التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1809 [ ص: 224 ] حديث رابع وثلاثون لنافع ، عن ابن عمر .

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب .


قال أبو عمر : في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب دليل على أنها لا تؤكل ، لأن ما يجوز أكله لم يحل قتله إذا كان مقدورا عليه وذبح ، أو نحر ، فإن كان صيدا متمنعا حل بالتسمية رميه ، وقتله كيف أمكن ما دام متمنعا ألا ترى إلى ما جاء عن عمر وعثمان إذ ظهر في المدينة اللعب بالحمام ، والمهارشة بين الكلاب أتى الحديث عنهما بأنهما أمرا بقتل الكلاب وذبح الحمام فرقا بين ما يؤكل وما لا يؤكل قال الحسن البصري : سمعت عثمان بن عفان يقول غير مرة في خطبته اقتلوا الكلاب واذبحوا الحمام . [ ص: 225 ] واختلفت الآثار في قتل الكلاب ، واختلف العلماء في ذلك أيضا ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى الأمر بقتل الكلاب كلها إلا ما ورد الحديث بإباحة اتخاذه منها للصيد ، والماشية وللزرع أيضا ، وقالوا : واجب قتل الكلاب كلها إلا ما كان منها مخصوصا بالحديث امتثالا لأمره - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا بحديث مالك هذا وما كان مثله وبحديث ابن وهب قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافعا صوته يأمر بقتل الكلاب فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد ، أو ماشية .

وبما أخبرنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب وأرسل في أقطار المدينة لتقتل .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن [ ص: 226 ] سلمة ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب حتى إن المرأة لتدخل بالكلب فما تخرج حتى يقتل وروي عن عبد الله بن جعفر أن أبا بكر أمر بقتل الكلاب قال عبد الله : وكانت أمي تحته وكان جرو لي تحت السرير فقلت له : يا أبي ، وكلبي أيضا ؟ فقال : لا تقتلوا كلب إبلي ثم أشار بأصبعه أن خذوه من تحت السرير فأخذ ، وأنا لا أدري فقتل .

وروى حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع أن ابن عمر دخل أرضا له فرأى كلبا فهم أن يقع بقيم أرضه فقال : إنه ، والله كلب عابر دخل الآن قال : فأخذ المسحاة ، وقال : حرشوه علي قال : فشحطه قوله فشحطه أي قتله في أعجل شيء فهذا أبو بكر الصديق ، وابن عمر قد عملا بقتل الكلاب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء نحو ذلك ، عن عمر وعثمان فصار ذلك سنة معمولا بها عند الخلفاء لم ينسخها عند من عمل بها شيء ، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول في قتل الكلاب لا أرى بأسا أن يأمر الوالي بقتلها . [ ص: 227 ]

قال أبو عمر : ظاهر حديث ( ابن ) عمر وحديث جابر يدل على قتل جميع الكلاب ولكن الحديث في ذلك ليس على عمومه لما قد بان في حديث ابن شهاب ، عن مالك ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد ، أو ماشية ، ومثله حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الزرع ، والصيد .

حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن أبي التياح ، عن مطرف بن عبد الله ( بن ) الشخير ، عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الزرع وكلب العين هكذا قال : وقال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروا الثامنة بالتراب . وقد ذكرنا مذاهب العلماء فيمن قتل كلب زرع ، أو صيد أم ماشية عند ذكر بيع الكلاب وذلك في باب ابن شهاب على أبي بكر بن عبد الرحمن من هذا الكتاب .

وقال آخرون : أمره - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب منسوخ بإباحته اتخاذ ما كان منها للماشية ، والصيد ، والزرع ، واحتج [ ص: 228 ] قائلو هذه المقالة بحديث شعبة ، عن أبي التياح ، عن مطرف بن الشخير ، عن عبد الله بن المغفل قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب ثم قال : مالي والكلاب ؟ ثم رخص في كلب الصيد : حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا شبانة ، قال : حدثنا شعبة فذكره .

قالوا : ففي هذا الخبر إن كلب الصيد قد كان أمر بقتله ثم أباح الانتفاع به فارتفع القتل عنه قالوا : ومعلوم أن كل ما ينتفع به جائز اتخاذه ، ولا يجوز قتله إلا ما يؤكل فيذكى ، ولا يقتل ، واحتجوا أيضا بحديث ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب ثم قال : إنها أمة ، ولا أحب أن أفنيها ولكن اقتلوا كل أسود بهيم ، وقد قال ابن جريج : في حديث أبي الزبير ، عن جابر أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب قال : فكنا نقتلها حتى قال : إنها أمة من الأمم ثم نهى عن قتلها ، وقال : عليكم بالأسود في القرنين ، أو قال : في النكتتين ، فإنه شيطان ، حدثناه عبد الرحمن [ ص: 229 ] ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا محمد ، حدثنا يوسف ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج فذكره .

قال أبو عمر : حديث جابر لا حجة فيه لمن أمر بقتل الكلاب بل الحجة فيه لمن لم ير قتلها على ما نذكره من رواية ابن جريج ، عن أبي الزبير إن شاء الله قالوا : فهذا يدل على أن الإباحة في اتخاذها وحبه أن لا يفنيها كان بعد الأمر بقتلها قالوا : وقد رخص في كلب الصيد ، ولم يخص أسود بهيما من غيره ، وقد قالوا : إن الأسود البهيم من الكلاب أكثرها أذى ، وأبعدها من تعليم ما ينفع ولذلك روي أن الكلب الأسود البهيم شيطان أي بعيد من المنافع قريب من المضرة ، والأذى ، وهذه أمور لا تدرك بنظر ، ولا يوصل إليها بقياس ، وإنما ينتهي فيها إلى ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن ابن عباس أن الكلاب من الجن وهي بقعة الجن فإذا غشيتكم فألقوا لها بشيء ، فإن لها أنفسا يعني أعينا .

وروي عن الحسن ، وإبراهيم أنهما كانا يكرهان صيد الكلب الأسود البهيم ، وقال إسماعيل بن أمية : اثنان من الجن مسخا وهما الكلاب ، والحيات ، وسيأتي هذا المعنى بأبين مما جاء هاهنا في باب صيفي إن شاء الله .

قال أبو عمر : قد اضطربت ألفاظ الأحاديث في هذا المعنى فمنها ما يدل على النسخ ، ومنها ما يدل على الأمر بالقتل كان فيما عدا المستثنى - والله أعلم - .

ومما يدل على أن الأمر بقتل [ ص: 230 ] الكلاب منسوخ ما حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا يحيى بن خلف ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير ، عن جابر قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب حتى إن كانت المرأة تقدم من البادية بالكلب فنقتله ثم نهانا ، عن قتلها ، وقال : عليكم بالأسود .

فهذا واضح في أنه نهى عن قتلها بعد أن كان أمر بذلك وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أحمد ( بن عبد الله ) ، حدثنا أبو شهاب ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وما من قوم اتخذوا كلبا إلا كلب ماشية ، أو كلب صيد ، أو كلب حرث إلا نقص من أجورهم كل يوم قيراطان .

وروى إسماعيل المكي ، عن أبي رجاء [ ص: 231 ] العطاردي قال : سمعت ابن عباس يقول السود من الكلاب الجن ، والبقع منها الحن وأنشد بعضهم في الجن ، والحن قول الشاعر :

إن تكتبوا الزمنى فإني لزمن في ظاهري داء وداء مستكن     أبيت أهوي في شياطين ترن
مختلف نجواهم جن وحن

وقال صاحب العين : الحن حي من الجن منهم الكلاب البهم يقال : منه كلب حني ، فذهبت طائفة إلى أن لا يقتل من الكلاب إلا الأسود البهيم خاصة ما جاء في حديث ابن مغفل وما كان مثله ، واحتجوا بحديث أبي ذر وما كان مثله الكلب الأسود البهيم شيطان .

وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز قتل شيء من الكلاب إلا الكلب العقور ، وقالوا : أمره - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب منسوخ بنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا وبقوله عليه السلام خمس من الدواب يقتلن في الحل ، والحرم فذكر منهن الكلب العقور فخص العقور دون غيره ، لأن كل ما يعقر المؤمن ويؤذيه ويقدر عليه فواجب قتله ، وقد قيل العقور هاهنا الأسد وما أشبهه من عقارة سباع الوحش قالوا : في قوله - صلى الله عليه وسلم - حين ضرب [ ص: 232 ] المثل برجل وجد كلبا يلهث عطشا على شفير بئر فاستقى فسقى الكلب فشكر الله له ذلك فغفر له فقيل يا رسول الله أوفي مثل هذا أجر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : في كل كبد رطبة أجر دليل على أنه لا يجوز قتل شيء من الحيوان إلا ما أضر بالمسلم في مال ، أو نفس فيكون حكمه حكم العدو المباح قتله ، وأما ما انتفع به المسلم من كل ذي كبد رطبة فلا يجوز قتله ، لأنه كما يؤجر المرء في الإحسان إليه كذلك يؤزر في الإساءة إليه - والله أعلم - .

واحتجوا أيضا بما حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد ادلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها .

قال أبو عمر : حسبك بهذا فضلا في الإحسان إلى الكلب فأين قتله من هذا ؟ ومما في هذا المعنى أيضا قوله صلى الله [ ص: 233 ] عليه وسلم : دخلت امرأة النار في هرة ربطتها حتى ماتت جوعا ، فهذا وما أشبهه يدل على ما قلنا .

قال أبو عمر : كل ما ذكرنا قد قيل فيما وصفنا وبالله عصمتنا وتوفيقنا ، وقد ذكرنا ما للعلماء في بيع الكلاب مستوعبا في باب ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن من كتابنا هذا فلا وجه لإعادته هاهنا ، والذي اختاره في هذا الباب أن لا يقتل شيء من الكلاب إذا لم تضر بأحد ، ولم تعقر أحدا لنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا ، ولما تقدم ذكرنا له من حجة من اخترنا قوله .

ومن الحجة أيضا لما ذهبنا إليه في أن الأمر بقتل الكلاب منسوخ ترك قتلها في كل الأمصار على اختلاف الأعصار بعد مالك رحمه الله ، وفيهم العلماء ، والفضلاء ممن يذهب مذهب مالك ، وغيره ، ومن لا يسامح في شيء من المناكر ، والمعاصي الظاهرة إلا ويبدر إلى إنكارها ويهب إلى تغييرها وما علمت فقيها من الفقهاء المسلمين ، ولا قاضيا عالما قضى برد شهادة من لم يقتل الكلاب التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلها ، ولا جعل اتخاذ الكلاب في الدور جرحة يرد بها شهادة ؛ ولولا علمهم بأن ذلك من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لمعنى ، وقد نسخ ما اتفقت جماعتهم على [ ص: 234 ] ترك امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم لا يجوز على جميعهم الغلط وجهل السنة ، وقد بينا في الباب قبل هذا أنه لم يكره اتخاذ الكلب في الدور إلا لما فيه من دفع السائل وترويع المسلم - والله أعلم - .

وأما قول من ذهب إلى قتل الأسود منها بأنه شيطان على ما روي في ذلك فلا حجة فيه ، لأن الله عز وجل قد سمى من غلب عليه الشر من الإنس ، والجن شيطانا بقوله ( شياطين الإنس والجن ) ، ولم يجب بذلك قتله ، وقد جاء في الحديث المرفوع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يتبع حمامة فقال : شيطان يتبع شيطانة ، وليس في ذلك ما يدل على أنه كان مسخا من الجن ، ولا أن الحمامة مسخت من الجن ، ولا أن ذلك واجب قتله ، وقد قيل إن سورة المائدة نسخت الأمر بقتل الكلاب . أخبرنا قاسم بن محمد ، حدثنا خالد بن سعد ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع قال : جاء جبريل إلى النبي عليه السلام فاستأذن فأذن له فأخذ رداءه فخرج فقال : قد أذنا لك يا رسول الله قال : أجل يا رسول الله ولكن لا ندخل بيتا فيه [ ص: 235 ] صورة ، ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو فأمر أبا رافع أن لا يدع كلبا بالمدينة إلا قتله فإذا بامرأة في ناحية المدينة لها كلب يحرس عليها قال : فرحمتها فأتيت النبي عليه السلام فأمرني بقتله قال : ثم أتاه ناس من الناس فقالوا : ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فنزلت ( يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين ) هكذا كان في أصل الشيخ موسى بن عبيدة ، عن القعقاع ، وإنما يرويه موسى بن عبيدة ، عن أبان بن صالح ، عن القعقاع : حدثنيه سعيد بن نصر ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا ابن سيرين ، عن موسى بن عبيدة قال : أخبرني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع قال : جاء جبريل فذكر الحديث إلى آخره ، وهذا هو الصواب في إسناده هذا ما يوجبه عندي النظر في استعمال السنن وتهذيب الآثار في ذلك وقيود الأصول وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية