التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
738 [ ص: 124 ] [ ص: 125 ] حديث تاسع وأربعون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك قال : وقال عبد الله بن عمر : يزيد فيها لبيك لبيك ، لبيك وسعديك ، والخير بيديك والرغباء والعمل .


يقال : إنه لم يسمع أبو الربيع الزهراني من هذا الحديث ، حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي الدينوري ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، وحدثنا خلف ، حدثنا محمد بن عبد الله القاضي ، حدثنا موسى بن هارون الحمال قالا : حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن [ ص: 126 ] عمر قال : كانت تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .

هكذا روى هذا الحديث أبو الربيع الزهراني لم يذكر زيادة ابن عمر ، وكل من روى الموطأ ذكرها فيه ، وذكرها أيضا جماعة من غير رواة الموطأ :

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا علي بن الحسن بن غيلان ، حدثنا أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، قال : حدثنا أبو الربيع الزهراني وعبد الأعلى بن حماد النرسي ، قال أبو الربيع ، حدثنا مالك ، وقال عبد الأعلى قرأت على مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وزاد عبد الأعلى ، وكان ابن عمر يزيد فيها لبيك لبيك وسعديك ، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل .

هكذا رواه جماعة الرواة ، عن مالك ، وكذلك رواه أصحاب نافع أيضا ، ورواه ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي - عليه السلام - مثله سواء .

[ ص: 127 ] ورواه عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه ، عن النبي - عليه السلام - ، وروى عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله ، عن النبي - عليه السلام - مثل حديث ابن عمر هذا في تلبيته - صلى الله عليه وسلم - سواء دون زيادة ابن عمر من قوله : وفي حديث أبي هريرة زيادة لبيك إله الحق ، ومن حديث عمرو بن معدي كرب ، قال : لقد رأيتنا ونحن إذا حججنا نقول :


لبيك تعظيما إليك عذرا هذي زبيد قد أتتك قسرا     تعدو بها مضمرات شزرا
يقطعن خبتا وجبالا وعرا




قد خلفوا الأوثان خلوا صفرا



ونحن نقول اليوم كما علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
، فذكر التلبية على حسبما في حديث ابن عمر ، واختلفت الرواية في فتح إن في قوله : إن الحمد والنعمة لك ، وأهل العربية يختارون في ذلك الكسر ، وأجمع العلماء على القول بهذه التلبية ، واختلفوا في الزيادة فيها ، فقال [ ص: 128 ] مالك : أكره أن يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أحد قولي الشافعي .

وقد روي عن مالك أنه لا بأس أن يزاد فيها ما كان ابن عمر يزيده في هذا الحديث .

وقال الشافعي : لا أحب أن يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يرى شيئا يعجبه فيقول لبيك إن العيش عيش الآخرة .

وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور لا بأس بالزيادة في التلبية على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد فيها ما شاء .

قال أبو عمر : من حجة من ذهب إلى هذا ما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا جعفر يعني ابن محمد ، قال : حدثني أبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر التلبية بمثل حديث ابن عمر قال : والناس يزيدون لبيك ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي - عليه السلام - يسمع ، فلا يقول لهم شيئا .

[ ص: 129 ] ، واحتجوا أيضا بأن ابن عمر كان يزيد فيها ما ذكر مالك ، وغيره ، عن نافع في هذا الحديث ، وما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول بعد التلبية لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك مرهونا منك ومرغوبا إليك .

وعن أنس بن مالك أنه كان يقول في تلبيته :


لبيك حقا حقا     تعبدا وزقا



ومن كره الزيادة في التلبية احتج بأن سعد بن أبي وقاص أنكر على من سمعه يزيد في التلبية ما لم يعرفه ، وقال : ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحديث سعد في ذلك حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن عجلان قال : حدثني عبد الله بن أبي سلمة أن سعدا سمع رجلا يقول لبيك ذا المعارج ، فقال : إنه لذو المعارج ولكن لم يكن يقول هذا ونحن مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر : من زاد في التلبية ما يجمل ويحسن من الذكر ، فلا بأس ، ومن اقتصر على تلبية رسول الله - صلى الله [ ص: 130 ] عليه وسلم - ، فهو أفضل - عندي - ، وكل ذلك حسن - إن شاء الله عز وجل - ، وسنذكر ما للعلماء في رفع الصوت بالتلبية في باب عبد الله بن أبي بكر من كتابنا هذا - إن شاء الله - .

ومعنى التلبية إجابة الله فيما فرض عليهم من حج بيته والإقامة على طاعته فالمحرم بتلبيته مستجيب لدعاء الله ، إياه في إيجاب الحج عليه ، ومن أجل الاستجابة - والله أعلم - لبى ، لأن من دعي ، فقال : لبيك فقد استجاب ، وقد قيل إن أصل التلبية الإقامة على الطاعة يقال : منه ألب فلان بالمكان إذا أقام به .

وأنشد ابن الأنباري في ذلك :


محل الهجر أنت به مقيم     ملب ما تزول ولا تريم



وقال آخر :


لب بأرض ما تخطاها النعم



قال : وإلى هذا المعنى كان يذهب الخليل والأحمر .

قال أبو عمر : وقال جماعة من أهل العلم : إن معنى التلبية إجابة إبراهيم - عليه السلام - حين أذن بالحج في الناس ، ذكر سنيد ، قال : حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه [ ص: 131 ] ، عن ابن عباس ، قال : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له : أذن في الناس بالحج ، قال : رب ، وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن ، وعلي البلاغ فنادى إبراهيم ، أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، قال : فسمعه ما بين السماء والأرض أفلا ترون الناس يجيبون من أقطار البلاد يلبون ؟ قال : وحدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : وأذن في الناس بالحج ، قال : قام إبراهيم على مقامه ، فقال : يا أيها الناس أجيبوا ربكم ، فقالوا : لبيك اللهم لبيك ، فمن حج اليوم ، فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذ .

قال أبو عمر : معنى لبيك اللهم لبيك عند العلماء ، أي إجابتي إياك إجابة بعد إجابة ومعنى قول ابن عمر ، وغيره لبيك وسعديك ، أي أسعدنا سعادة بعد سعادة وإسعادا بعد إسعاد ، وقد قيل معنى سعديك مساعدة لك .

وأما قولهم لبيك إن الحمد والنعمة لك فيروى بفتح الهمزة وكسرها ، وكان أحمد بن يحيى ثعلب يقول : الكسر [ ص: 132 ] في ذلك أحب إلي ، لأن الذي يكسرها يذهب إلى أن الحمد والنعمة لك على كل حال والذي يفتح يذهب إلى أن المعنى لبيك ، لأن الحمد لك ، أي لبيك لهذا السبب .

قال أبو عمر : المعنى - عندي - واحد لأنه يحتمل أن يكون من فتح الهمزة أراد لبيك ، لأن الحمد لك على كل حال والملك لك والنعمة وحدك دون غيرك حقيقة لا شريك لك ، واستحب الجميع أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بإثر صلاة يصليها نافلة ، أو فريضة من ميقاته إذا كانت صلاة لا يتنفل بعدها ، فإن كان وقت صلاة لم يبرح حتى يحل وقت صلاة فيصلي ثم يحرم إذا استوت به راحلته ، وإن كان ممن يمشي ، فإذا خرج من المسجد أحرم ، وقال أهل العلم بتأويل القرآن في قول الله - عز وجل - : فمن فرض فيهن الحج قالوا : الفرض التلبية كذلك قال عطاء ، وعكرمة وطاوس ، وغيرهم ، وقال ابن عباس : الفرض الإهلال ، وهو ذلك بعينه والإهلال التلبية ، وقد ذكرنا معنى الإهلال في اللغة في باب موسى بن عقبة من كتابنا هذا بما يغني عن إعادته هاهنا ، وذكرنا هناك مسألة من معاني هذا الباب يجب الوقوف عليها .

[ ص: 133 ] وقال ابن مسعود : الفرض الإحرام ، وهو ذلك المعنى أيضا ، وكذلك قال ابن الزبير ، وقالت : عائشة لا إحرام إلا لمن أهل ولبى ، وقال الثوري : الفرض الإحرام ، قال : والإحرام التلبية ، قال : والتلبية في الحج مثل التكبير في الصلاة ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إن كبر ، أو هلل ، أو سبح ينوي بذلك الإحرام ، فهو محرم فعلى هذا القول التلبية عند الثوري وأبي حنيفة ركن من أركان الحج والحج إليها مفتقر ، ولا يجزئ منها شيء عندهم غيرها ، ولم أجد في هذه المسألة عن الشافعي وأصوله تدل على أن التلبية ليست من أركان الحج عنده .

وقال الشافعي : تكفي النية في الإحرام بالحج من أن يسمى حجا ، أو عمرة ، قال : وإن لبى بحج يريد عمرة فهي عمرة ، وإن لبى بعمرة يريد حجا ، فهو حج ، وإن لبى لا يريد حجا ، ولا عمرة ، فليس بحج ، ولا عمرة ، وإن لبى ينوي الإحرام ، ولا ينوي حجا ، ولا عمرة فله الخيار يجعله أينما شاء ، وإن لبى [ ص: 134 ] فقد نوى أحدهما فنسي ، فهو قارن لا يجزيه غير ذلك ، هذا كله قول الشافعي - رحمه الله - .

وذكر ابن خواز بنداد ، قال : قال مالك : النية بالإحرام في الحج تجزئ ، وإن نسي ، قال : وهو قول أبي حنيفة أنه إن نوى فكبر ولم يسم حجا ولا عمرة أجزته النية غير أن الإحرام عنده من شرطه التلبية ، ولا يصح عنده إلا بتلبية ، قال : وكذلك قال الثوري ، قال : وقال الحسن بن حي ، والشافعي : التلبية إن فعلها فحسن ، وإن تركها ، فلا شيء عليه .

قال أبو عمر : وذكر إسماعيل بن إسحاق ، عن أبي ثابت ، قال : قيل لابن القاسم أرأيت المحرم من مسجد ذي الحليفة إذا توجه من فناء المسجد بعد أن صلى فتوجه وهو ناس ، أيكون في توجهه محرما ؟ فقال ابن القاسم : أراه محرما فإن ذكر من قريب لبى ، ولا شيء عليه ، وإن تطاول ذلك عليه ، ولم يذكر حتى خرج من حجه رأيت أن يهريق دما قال إسماعيل بن إسحاق : وهذا يدل من قوله على أن الإهلال للإحرام ليس عنده بمنزلة التكبير للدخول في الصلاة ، لأن [ ص: 135 ] الرجل لا يكون داخلا في الصلاة إلا بالتكبير ويكون داخلا في الإحرام بالتلبية وبغير التلبية من الأعمال التي توجب الإحرام بها على نفسه مثل أن يقول قد أحرمت بالحج والعمرة ، أو يشعر الهدي ، وهو يريد بإشعاره الإحرام ، أو يتوجه نحو البيت ، وهو يريد بتوجهه الإحرام فيكون بذلك كله وما أشبهه محرما ، وقد مضى القول في الحين الذي يقطع فيه التلبية الحاج والمعتمر ، وإلى أين تنتهي تلبيته في باب محمد بن أبي بكر - والحمد لله - .

التالي السابق


الخدمات العلمية