التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
456 [ ص: 154 ] حديث ثامن وعشرون لنافع عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه ، ثم أقبل على الناس فقال : إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى .


وفي هذا الحديث من الفقه إزالة ما يستقذر وما يتنزه عنه ويتقزز منه من المسجد ، وأن ينظف ; وإذا كان رسول الله يحك البصاق من حائط المسجد ( من قبلته ) ; فكنسه وتنظيفه وكسوته يدخل في معنى ذلك ; وفي هذا الحديث أيضا [ ص: 155 ] دليل على أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة إذا لم يبصق قبل وجهه ، ولا يقطع ذلك صلاته ، ولا يفسد شيئا منها ، إذا غلبه ذلك واحتاج إليه ، ولا يبصق قبل وجهه ألبتة ; ولكن يبصق في ثوبه وتحت قدميه ، على ما ثبت في الآثار ; وقد أجمع العلماء على أن العمل القليل في الصلاة لا يضرها ، وفي إباحة البصاق في الصلاة لمن غلبه ذلك ، دليل على أن النفخ في الصلاة إذا لم يقصد به صاحبه اللعب والعبث ، وكان يسيرا لا يضر المصلي في صلاته ، ولا يفسد شيئا منها ; لأنه قلما يكون بصاق إلا ومعه شيء من النفخ ، والنحنحة ، والبصاق ، والنخامة ، والنخاعة كل ذلك متقارب ; وقد فسرنا ذلك في باب هشام بن عروة من هذا الكتاب ، والتنخع والتنخم ضرب من التنحنح ، ومعلوم أن للتنخم صوتا كالتنحنح ; وربما كان معه ضرب من النفخ عند القذف بالبصاق ، فإن قصد النافخ أو المتنحنح في الصلاة بفعله ذلك اللعب أو شيئا من العبث ; أفسد صلاته ، وأما إذا كان نفخه تأوها من ذكر النار إذا مر به ذكرها في القرآن وهو في صلاته فلا شيء عليه .

واختلف الفقهاء في هذا المعنى من هذا الباب ، فكان مالك يكره النفخ في الصلاة ، فإن فعله فاعل لم يقطع صلاته ، [ ص: 156 ] ذكره ابن وهب ، عن مالك وذكر ابن خواز منداد قال : قال مالك : التنحنح والنفخ والأنين في الصلاة لا يقطع الصلاة ، رواه ابن عبد الحكم قال : وقال ابن القاسم ذلك يقطع الصلاة يعني النفخ والتنحنح .

وقال الشافعي : كل ما كان لا يفهم منه حروف الهجاء فليس بكلام ، ولا يقطع الصلاة إلا الكلام ، وهو قول أبي ثور لا يقطع الصلاة إلا الكلام المفهوم .

وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن : إن كان النفخ يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة ، وقال أبو يوسف : لا يقطع الصلاة ، إلا أن يريد به التأفيف ، ثم رجع فقال صلاته تامة .

وقال أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه : لا إعادة على من نفخ في صلاته . والنفخ مع ذلك مكروه عندهم على كل حال ; وعند ابن مسعود ، وابن عباس ، والنخعي ، وابن سيرين - مثله هو مكروه ولا يقطع الصلاة ، وقد جاء عن ابن عباس أن النفخ كلام وهذا يدل على أنه يقطع عنده الصلاة ، إن صح عنه .

أخبرنا أحمد بن قاسم ، حدثنا محمد بن معاوية [ ص: 157 ] ، حدثنا محمد بن يحيى المروزي ، حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا أبو شهاب ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن ابن عباس قال : النفخ في الصلاة كلام . وهذا يحتمل أن يكون النافخ عامدا عابثا ، فيكون حينئذ مفسدا لصلاته .

قال أبو عمر : أجمع العلماء على كراهية النفخ في الصلاة ، واختلفوا في إفساد الصلاة به وكذلك أجمعوا على كراهية الأنين ، والتأوه في الصلاة ، واختلفوا في صلاة من أن وتأوه فيها ، فأفسدها بعضهم وأوجب الإعادة ، وبعضهم قال : لا إعادة في ذلك ، والتنحنح عند جميعهم أخف من الأنين ، والنفخ ، ومن التأوه ، ولا أصل في هذا الباب إلا إجماعهم على تحر يم الكلام في الصلاة كل على أصله الذي قدمنا عنهم في باب أيوب من هذا الكتاب ، فقول من راعى حروف الهجاء وما يفهم من الكلام أصح الأقاويل - إن شاء الله .

وأما قوله في هذا الحديث ، فإن الله قبل وجهه إذا صلى ، فكلام خرج على التعظيم لشأن القبلة وإكرامها - والله أعلم ، والآثار تدل على ذلك مع النظر والاعتبار ، وقد نزع بهذا الحديث بعض من ذهب مذهب المعتزلة في أن الله عز وجل في كل مكان ، وليس على العرش ، وهذا جهل من قائله ; [ ص: 158 ] لأن في الحديث الذي جاء فيه النهي عن البزاق في القبلة : أنه يبزق تحت قدمه وعن يساره ; وهذا ينقض ما أصلوه في أنه في كل مكان ، وقد أوضحنا هذا المعنى في باب ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وأبي عبد الله الأغر - والحمد لله .

قرأت على عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر جميعا ، أن القاسم بن أصبغ حدثهم ، قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال حدثنا حميد ، عن أنس قال : رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخاعة في المسجد ، فشق ذلك عليه حتى عرفنا ذلك في وجهه فحكه ; وقال : إن أحدكم أو إن المرء إذا قام إلى الصلاة فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين قبلته فليبزق إذا بزق ، عن يساره أو تحت قدمه . وحدثنا عبد الوارث ، وسعيد بن نصر قالا ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا حجاج ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا حماد بن أبي سليمان ، عن ربعي بن خراش ، عن حذيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قام الرجل في صلاته أقبل على الله [ ص: 159 ] بوجهه ، فلا يبزقن أحدكم في قبلته ، ولا يبزقن عن يمينه ، ولكن يبزق عن يساره .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا سليمان بن داود ، قال حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوما إذ رأى نخامة في قبلة المسجد فتغيظ على الناس ثم حكها ، قال وأحسبه قال : ودعا بزعفران فلطخه به وقال : إن الله عز وجل قبل وجه أحدكم إذا صلى فلا يبزق بين يديه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا جعفر بن محمد ، قال حدثنا سليمان بن داود ، قال حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، أن أبا سعيد ، وأبا هريرة ، أخبراه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : رأى نخامة في جدار المسجد فتناول رسول الله حصاة فحكها ثم قال : إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل [ ص: 160 ] وجهه ، ( ولا عن يمينه ) ، وليبزق عن يساره ، أو تحت قدمه اليسرى . ورواه ابن عيينة ، والليث ، عن ابن شهاب ، عن حميد ، عن أبي سعيد - لم يذكر أبا هريرة ; وروى ابن عجلان ، عن عياض ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله والأحاديث في هذا كثيرة جدا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا محمد بن العلاء ، قال حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور ، وأن تنظف وتطيب .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا القعنبي ، حدثنا أبو مودود ، عن عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي قال سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر وليدفنه ، فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه ثم ليخرج به . [ ص: 161 ] وروى شعبة ، وهشام الدستوائي ، وسعيد بن أبي عروبة ، وأبان العطار ، وأبو عوانة وغيرهم ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : البزاق في المسجد خطيئة ، وكفارتها دفنها .

قال أبو عمر : البزاق يكتب بالزاي وبالسين وبالصاد ; وقد مضى فيما سلف من كتابنا هذا في باب نافع أيضا ; قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : عرضت علي أجور أمتي ، فرأيت فيها حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد .

وقد احتج بعض من أباح النفخ في الصلاة على جهة التأوه ، بما حدثناه سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا محمد بن وضاح ، قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام وقمنا معه فأطال القيام حتى ظننا أنه ليس يركع ، ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه ، ثم رفع رأسه ، فلم يكد يسجد ، ثم سجد فلم [ ص: 162 ] يكد يرفع رأسه ; ثم فعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى ، وجعل ينفخ في الأرض - ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية ، ويقول رب لم تعذبهم - ( وأنا فيهم ؟ رب لم تعذبهم ) ونحن نستغفرك ، ثم رفع رأسه ( وقد ) تجلت الشمس - وذكر الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية