التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1597 [ ص: 5 ] حديث خامس وأربعون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من شرب الخمر في الدنيا ، فلم يتب منها ، حرمها في الآخرة .


في هذا الحديث دليل على تحريم الخمر ، وعلى أن شربها من الكبائر ، لأن هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة ، لأن الله - عز وجل - أخبر أن الجنة فيها وأنهار من خمر لذة للشاربين لا يصدعون عنها ولا ينزفون والظاهر أن من دخل الجنة لا بد له من شرب [ ص: 6 ] خمرها ، ولا يخلو من حرم الخمر في الجنة ، ولم يشربها فيها ، وهو قد دخلها من أن يكون يعلم أن فيها خمرا لذة للشاربين ، وأنه حرمها عقوبة ، أو لا يكون يعلم بها ، فإن يكن لا يعلم بها ، فليس في هذا شيء من الوعيد ، لأنه إذا لم يعلم بها ، ولم يذكرها ، ولا رآها لم يجد ألم فقدها ، فأي عقوبة في هذا ، ويستحيل أن يخاطب الله ورسوله بما لا معنى له ، وإن يكن عالما بها ، وبموضعها ، ثم يحرمها عقوبة لشربه لها في الدنيا إذ لم يتب منها قبل الموت ، وعلى هذا جاء الحديث ، فإن كان هذا هكذا فقد لحقه حينئذ حزن ، وهم ، وغم لما حرم من شربها ( هو ) ، ويرى غيره يشربها ، والجنة دار لا حزن فيها ، ولا غم ، قال الله - عز وجل - : لا يمسهم فيها نصب وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقال وفيها ما تشتهيه الأنفس ، ولهذا والله أعلم ، قال بعض من تقدم : إن من شرب الخمر ، ولم يتب منها لم يدخل الجنة لهذا الحديث ، ومثله .

[ ص: 7 ] وهذا مذهب غير مرض ، عندنا إذا كان على القطع في إنفاذ الوعيد ، ومحمله - عندنا - أنه لا يدخل الجنة إلا أن يغفر له إذا مات غير تائب عنها كسائر الكبائر ، وكذلك قوله لم يشربها في الآخرة معناه - عندنا - إلا أن يغفر له ، فيدخل الجنة ، ويشربها ، وهو - عندنا - في مشيئة الله إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه بذنبه ، فإن عذبه بذنبه ، ثم دخل الجنة برحمته لم يحرمها إن شاء الله ومن غفر له ، فهو أحرى أن لا يحرمها - والله أعلم - .

وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله - عليه السلام - حرمها في الآخرة ، أي جزاؤه ، وعقوبته أن يحرمها في الآخرة ، ولله أن يجازي عبده المذنب على ذنبه ، وله أن يعفو عنه ، فهو أهل العفو ، وأهل المغفرة لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وهذا الذي عليه عقد أهل السنة أن الله يغفر لمن يشاء ما خلا الشرك ، ولا ينفذ الوعيد على أحد من أهل القبلة ، وبالله التوفيق .

وجائز أن يدخل الجنة إذا غفر الله له ، فلا يشرب فيها خمرا ، ولا يذكرها ، ولا يراها ، ولا تشتهيها نفسه - والله أعلم - .

[ ص: 8 ] وقد روي عن أبي سعيد الخدري من لبس الحرير في الدنيا ، ودخل الجنة لم يلبسه هو فيها من بين سائر أهلها هذا ، ومعناه روي عنه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثنا قتادة ، عن داود السراج ، عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ، ولم يلبسه هو . ورواه أبو داود الطيالسي ، عن هشام بإسناده مرفوعا . ورواه شعبة ، عن قتادة ، عن داود ، عن أبي سعيد مثله موقوفا .

وقد روى جماعة ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة . وروي عن ابن الزبير أنه قال : من لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة ، لأن الله - عز وجل - قال في كتابه : ولباسهم فيها حرير . [ ص: 9 ] وهذا - عندي - على نحو المعنى الذي نزعنا به في شارب الخمر - والله أعلم - .

حدثنا عبد الرحمن بن مروان ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن سليمان الحريري ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا أبو الربيع العتكي الزهراني ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات ، ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة .

قال البغوي : كتب هذا الحديث أحمد بن حنبل ، عن أبي الربيع الزهراني .

قال أبو عمر : روى مالك ، وابن جريج هذا الحديث كله ، عن نافع بعضه مسندا ، وبعضه من قول ابن عمر ، وهو كله مسند صحيح ، وقد مضى القول فيه عند ذكر تحريم المسكر [ ص: 10 ] في باب إسحاق بن أبي طلحة من كتابنا هذا - والحمد لله - ، وأجمع العلماء على أن شارب الخمر ما لم يتب منها فاسق مردود الشهادة .

وذكر الأثرم ، قال : قلت لأحمد بن حنبل : لي جار يشرب الخمر أأسلم عليه ؟ فسكت ، ثم قال : سلم عليه ، ولا تجالسه .

حدثنا محمد بن عبد الملك ، قال : حدثنا ابن الأعرابي ، قال : حدثنا سعدان بن نصر ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو عن يحيى بن جعدة ، قال : قال عثمان بن عفان : إياكم والخمر ، فإنها مفتاح كل شر أتي رجل فقيل له : إما أن تحرق هذا الكتاب ، وإما أن تقتل هذا الصبي ، وإما أن تقع على هذه المرأة ، وإما أن تشرب هذه الكأس ، وإما أن تسجد لهذا الصليب ، قال : فلم ير فيها شيئا أهون من شرب الكأس ، فلما شربها سجد للصليب ، وقتل الصبي ، ووقع على المرأة ، وحرق الكتاب .

[ ص: 11 ] وأما التوبة من الخمر ، وغيرها من كبائر الذنوب فمبسوطة للمؤمن ما لم تحضره الوفاة ، ويعاين الموت ويغرغر ، فإذا بلغ هذه الحال ، فلا توبة له إن تاب حينئذ ، وتوبته مردودة عليه ، قال الله - عز وجل - : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن يعني المسلمين ، ثم قال : ولا الذين يموتون وهم كفار الآية يعني جماعة الكافرين .

وهذه الآية تفسر قوله - عز وجل - : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف يريد قبل حضور الموت على ما وصفنا ، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء ، لأن الله تعالى قد نص عليه في كتابه للمذنبين من المسلمين وللكفار أيضا .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم في قول الله - عز وجل - : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة . [ ص: 12 ] قالوا : كل ما عصي الله به ، فهو جهالة ، ومن عمل السوء وعصى الله ، فهو جاهل ثم يتوبون من قريب قالوا : ما دون الموت ، فهو قريب ، وهذا أيضا إجماع في تأويل هذه الآية فقف عليه .

ذكر وكيع ، عن سفيان ، عن يعلى بن النعمان ، عن ابن عمر قال : التوبة مبسوطة ما لم يسق العبد يقول يقع في السوق ، ولقد أحسن محمود الوراق - رحمه الله - حيث قال :


قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن     بادرنها علق النفوس فإنها
ذخر وغنم للمنيب المحسن



قال أبو عمر : التوبة أن يترك ذلك العمل القبيح بالنية والفعل ويعتقد أن لا يعود إليه أبدا ويندم على ما كان منه ، فهذه التوبة النصوح المقبولة إن شاء الله عند جماعة العلماء ، والله بفضله يوفق ويعصم من يشاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية