التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1037 [ ص: 366 ] حديث ثان وأربعون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله ، أو ليصمت .


هكذا رواه مالك ، وغيره ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي عليه السلام معنى واحد ، وكذلك رواه الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر وزاد قال عمر : فوالله ما حلفت بها ذاكرا ، ولا آثرا .

وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا يجوز الحلف بغير الله عز وجل في شيء من الأشياء ، ولا على حال من الأحوال ، وهذا أمر مجتمع عليه ، وقد روى سعيد بن عبيدة ، عن ابن عمر فيه حديثا شديدا : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من حلف بغير الله فقد أشرك . ذكره أبو داود ، وغيره . [ ص: 367 ] وروى محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تحلفوا بآبائكم ، ولا بأمهاتكم ، ولا بالأنداد ، ولا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون . حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة فذكره ، والحلف بالمخلوقات كلها في حكم الحلف بالآباء لا يجوز شيء من ذلك ، فإن احتج محتج بحديث يروى عن إسماعيل بن جعفر ، عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبيد الله في قصة الأعرابي النجدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أفلح وأبيه إن صدق قيل له هذه لفظة غير محفوظة في هذا الحديث من حديث من يحتج به ، وقد روى هذا الحديث مالك ، وغيره ، عن أبي سهيل لم يقولوا ذلك فيه ، وقد روي عن إسماعيل بن جعفر هذا الحديث ، وفيه أفلح ، والله إن صدق ، أو دخل الجنة ، والله إن صدق ، وهذا أولى من رواية من روى وأبيه ، لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح وبالله التوفيق .

قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها ، لا يجوز الحلف بها لأحد ، واختلفوا في الكفارة [ ص: 368 ] هل تجب على من حلف بغير الله فحنث فأوجبها بعضهم في أشياء يطول ذكرها ، وأبى بعضهم من إيجاب الكفارة على من حنث في يمينه بغير الله وهو الصواب عندنا ، والحمد لله ، وأما الحلف بالطلاق ، والعتق فليس بيمين عند ( أهل ) التحصيل ، والنظر ، وإنما هو طلاق بصفة ، أو عتق بصفة إذا أوقعه موقعا وقع على حسبما يجب في ذلك عند العلماء ، كل على أصله ، وقول المتقدمين الأيمان بالطلاق والعتق ، إنما هو كلام خرج على الاتساع والمجاز والتقريب ، وأما الحقيقة فإنما هو طلاق على صفة ما وعتق على صفة ، ولا يمين في الحقيقة إلا بالله عز وجل ، وأما من حلف بصدقة ماله ، أو نحو ذلك ، فالذي يلزم منه ما قصد به فاعله إلى البر والقربة إلى الله عز وجل ، وهذا باب اختلف فيه العلماء قديما وحديثا ، وسنذكر ما لهم في ذلك من الأقوال ، والاعتلال في باب عثمان بن حفص بن خلدة من كتابنا هذا عند ذكر قصة أبي لبابة إن شاء الله .

ونذكر وجوه الأيمان وتقسيمها عند العلماء ، واللغو منها وغير اللغو ، وأحكام كفارتها في باب سهيل بن أبي صالح من كتابنا هذا ( أيضا ) إن شاء الله . ونذكر هاهنا معاني الأيمان بالله عز [ ص: 369 ] وجل خاصة ، لأن الغرض مما في كل باب من أبواب كتابنا هذا أن يتسع القول في أصوله ونوضحها ونبسطها ، ونلوح من فروعه بما يدل على المراد فيه إذ الفروع لا تحصى ، ولا تضبط إلا بضبط الأصول ، والله المستعان فالذي أجمع عليه العلماء في هذا الباب هو أنه من حلف بالله أو باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته ، أو بالقرآن ، أو بشيء منه فحنث ، فعليه كفارة يمين على ما وصف الله في كتابه من حكم الكفارة ، وهذا ما لا خلاف فيه عند أهل الفروع ، وليسوا في هذا الباب بخلاف ، وأجمع العلماء على أن تصريح اليمين بالله هو قول الحالف بالله أو والله أو تالله ، واختلفوا فيمن قال : والله والله والله ، أو والله والرحمن ، أو والرحمن والرحيم ، أو والله والرحيم الرحمن .

فتحصيل مذهب مالك ، وأصحابه في ذلك ، وهو قول الأوزاعي ، والبتي : أنها يمين واحدة أبدا إذا كرر شيئا مما ذكرنا إلا أن يكون أراد استثناء يمين فيكون كذلك ، وسواء كان [ ص: 370 ] ذلك في مجلس واحد أو مجالس ، وقال الشافعي : في كل يمين كفارة إلا أن يكون أراد التكرار ، وقال أبو حنيفة : إذا قال : والله والرحمن فهما يمينان ، إلا أن يكون أراد اليمين الأولى ، فتكون يمينا واحدة ، ولو قال : والله الرحمن كانت يمينا واحدة .

قال أبو عمر : لا يختلفون فيمن قال : والله العظيم الرحمن الرحيم ، ونحو هذا من صفاته عز وجل ، أنها يمين واحدة ، وإنما اختلفوا إذا أدخل الواو ، وقال زفر : إذا قال : والله الرحمن كانت يمينا واحدة ، وقال أبو حنيفة : من حلف في شيء واحد مرارا في مجلس واحد ، فإن كان أراد التكرار ، فهي يمين واحدة ، وإن لم تكن له نية ، وأراد التغليظ فهما يمينان ، وإن حلف في مجلسين فهما يمينان ، وقال الثوري : هي يمين واحدة ، وإن كان في مجالس إلا أن يكون أراد يمينا أخرى ، وقال الحسن بن حي إن قال : والله لا أكلم ( فلانا ) ، والله والله لا أكلم فلانا فيمين واحدة ، وإن قال : والله لا أكلم فلانا ثم قال : والله لا أكلم فلانا فيمينان ، وقال أحمد بن حنبل : من حلف على شيء واحد بأيمان كثيرة في مجلس ، أو مجالس فحنث فإنما عليه كفارة واحدة . [ ص: 371 ] وأجمعوا أنه إذا أقسم بالله أنها يمين ، واختلفوا فيمن قال : أقسم أو أشهد أو أعزم أو أحلف ، ولم يقل بالله ولكنه أراد بالله فقال مالك : كل هذه الألفاظ يمين إذا أراد بالله ، وإن لم يرد بالله فليس شيء منها بيمين ، وروي عن مالك أنه ضعف أعزم بالله وكأنه لم يره يمينا إلا أن يكون أراد اليمين ، لأنه قد يكون على وجه الاستعانة كأنه يقول : أستعين بالله ، أو بحول الله ، وهذا ليس بيمين عند أحد ، وقال الشافعي : أقسم بالله ، أو أقسمت بالله ، أو أشهد بالله ، أو أعزم بالله يمين إذا أراد بها اليمين ، وليست بيمين إن لم يرد بها يمينا ، وليس أقسم وأشهد وأحلف يمينا إذا لم يقل بالله . هذه رواية المزني عنه . وروى عنه الربيع نحو قول مالك أنه إذا قال : أقسم ، أو أشهد ، أو أعزم فهو يمين ، وإن لم يقل بالله إذا أراد بالله وأراد به اليمين قال الربيع ، وقال الشافعي : وإن قال : أحلف بالله فليس بيمين إلا أن ينوي اليمين ، لأنه يحتمل أن يريد سأحلف بالله ، وقال أبو حنيفة : أقسم وأشهد وأعزم وأحلف كلها أيمان ، وإن لم يقل بالله وهو قول الثوري ، والأوزاعي وقول الحسن ، والنخعي .

واختلفوا فيمن حلف بحق الله أو بعهد الله أو ميثاقه ، أو نحو ذلك فقال مالك : من حلف بحق الله فهي يمين قال : [ ص: 372 ] وكذلك عهد الله وميثاقه وكفالته وعزته ، وقدرته وسلطانه وجميع صفات الله وأسمائه هي أيمان كلها فيها الكفارة ، وكذلك لعمر الله وايم الله ، وقال الشافعي في : وحق الله وجلال الله وعظمته وقدرته يمين إن نوى بها اليمين ، وإن لم يرد اليمين فليست بيمين ، لأنه يحتمل ، وحق الله واجب ، وقدرة الله ماضية ، وقال في : " أمانة الله " ليست بيمين ، وفي لعمر الله وايم الله إن لم يرد بها اليمين فليست بيمين ، وقال الأوزاعي : من قال : لعمر الله وايم الله لأفعلن كذا ثم حنث فعليه كفارة يمين ، وقال أبو حنيفة : إن قال : وحق الله فهي يمين فيها كفارة ، وقال محمد بن الحسن ليست بيمين ، ولا فيها كفارة ، وقال الرازي قول أبي حنيفة في هذا مثل قول محمد ليست بيمين ، وكذلك عهد الله وميثاقه وأمانته ليست بيمين ، وقال أبو حنيفة : في قوله ( إنا عرضنا الأمانة ) هي الأيمان ، والشرائع ، وقال بعض أصحابه هي يمين ، وقال الطحاوي ليست بيمين ، وقال الشافعي : من حلف بالقرآن فحنث فعليه الكفارة ، وقال أحمد بن حنبل من حلف بالقرآن ، أو بحق القرآن فحنث لزمته بكل آية كفارة وأجمعوا أن الاستثناء في اليمين بالله عز وجل جائز ، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله من الطلاق ، والعتق [ ص: 373 ] ، وغير ذلك وما أجمعوا عليه فهو الحق ، وإنما ورد التوقيف في الاستثناء في اليمين بالله لا في غير ذلك . حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من حلف فقال : إن شاء الله .

فقد استثنى .
وأيوب هذا هو أيوب بن موسى الأموي ، وقد روى هذا الحديث أيوب السجستاني ، عن نافع ، عن ابن عمر حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ومسدد قالا : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حلف فاستثنى ، فإن شاء رجع ، وإن شاء ترك . وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث . وروى مالك ، عن نافع [ ص: 374 ] ، عن ابن عمر قال : من قال : والله ثم قال : إن شاء الله لم يحنث .

أخبرنا سعيد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن دحيم بن خليل ، حدثنا أبو عروبة ، قال : حدثنا الحسين بن سيار ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من حلف فقال : إن شاء الله فلا حنث عليه . جعله مالك موقوفا على ابن عمر وأجمعوا أن الاستثناء إن كان في نسق الكلام دون انقطاع بين في اليمين بالله أنه جائز ، واختلفوا فيه إذا كان بعد سكوت وطول .

التالي السابق


الخدمات العلمية