله بن عمر ; فنفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ، [ ص: 41 ] بعيرا . وقد يحتمل أن يكون قوله نفلنا بمعنى : أجاز ذلك لنا ، وذكر محمد بن إسحاق في هذا الحديث ، أن الأمير نفلهم قبل القسم ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم ذلك بينهم ، فأصابهم اثني عشر بعيرا لكل واحد منهم سوى البعير الذي نفلوه قبل ، وهذا نفل من رأس الغنيمة ، وهو خلاف قول مالك .

فأما رواية الليث ، فأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال حدثنا علي بن عاصم ، قال حدثنا الليث بن سعد عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر ، وأن سهمانهم بلغت اثني عشر بعيرا ، ونفلوا سوى ذلك بعيرا ، بعيرا ، فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا القضبي ، ويزيد بن موهب ، [ ص: 42 ] قالا حدثنا الليث ، قال أبو داود : وحدثنا القضبي عن مالك ، المعنى عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد ، فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا ، زاد ابن موهب فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأما رواية أيوب ، فأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا بكر بن حماد ، قال حدثنا مسدد قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية - وكنت فيهم فبلغ سهماننا اثني عشر بعيرا ، ونفلنا بعيرا بعيرا .

وأما رواية عبيد الله بن عمر ، فأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، وأخبرنا عبد الوارث ، قال حدثنا قاسم و قال حدثنا بكر بن حماد ، قالا حدثنا مسدد ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، وعبد الرحمن بن [ ص: 43 ] خالد ، قالا حدثنا أحمد بن حمدان ، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدثني أبي ، قالا جميعا ، حدثنا يحيى وهو ابن سعيد القطان ، عن عبيد الله بن عمر ، قال أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا ، ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ، بعيرا . قال أبو داود : وكذا رواه برد بن سنان ، عن نافع ، كما قال عبيد الله : ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ، بعيرا . وقال أيوب : نفلنا ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر : قد مضى القول في هذا وقد ، روينا من حديث إسماعيل بن أمية ، عن نافع كما قال عبيد الله ، إلا أنه لفظ اختلف فيه على إسماعيل أيضا : فرواه أبو إسحاق الفزاري ، عن إسماعيل بن أمية ، وعبيد الله بن عمر جميعا ، ( عن نافع ) ، عن ابن عمر ، بلفظ واحد : ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 44 ] حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الفراء ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن إسماعيل بن أمية ، وعبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا ، ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا بعيرا .

وحدثنا يعيش بن سعيد ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، قال حدثنا أبو حذيفة ، قال حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن إسماعيل بن أمية ، قال : قال نافع : قال عبد الله بن عمر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعث سرية قبل نجد فيهم عبد الله بن عمر ، فحدث عبد الله بن عمر ، أن سهمانهم كانت اثني عشر بعيرا ، [ ص: 45 ] ، ونفلوا سوى ذلك بعيرا بعيرا . وأبو إسحاق مع فضله ، وأبو حذيفة ، يخطئان كثيرا في الحديث .

فأما محمد بن إسحاق فأوضح هذا المعنى ، إلا أنه جعل القاسم لهذه القسمة ; رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد تنفيل أميرهم إياهم البعير : أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا محمد بن الجهم ، قال حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال حدثنا محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ، فأصبنا نعما كثيرة ، فنفلنا بعيرا بعيرا ، فلما قدمنا ، أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهماننا ، فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا سوى البعير الذي نفل ، فما عاب ( علينا ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنعنا ، ولا على الذي أعطانا . [ ص: 46 ] وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد ، قال حدثنا أبو بكر محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا هناد بن السري ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى نجد ، فخرجت معها فأصبنا نعما كثيرة ، فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا ، لكل إنسان ، قال : ثم قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقسم بيننا غنيمتنا ، فأصابت كل إنسان منا اثنا عشر بعيرا بعد الخمس ، وما حاسبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي أعطانا صاحبنا ، ولا عاب عليه ما صنع ، فكان لكل واحد منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله .

قال أبو عمر : ظاهر هذه الروايات كلها عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن سهمانهم وقسمتهم ونفلهم كان من أميرهم ، وأنه نفلهم بعد القسمة ، وهذا يوجب أن يكون النفل من الخمس ; على هذا يتفق ظاهر معنى الحديث في رواية مالك ، وشعيب بن أبي حمزة ، وإسماعيل بن أمية ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب السختياني ; وخالفهم محمد بن إسحاق ، فجعل النفل من رأس الغنيمة ، ثم جعل القسمة بعد ; وقول هؤلاء أولى من قول [ ص: 47 ] محمد بن إسحاق ، لأنهم جماعة حفاظ ، واتفق هؤلاء كلهم على أن الذي حصل في السهمان لأهل السرية سوى البعير الذي نفلوا ، اثنا عشر بعيرا ، لم يشك في ذلك أحد من الرواة عن نافع ، غير مالك وحده .

وكذلك اتفقوا كلهم عن نافع في هذا الحديث على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث السرية ، وأن سهمان أهل السرية ، هي السهمان المذكورة في هذا الحديث ، وأنهم نفلوا بعيرا بعيرا مع ذلك ، حاشا شعيب بن أبي حمزة وحده ، فإنه انفرد بأن قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشا قبل نجد ، فانبعثت منه هذه السرية ، فجعل السرية خارجة من العسكر ، وليس ذلك في حديث غيره ، وإنما قال غيره : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية ، وبين الوليد بن مسلم هذا المعنى عن شعيب ، فقال في حديثه هذا : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد أربعة آلاف ، فانبعثت منه هذه السرية ، وقال شعيب أيضا : إن سهمان ذلك الجيش كان اثني عشر بعيرا ، اثني عشر بعيرا ، ونفل أهل السرية خاصة بعيرا بعيرا . [ ص: 48 ] وهذا لم يقله غيره وإن كان المعنى فيه صحيحا ، إلا أنه لا يختلف العلماء أن السرية إذا أخرجت من العسكر فغنمت ، أن أهل العسكر شركاؤهم فيها ، إلا أن هذه مسألة وحكم لم يذكره في هذا الحديث غير شعيب بن أبي حمزة ، عن نافع ، إلى ما انفرد به شعيب أيضا : من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعث جيشا فانبعثت منه تلك السرية ، ولم يذكر الإذن لها ، ولهذا - والله أعلم - قال ابن المبارك : للوليد بن مسلم أن شعيبا هذا ومن ذكر معه يعني ابن فروة ، لا يعدل بمالك بن أنس ، وصدق ابن المبارك .

قال أبو عمر : فهذا تمهيد نقل هذا الحديث ، وتهذيب إسناده وألفاظه ; وأما معانيه ، فإن فيه من الفقه بإرسال السرايا إلى أرض العدو ، وذلك عند أهل العلم مردود إلى إذن الإمام واجتهاده على قدر ما يعلم من قوة العدو وضعفه . [ ص: 49 ] وفيه أن ما يحصل عليه المسلمون ويفيدونه من أموال العدو يسمى غنيمة ، وفي هذا ومثله قال الله عز وجل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية . وفيه أن ما غنمه المسلمون من أموال المشركين يقسم بينهم بعد إخراج خمسه سهمانا ، وما حصل من ذلك بأيديهم ، فهو مال من أموالهم من أطيب كسبهم ، إذا سلم من الغلول ( وإخراج خمسه ) .

وفي قول الله عز وجل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) دليل على أن أربعة أخماس الغنائم لأهلها الغانمين لها والموجفين عليها الخيل والركاب والرجل ، لأن الله عز وجل لما أضاف الغنيمة إليهم بقوله غنمتم وأخبر أن الخمس خارج عنهم لمن سمى في الآية ، علم العلماء استدلالا ونظرا صحيحا أن الأربعة الأخماس المسكوت عنها لهم مقسومة بينهم ، وهذا مالا خلاف فيه ; ألا ترى إلى قول الله عز وجل ( وورثه أبواه فلأمه الثلث ) فلما جعل الأبوين الوارثين ، وأخبر أن للأم الثلث ، استغنى عن أن يقول وللأب الثلثان ، وفيه [ ص: 50 ] أن للإمام ، وللأمير على الجيش أن ينفل من الغنائم ما شاء على قدر اجتهاده ، وفي رواية مالك وغيره ممن تابعه على هذا الحديث ، ما يدل على أن النفل لم يكن من رأس الغنيمة ، وإنما كان من الخمس ; وفي رواية محمد بن إسحاق ، ما يدل على أن ذلك كان من رأس الغنيمة ، - والله أعلم - ، أي ذلك كان ; وهذا موضع اختلف فيه العلماء ، وتنازعوا قديما وحديثا ، والنفل يكون على ثلاثة أوجه : أحدها أن يريد الإمام تفضيل بعض الجيش لشيء يراه من غنائه وبأسه وبلائه ، أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش ، فينفله من الخمس لا من رأس الغنيمة ، أو يجعل له سلب قتيله ; وسيأتي القول في سلب القتيل في باب يحيى بن سعيد من كتابنا هذا إن شاء الله .

والوجه الآخر : أن الإمام إذا بعث سرية من العسكر ، فأراد أن ينفلها مما غنمت دون أهل العسكر ، فحقه أن يخمس ما غنمت ، ثم يعطي السرية مما بقي بعد الخمس ما شاء ، ربعا ، أو ثلثا ، ولا يزيد على الثلث ; لأنه أقصى ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفله ، ويقسم الباقي بين جميع [ ص: 51 ] أهل العسكر ، وبين السرية على السوية ، للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد .

والوجه الثالث : أن يحرض الإمام ، أو أمير الجيش أهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو ، وينفل جميعهم مما يصير بأيديهم ويفتحه الله عليهم : الربع أو الثلث قبل القسم ، تحريضا منه على القتال ; وهذا الوجه كان مالك يكرهه ولا يراه ، وكان يقول قتالهم على هذا الوجه ، إنما يكون للدنيا ، وكان يكره ذلك ولا يجيزه ، وأجازه جماعة من أهل العلم .

وأما اختلافهم في هذا الباب ، فإن جملة قول مالك وأصحابه أن لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة ، ولا نفل إلا من الخمس ، والنفل عندهم أن يقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه ، قال مالك : ولم يقلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد برد القتال ، وكره مالك أن يقاتل أحد على أن له كذا ، ومن الحجة في ذلك ، ما رواه علي ابن المديني ، وابن أبي شيبة ، عن زيد بن الحباب ، عن رجاء بن أبي سلمة ، قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه ، عن جده ، قال لا نفل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ليرد قوي المسلمين [ ص: 52 ] على ضعيفهم ، قال رجاء : سمعت سليمان بن موسى الدمشقي - وهو معنا جالس - يقول : سمعت مكحولا يقول عن زياد بن جارية ، عن حبيب بن مسلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نفل في البداءة الربع ، وحين قفل الثلث ، فقال عمرو بن شعيب : تراني أحدثك عن أبي ، عن جدي ، وتحدثني عن مكحول ; ففي حديث عمرو بن شعيب هذا أن لا نفل ، ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم ، وهو [ ص: 53 ] حجة لمالك ، وأما السلب بعد أن يبرد القتال فخصوص ومعمول به ، لما فيه من حديث أبي قتادة وغيره ، - والله أعلم - .

ورأي مالك رحمه الله تنفيل السلب من الخمس ; لأن الخمس مردود قسمته عنده إلى اجتهاد الإمام ، وأهله غير معينين ; ولم ير النفل من رأس الغنيمة ، لأن أهلها معينون وهم الموجفون ، وقال الشافعي جائز للإمام أن ينفل قبل إحراز الغنيمة وبعدها على وجه الاجتهاد ; قال الشافعي ، وليس في النفل حد ، قال وقد روى بعض الشاميين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل في البداءة والرجعة الثلث في واحدة ، والربع في الأخرى ، وقال في رواية ابن عمر ما يدل على أنه نفل نصف السدس ; قال فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يتجاوزه الإمام ، وأكثر مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيها إنفال ; قال : فينبغي أن يكون ذلك على الاجتهاد من محدود . [ ص: 54 ] قال الشافعي : وحديث ابن عمر يدل على أنهم أعطوا في سهمانهم ما يجب لهم مما أصابوا ، ثم نفلوا بعيرا بعيرا ، والنفل هو شيء زيدوه على الذي كان لهم ، قال : وقول سعيد بن المسيب : كان الناس يعطون النفل من الخمس كما قال ، وذلك من خمس الخمس سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وأما السلب فيخرج من رأس الغنيمة قبل أن يخمس ، وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يقول في حديث ابن عمر هذا : النفل الذي ذكره بعد السهام ليس له وجه ، إلا أن يكون من الخمس . وقال غيره : النفل الذي في خبر ابن عمر ، إنما هو تنفيل السرايا ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفل في البداءة الثلث والربع الذي كان ينفل في القفول .

قال أبو عمر : هذا يخرج على رواية محمد بن إسحاق نصا دون غيره ، من رواة نافع ، وقد يخرج تأويلا من رواية شعيب ، والحديث الذي ذكر هذا القائل ، قد زعم علي ابن المديني أن الصحيح فيه أنه نفل في البداءة الربع ، وفي القفلة الثلث ، وضعف رواية [ ص: 55 ] من روى في هذا الحديث عن مكحول ، عن زياد بن جارية ، عن حبيب بن مسلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل الثلث في بدايته ، وقال أبو ثور : وذكر نفل النبي - صلى الله عليه وسلم - في البداءة والرجوع ، وحديث ابن عمر هذا ; ثم قال وإنما النفل قبل الخمس ، وقال الأوزاعي ، وأحمد بن حنبل : جائز للإمام أن ينفل في البداءة الربع بعد الخمس ، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس . وهو قول الحسن البصري ، وجماعة وقال النخعي : كان الإمام ينفل السرية الثلث والربع يغريهم ، أو قال يحرضهم بذلك على القتال .

وقال مكحول والأوزاعي : لا ينفل بأكثر من الثلث ، وهو قول الجمهور من العلماء لا نفل أكثر من الثلث ، وقال الأوزاعي : فإن زادهم على ذلك فليف لهم به ويجعل ذلك من الخمس ، وقال الثوري في أمير أغار فقال من أخذ شيئا فهو له ، كما قال ولا بأس أن يقول الإمام من جاء برأس فله كذا ، ومن جاء باليد فله كذا ، يغريهم قال الحسن البصري - رحمه الله - : ما نفل الإمام فهو جائز . [ ص: 56 ] وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشام : هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء ، وقال جماعة فقهاء الشام : منهم رجاء بن حيوة ، وعبادة بن نسي ، وعدي بن عدي ، ومكحول ، والقاسم بن عبد الرحمن ، ويزيد بن أبي مالك ، ويحيى بن جابر ، والأوزاعي قالوا : الخمس من جملة الغنيمة ، والنفل من بعد الخمس ، ثم الغنيمة بين أهل العسكر بعد ذلك ; وهو قول إسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد ; قال أبو عبيد والناس اليوم على أن لا ينفل من جملة الغنيمة حتى يخمس .

وقال إبراهيم النخعي وطائفة : إن شاء الإمام نفلهم قبل الخمس ، وإن شاء بعد الخمس ، وكان سعيد بن المسيب يقول : لا تكون الأنفال إلا في الخمس ، وقد روي عنه أن ذلك في خمس الخمس : وقال مالك عنه إن النفل من الخمس ، وقال محمد بن جرير : لا نفل إلا بعد إخراج الخمس منه على حديث حبيب بن سلمة ، قال وكل ما وقع عليه اسم غنيمة خمس إلا [ ص: 57 ] السلب . فإنه خرج بما يجب التسليم له ، وهو قول الشافعي ، واحتجوا أيضا مع حديث ابن مسلمة بحديث معن بن يزيد السلمي ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا نفل إلا بعد الخمس قال محمد بن جرير : ولا نفل بعد إحراز الغنيمة إلا من سهم النبي عليه السلام ، لأنه محال أن ينفل من أموال الموجفين أو من سهم ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، قال وإنما النفل قبل الغنيمة ، وذلك أن يرى الإمام من المسلمين ضعفا ، ومن المشركين نشاطا ، وهو محاصر حصنا ، فيحرض من معه على عدوهم ، فيقول : من طلع إلى الحصن ، أو يهدم هذا السور ، أو دخل هذا النقب ، أو فعل كذا ، فله كذا وكذا ، على ما كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وغير بدر ، إغراء منه بالعدو ، وقال والسلب غير النفل .

قال أبو عمر سيأتي القول في السلب وحكمه ، وهل يخمس أم لا ؟ في موضعه من كتابنا هذا ، عند ذكر حديث أبي قتادة في ذلك في باب يحيى بن سعيد - إن شاء الله . [ ص: 58 ] واختلف العلماء أيضا في النفل في أول مغنم ، وفي النفل في العين من الذهب ، فذهب الشاميون إلى أن لا نفل في أول مغنم ، وروي ذلك عن رجاء بن حيوة ، وعبادة بن نسي ، وعدي بن عدي الكندي ، ومكحول ، وسليمان بن موسى ، ويزيد بن يزيد بن جابر ، ويحيى بن جابر ، والقاسم بن عبد الرحمن ، ويزيد بن أبي مالك ، والمتوكل بن الليث ، وأبي عيينة المحاربي ، وقال الأوزاعي : السنة عندنا أن لا نفل في ذهب ، ولا فضة ، ولا لؤلؤ ، ولا في سلب ، ولا في يوم هزيمة ، ولا في وقت فتح ، وممن قال لا نفل في العين المعلومة : الذهب ، والفضة - سليمان بن موسى والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وقال سليمان بن موسى لا نفل في أول شيء يصاب من المغنم ، وأنكر أحمد بن حنبل هذا ، وقال النفل يكون من كل شيء وبه قال إسحاق .

قال أبو عمر لا فرق عند جماعة فقهاء الأمصار ، وأهل النظر والأثر بين أول مغنم وغيره ، وجائز للإمام أن ينفل من العين وغيرها على قدر اجتهاده ، ولا حجة لمن جعل ذلك في أول مغنم ، أو نفاه عن أول مغنم - إلا التحكم وليس قوله في ذلك بشيء وأما قوله عز وجل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) [ ص: 59 ] الآية ، فجعل الخمس لمن سمى فيها ، وجعل الأربعة أخماس للموجفين ; فإن العلماء وإن اختلفوا في تفصيل معاني هذه الآية ، وقسم الخمس فيها ، وحكم الأنفال على حسب ما ذكرنا ، فإنهم لم يختلفوا في أن الآية ليست على ظاهرها ، وأنها يدخلها الخصوص ، فمما خصوها به بإجماع - أن قالوا سلب المقتول لقاتله إذا نادى الإمام بذلك ، ومنهم من يجعل السلب للقاتل على كل حال ، نادى الإمام به أو لم يناد ، لا يشركه فيه غيره من الموجفين ، ولا يختص السلب عند أكثرهم ، وسنبين ذلك ووجوهه في باب يحيى بن سعيد إن شاء الله ; ومعلوم أن السلب من الغنيمة ، فدل ما ذكرنا عنهم ، أنه مخصوص عندهم من جملة ما غنموا .

ومن ذلك أيضا النفل ، قد أجمعوا أن الآية مخصوصة بما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأنفال في غزواته ، إلا أنهم اختلفوا : فقال قائلون : الأنفال من الخمس ، لأن الموجفين قد استحقوا الأربعة أخماس ، وهذا قول مالك وغيره ، قالوا لا يكون النفل من رأس الغنيمة ، ولا قبل القتال ; لأنه قتال على [ ص: 60 ] الدنيا ، قالوا وإذا كان من رأس الغنيمة ، كان من مال الموجفين وأهل الخمس جميعا ، وقال آخرون لا يكون النفل إلا من خمس الخمس : سهم النبي عليه السلام ، وهذا مذهب الشافعي وجماعة ، ذهبوا إلى أن الخمس مقسوم على خمسة أسهم ، أحدها خمس النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال آخرون : لا نفل إلا من رأس الغنيمة قبل أن تحرز الغنيمة ، فإذا أحرزت استحقها أهلها الموجفون وأهل الخمس ، وهو قول الكوفيين وجماعة قد ذكرناهم .

وقال آخرون النفل جائز قبل إحراز الغنيمة وبعدها ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك كله ، وأجازه لمن فعله ، وثبت ذلك عنه ; وممن قال بهذا الأوزاعي ، والشافعي وجماعة من الشاميين ، والعراقيين ، ومن ذلك أيضا الأرض واختلافهم فيها ، وفي قسمتها ، وتوقيفها ; وقد ذكرنا ذلك في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب من كتابنا هذا ، فلا [ ص: 61 ] وجه لإعادته هاهنا ، وهذا كله من اختلافهم فيما ذكرنا إجماع منهم على أن الآية مخصوصة ، فيها ضمير الأنفال ، وأنها مردودة إلى الإمام على اجتهاده ، فإن شاء نفل قبل ، وإن شاء بعد - على قدر ما يراه من الاجتهاد للمسلمين ; والسلب من النفل عند جميعهم كما قال ابن عباس ، قال الله عز وجل ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )

وفي هذه الآية دليل على أن النفل يجتهد فيه الإمام على حسب ما ثبت من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك - والله أعلم - . وروى الثوري ، وعبيد الله بن جعفر بن نجيح وجماعة ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن سليمان بن موسى الأشدق ، عن مكحول ، عن أبي سلام الباهلي ، عن أبي أمامة الباهلي صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن عبادة بن الصامت ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر ، فلقي العدو ، فلما هزمهم الله ، تبعتهم طائفة من المسلمين تقاتلهم ، وأحدقت طائفة برسول الله [ ص: 62 ] - صلى الله عليه وسلم - ، واستولت طائفة على العسكر والنهب ، فلما نفى الله العدو ، ورجع الذين طلبوهم ، قالوا : لنا النفل نحن طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم ; وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أنتم بأحق منا ، بل هو لنا نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا ينال العدو منه غرة ، وقال الذين استولوا على العسكر والنهب : والله ما أنتم بأحق به منا ، بل هو لنا نحن أخذناه واستولينا عليه ; فأنزل الله عز وجل ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) فقسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم .

قال أبو عمر : لا يختلف العلماء أن بعد هذا نزل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء ) الآية [ ص: 63 ] فأحكم الله أمر الغنيمة ، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المراد بما نص به في السلب وغيره ، وإنما جاء اختلاف العلماء في هذا الباب على حسب ما رووا فيه - والله أعلم - ، وأما حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ، فلا يحتمل تأويلا ، ولا له إلا وجه واحد ; وذلك أنهم نفلوا بعيرا بعيرا بعد سهمانهم ، فدل على أن ذلك سهمانهم ، ولا موضع لغير السهمان إلا الخمس ، على رواية أكثر أصحاب نافع لهذا الحديث ، لا على رواية ابن إسحاق .

ومما احتج به من رأى النفل من الخمس لا من رأس الغنيمة ، حديث معاوية مع عبادة بن الصامت ، وذلك أن معاوية لما غزا عام المضيف فغنم ، أرسل إلى عبادة بن الصامت يردون من المغنم ، فرده عبادة : فقال له معاوية ما أنت وذاك ؟ قال عبادة : إنك لم تكن معنا في غزوة كذا وكذا ، إذ جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله أعطني عقالا ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا طاقة لك بعقال [ ص: 64 ] من نار ، ولكن إذا خمسنا فتعال أعطك قالوا فهذا نص على أن النفل لا يكون من رأس الغنيمة ، وقال غيرهم يحتمل أن يكون الموجفين ، ويحتمل أن يكون من الخمس ، يكون من أحدهما أو أيهما كان ، فمعلوم أهله ; وإذا جاز أن يكون من الخمس - والخمس لأهله ، جاز أن يكون من سهام الموجفين ، وإن لم يكن رأس الغنيمة .

واحتجوا أيضا بحديث محمد بن سيرين أن أنس بن مالك كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في غزاة ، فأصابوا شيئا ، فأراد عبيد الله أن يعطي أنسا من الشيء قبل أن يقسم ، قال أنس : لا ، ولكن اقسم ثم أعطني من الخمس ، فقال عبيد الله : لا إلا من جميع الغنائم ، فأبى أنس أن يقبل ، وأبى عبيد الله أن يعطيه من الخمس ، وهذا من أنس بحضرة جلة من العلماء ، وربما كان هناك غيره من الصحابة ، ولم يرو عن واحد منهم نكير لذلك ; فهذا الاختلاف قديم في هذا الباب - [ ص: 65 ] وبالله التوفيق .

وحسبك بقول سعيد بن المسيب : كان الناس يعطون النفل من الخمس ، وأما حديث حبيب بن مسلمة الذي احتج به من جعل النفل من غير الخمس ، وجعله من رأس الغنيمة قبل إحرازها : فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا مطلب بن شعيب ، قال حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثنا معاوية بن صالح عن العلاء ، عن مكحول ، عن زياد بن جارية ، عن حبيب بن مسلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع بعد الخمس في البداية ، ونفل الثلث بعد الخمس في الرجعة ، ففي هذا الحديث أن النفل كان من غير الخمس - والله أعلم - .

قال أبو عمر كان أعدل الأقاويل عندي - والله أعلم - في هذا الباب - أن يكون النفل من خمس الخمس ، سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لولا أن في حديث ابن عمر هذا ، ما يدل على أنه لم يكن ذلك من خمس الخمس ، وذلك أن تنزل تلك السرية على أنهم كانوا عشرة مثالا ، ومعلوم أنك إذا عرفت ما للعشرة ، عرفت ما للمائة ، وما للألف ، وأزيد ; فمثال ذلك أن [ ص: 66 ] تكون السرية عشرة أصابوا في غنيمتهم مائة وخمسين بعيرا ، خرج منها خمسها ثلاثون بعيرا ، وصار لهم مائة وعشرون ، قسمت على عشرة ، وجب لكل واحد اثنا عشر ، اثنا عشر بعيرا ، ثم أعطي القوم من الخمس بعيرا بعيرا ; فهذا على مذهب من قال النفل من جملة الخمس ، لأن خمس الثلاثين لا يكون فيه عشرة أبعرة .

وقد يحتج من قال أن ذلك يحتمل أن يكون من خمس الخمس ، بأن يقول جائز أن يكون هناك ثياب ومتاع غير الإبل ، فأعطى من لم يبلغه البعير قيمة البعير ذلك من العروض ، ومن حجة الشافعي ومن قال بقوله ، أن النفل لا يكون إلا من خمس الخمس : سهم النبي عليه السلام ; ما ذكره أبو عبد الله المروزي - رحمه الله ، قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال حدثنا وهب بن جرير ، قال حدثني أبي ، قال : سمعت محمد بن إسحاق يقول : حدثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، قال لما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - سهم [ ص: 67 ] ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، أتيته أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله ، هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لما وضعك الله منهم ، أفرأيت بني المطلب أعطيتهم ، ومنعتنا ونحن وهم منك بمنزلة ؟ فقال إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد - وشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه ; قال فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم خمس الخمس ، وكان مالك رحمه الله لا يرى قسمة الخمس أخماسا ، وقال الخمس من الغنيمة حكمه حكم الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب مما أفاء الله على المسلمين ; قال ويجعل الخمس والفيء جميعا في بيت المال ، قال ويعطى أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يرى الإمام ويجتهد في ذلك ، فإن تكافأ أهل البلدان في الحاجة ، بدئ بالذين فيهم المال ، وإن كان بعض البلدان أشد حاجة ; نقل إليهم أكثر المال ، وكان مالك يرى التفضيل في العطاء على قدر الحاجة ، ولا يخرج عنده [ ص: 68 ] مال من بلد إلى غيره ، حتى يعطى أهله ما يغنيهم على وجه النظر والاجتهاد ، قال ويجوز أن يجيز الوالي على وجه الدين أو لأمر قد استحق به الجائزة ، قال والفيء حلال للأغنياء ، وقال الشافعي : يقسم الخمس على خمسة أسهم ، وهو قول الثوري وجماعة ، قالوا سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخمس خمس الخمس ، وما بقي للطبقات الذين سماهم الله ; وسهم ذي القربى عندهم باق لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال أبو حنيفة وأصحابه يقسم الخمس على ثلاثة أسهم ، للفقراء ، والمساكين ، وابن السبيل ، وأسقطوا سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسهم ذي القربى بعده ; وزعموا أن سهم ذي القربى كان لإدخال السرور على النبي عليه السلام في حياته وقرابته ، لأنه مضمن فيه ، فلما مات ارتفع سهمه وسهم قرابته .

واحتجوا باتفاق الخلفاء الراشدين الأربعة على منع قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كذا ذكروا ; قالوا : وما كانوا مع فضلهم وتقاهم ، ليمنعوا أحدا حظا وجب له ، فكيف - وقد قاتلوا العرب فيما وجب للمساكين من الزكوات [ ص: 69 ] إلى أشياء من فضائلهم ، وقيامهم بالحق لا يحصى ، فكيف يمنعون ذوي القربى ؟

قال أبو عمر : أما ما ذكروا من فضلهم وقيامهم بالحق فصدق ، وأما منعهم سهم ذي القربى فباطل ، وقد بينا ذلك في حديث ابن شهاب ، عن عروة ، من هذا الكتاب .

وقال محمد بن جرير : يقسم الخمس على أربعة أسهم ، لأن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مردود على من سمى معه في الآية ، قياسا على ما أجمعوا عليه فيمن عدم من أهل سهمان الصدقات .

قال أبو عمر : للكلام في قسم الخمس وإيراد ما للعلماء في ذلك من الأقوال ، موضع غير هذا ، والقول فيه يطول ، وإنما ذكرنا منه هاهنا طرفا دالا على حكم الخمس ، وحكم خمس الخمس ، لما جرى في الحديث المذكور في هذا الباب ; من أن النفل فيه كان من خمس الخمس ، أو من جملة الخمس ، أو من رأس الغنيمة ، على ما ذكرنا من اختلافهم في ذلك ; فبينا وجه الخمس وخمسه ، وسنذكر أحكامه ، وما للعلماء في ذلك من الأقوال ، ووجوه الاحتجاج في ذلك والاعتلال في ( باب ) يحيى بن سعيد - إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية