التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
798 [ ص: 153 ] حديث حاد وخمسون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .


لا خلاف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولفظه : حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري ، حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .

[ ص: 154 ] وكذلك رواه ، أيوب وعبيد الله ، وغيرهم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر .

ورواه ابن شهاب فاختلف عليه فيه ، فرواه ابن عيينة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي - عليه السلام - .

ورواه معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وهذا يمكن أن يكون إسنادا آخر .

ورواه يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن حفصة .

ورواه زيد بن جبير ، عن ابن عمر قال : أخبرتني إحدى نسوة النبي - عليه السلام - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المحرم بقتل خمس من الدواب ، فذكر مثله سواء .

فأما رواية نافع ، عن ابن عمر لهذا الحديث فمقتصرة على إباحة قتل هذه الخمس المذكورات من الدواب للمحرم في حال إحرامه في الحل والحرم جميعا .

وأما رواية ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه لهذا الحديث ففيها لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم ، وهذا أعم [ ص: 155 ] ، لأنه يدخل فيه المحرم ، وغير المحرم في الحل والحرم ومعلوم أنه ما جاز للمحرم قتله فغير المحرم أحرى أن يجوز ذلك له ، ولكن لكل وجه منها حكم سنذكره في هذا الباب - إن شاء الله - .

قرأت على محمد بن إبراهيم أن محمد بن معاوية حدثهم ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عبيد الله بن سعيد ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن ، وهو حرام الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور والعقرب .

وكذلك رواه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله سواء وزاد ، قيل لنافع فالحية ؟ قال : الحية لا شك في قتلها ، وقال بعضهم عن أيوب : قلت لنافع : الحية ؟ قال : الحية لا يختلف في قتلها .

قال أبو عمر : ليس كما قال نافع ، وقد اختلف العلماء في جواز قتل الحية للمحرم ولكنه شذوذ ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلها للمحرم ، وغير المحرم في الحرم [ ص: 156 ] ، وغيره من وجوه سنذكر أكثرها في هذا الباب - إن شاء الله - . وليس في حديث ابن عمر عند أحد من الرواة ذكر الحية ، وهو محفوظ من حديث عائشة وحديث أبي سعيد ، وابن مسعود .

قرأت على سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا - والله - الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس من الدواب لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .

قال الحميدي : قيل لسفيان إن معمرا يرويه ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، فقال : حدثنا ، والله ، الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ما ذكر عروة ، عن عائشة .

قال أبو عمر : اتفق جمهور العلماء وجماعة الفقهاء على القول بجملة هذا الحديث ، واختلفوا في تفسير تلك الجملة وتخصيصها بمعان نذكرها - إن شاء الله - .

[ ص: 157 ] فأما ابن عيينة ، فقال : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلب العقور كل سبع يعقر ، قال : ولم يخص به الكلب .

قال سفيان : وفسره لنا زيد بن أسلم ، وكذلك قال أبو عبيد .

وروى زهير بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد ربه بن سيلان ، عن أبي هريرة ، قال : الكلب العقور الأسد .

وأما مالك ، فذكر رواة الموطأ عنه في الموطأ أنه قال : الكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم ، وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب ، فهو الكلب العقور ، قال : فأما ما كان من السباع لا تعدو مثل الضبع والثعلب ، وما أشبههن من السباع ، فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه ، قال مالك : وأما ما ضر من الطير ، فإنه لا يقتله المحرم إلا ما سمى النبي - عليه السلام - الغراب والحدأة ، وإن قتل شيئا من الطير سواهما ، وهو محرم ، فعليه جزاؤه .

[ ص: 158 ] قال أبو عمر : ليس هذا الباب عند مالك ، وأصحابه من باب ما يؤكل عنده من السباع ، وما لا يؤكل في شيء ، وقد ذكرنا مذهب مالك ، وغيره فيما يكره أكله من السباع ، وما لا يكره منها مستوعبا في باب إسماعيل بن أبي حكيم من كتابنا هذا فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .

وقال ابن القاسم : قال مالك : لا بأس أن يقتل المحرم السباع التي تعدو على الناس وتفترس ابتدأته ، أو ابتدأها جائز له قتلها على كل حال ، فأما صغار أولادها التي لا تفترس ، ولا تعدو على الناس ، فلا ينبغي للمحرم قتلها قيل لابن القاسم : فهل يكره مالك للمحرم قتل الهر الوحشي والثعلب والضبع ؟ قال : نعم قيل له : فإن ابتدأني الضبع ، أو الهر ، أو الثعلب ، وأنا محرم فقتلتها أعلي في قول مالك شيء ؟ قال : لا ، وهو رأيي ألا ترى أن رجلا لو عدا على رجل ، فأراد قتله فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء .

وقال أشهب : سألت مالكا ، أيقتل المحرم الغراب والحدأة من غير أن يضرا به ؟ فقال : لا ، إلا أن يضرا به إنما أذن في [ ص: 159 ] قتلهما إذا أضرا ، في رأيي ، فأما أن يصيبهما بدءا ، فلا أرى ذلك ، وهما صيد ، وليس للمحرم أن يصيد ، وليسا مثل العقرب والفأرة والغراب والحدأة صيد ، فلا يجوز أن يقتلا في الحرم خوف الذريعة إلى الاصطياد ، فإن أضرا بالمحرم ، فلا بأس أن يقتلهما قال : فقلت له : أيصيد المحرم الثعلب والذئب ؟ قال : لا ، ثم قال : والله ، ما أدري أعلى هذا أصل رأيك أم تتجاهل ؟ قلت : ما أتجاهل ، ولكن ظننت أن تراه من السباع ، قال مالك : وكل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع ، وما أشبهها ، فلا يقتله المحرم ، وإن قتله وداه ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن في قتل السباع وإنما أذن في قتل الكلب العقور ، قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ، وهي مثل فراخ الغربان أيذهب يصيدها ؟ !

وقال إسماعيل بن إسحاق : إنما قال ذلك مالك في أولاد السباع التي لا تعدو على الناس ، لأن الإباحة إنما جاءت في الكلب العقور ، وأولاده ليست تعقر ، فلا تدخل في هذا النعت ، قال : وقد جاء في حديث عائشة ، خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم [ ص: 160 ] فسماهن فساقا ووصفهن بأفعالهن ، لأن الفاسق فاعل والصغار لا فعل لهن ، قال : والكلب العقور يعظم ضرره على الناس ، قال : ومن ذلك الحية والعقرب ، لأنهما يخاف منهما قال : وكذلك الغراب والحدأة ، لأنهما يختطفان اللحم من أيدي الناس ، قال : وقد اختلف في الزنبور فشبهه بعضهم بالحية والعقرب ، قال : ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب ، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب ، قال : إنما يحمي الزنبور إذا أذي ، قال : فإن عرض الزنبور لإنسان فدفعه عن نفسه لم يكن عليه في قتله شيء ، قال : وقد جاء في الفأرة أنها تحرق على الناس بيوتهم ، قال : وقد رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصعد بالفتيلة إلى السقف ، فجاء فيها النص كما جاء في الكلب العقور ، قال : ولم يعن بالكلب العقور هذه الكلاب الإنسية ، قال : وإنما أرخص للمحرم في قتل هذه الدواب الوحشية ، قال : وإنما عنى بالكلب العقور - والله أعلم - ما عدا على الناس وعقرهم .

[ ص: 161 ] قال : وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال في عتبة بن أبي لهب سيسلط الله عليه ، أو اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فعدا عليه الأسد فقتله .

وحدثنا نصر بن علي ، قال : أخبرنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا الحجاج ، عن وبرة ، قال : سمعت ابن عمر يقول أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الذئب والغراب والفأرة قلت : فالحية والعقرب ؟ قال : قد كان يقال ذلك ، قال إسماعيل : فإن كان هذا الحديث محفوظا ، فإن ابن عمر جعل الذئب في هذا الموضع كلبا عقورا ، قال : وهذا غير ممتنع في اللغة والمعنى ، قال : وأما الحية فلو لم يأت فيها نص لدخلت في معنى العقرب ، وفي معنى الكلب العقور فكيف ، وقد جاء فيها النص .

حدثنا ابن نمير ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله ، قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ليلة عرفة فخرجت حية ، فقال : اقتلوا اقتلوا فسبقتنا . قال : وحدثنا علي ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي [ ص: 162 ] نعم ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقتل المحرم الأفعى والأسود والعقرب والحدأة والكلب العقور والفويسقة .

قال أبو عمر : الأسود المذكور هنا الحية هو اسم من أسمائها ، وفي هذا الحديث ذكر قتل المحرم الأفعى والحية وليس في حديث ابن عمر وإذا أضفتهما إلى الخمس الفواسق المذكورة في حديث ابن عمر صرن سبعا ، وفي ذلك دليل على أن الخمس لسن مخصوصات ، وأن ما كان في معناها فله حكمها ( فتدبر ) وسيأتي بيان هذا الباب في هذا كله ، ومعناه ، واختلاف العلماء فيه - إن شاء الله - .

وذكر ابن عبد الحكم ، عن مالك كل ما ذكرنا عنه من رواية أشهب ، وابن القاسم وزاد ، ولا يقتل المحرم الوزغ ، ولا قردا ، ولا خنزيرا ، ولا يقتل الحية الصغيرة ولا صغار الدواب ، ولا فراخ الغربان في وكرها ، فإن قتل ثعلبا ، أو صقرا ، أو بازيا فداه .

[ ص: 163 ] روى ابن وهب وأشهب ، عن مالك ، قال : أما ما ضر من الطير ، فلا يقتل منه المحرم إلا الذي سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغراب والحدأة ، قال : ولا أرى أن يقتل المحرم غرابا ، ولا حدأة إلا أن يضراه ، قال : ولا بأس بقتل الفأرة والحية والعقرب ، وإن لم تضره ، قال : ولا أرى أن يقتل المحرم الوزغ ، لأنه ليس من الخمس التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهن قيل ، فإن قتل المحرم الوزغ ، فقال : لا ينبغي له أن يقتله وأرى أن يتصدق إن قتله ، وهو مثل شحمة الأرض ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خمس من الدواب ، فليس لأحد أن يجعلها ستا ، ولا سبعا .

قال أبو عمر : لا خلاف ، عن مالك وجمهور العلماء في قتل الحية في الحل والحرم ، وكذلك الأفعى وذلك مستعمل بالنص وبمعنى النص عند جميعهم في هذا الباب فافهمه .

قال ابن القاسم : عن مالك إن طرح المحرم الحلمة ، أو القراد ، أو الحمنان أو البرغوث ، عن نفسه لم يكن عليه [ ص: 164 ] شيء ، قال : وقال مالك : في القملة حفنة من طعام ، قال : ولم أسمعه يحد أقل من حفنة طعام في شيء من الأشياء ، قال : وقال مالك : قول ابن عمر أنه كان يكره أن ينزع المحرم حلمة ، أو قرادا من بعيره أعجب إلي من قول عمر أنه كان يقرد بعيره ، وقال ابن أبي أويس : قال مالك : إنما يطرح المحرم عن نفسه القراد والنملة والذرة ، وما ليس من دواب جسده إذا كان ذلك يؤذيه ، قال : وأما دواب جسده ، فلا يلقي منها شيئا ، عن نفسه إلا أن يؤذيه شيء من ذلك فيطرحه من موضع من جسده إلى موضع غيره وينقل القملة من موضع من جسده إلى موضع منه إن شاء .

وسئل مالك عن الرجل يؤذيه القمل في إزاره ، وهو محرم ، أيضعه ويلبس غيره ؟ قال : نعم .

وقال ابن وهب : سئل مالك عن البعوض والبراغيث يقتلها المحرم أعليه كفارة ، فقال : إني أحب ذلك قال : وقال مالك : لا يصلح للمحرم أن يقتل قملة ، ولا يطرحها من رأسه إلى الأرض ، ولا من جلده ، ولا من بدنه ، فإن قتلها ، أو ألقاها أطعم قبضة من طعام ، قال : وقال لي مالك : يلقي المحرم القراد عن نفسه ، قال : وقال لي في محرم لدغته دبرة فقتلها ، وهو لا يشعر [ ص: 165 ] قال : أرى أن يطعم شيئا فقلت : أفرأيت النملة ، قال : كذلك أيضا ، فهذه جملة قول مالك في هذا الباب فتدبرها .

وجملة مذهبه عند أصحابه في هذا الباب أن المحرم لا يقرد بعيره ، ولا يطرح عنه شيئا من دوابه ، فإن طرح عن البعير قرادا أطعم ، ولا بأس عليه أن يرمي عن نفسه القراد ، لأنها ليست من دواب بني آدم ، ولا يطرح ، عن نفسه قملة ، لأنها منه وجائز أن يطرح عن نفسه جميع دواب الأرض مثل الحلمة والحمنان والنملة والذرة والبرغوث ، ولا يقتل شيئا من ذلك فإن قتل منه شيئا أطعم وجائز أن يطرح المحرم ، عن دابته العلقة ، لأنها ليست من دوابها المتعلقة فيها فهذا أصل مذهبه .

وقال أبو حنيفة : لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب والذئب خاصة ويقتلهما ابتدآه ، أو ابتدأهما لا شيء عليه في قتلهما وإن قتل غيرهما من السباع فداه ، قال : وإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله ، فلا شيء عليه ، وإن لم يبتدئه فداه إن قتله ، قال : ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والحدأة هذه جملة أبي حنيفة ، وأصحابه إلا زفر ، وقال زفر : لا يقتل [ ص: 166 ] إلا الذئب وحده ، ومن قتل غيره ، وهو محرم فعليه الفدية ابتدأه ، أو لم يبتدئه .

وقول الأوزاعي ، والثوري والحسن بن حي نحو قول أبي حنيفة ، قال الثوري : المحرم يقتل الكلب العقور ، قال : وما عدا عليك من السباع فاقتله وليس عليك كفارة ، قال : ويقتل المحرم الحدأة والعقرب ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه في كل ذي مخلب من الطير : إن قتله المحرم من غير أن يبتدئه فعليه جزاؤه ، وإن ابتدأه الطير ، فلا شيء عليه قالوا : وإن قتل المحرم الذئاب والقملة والبقة والحلمة والقراد ، فليس عليه شيء قالوا : ويكره قتل القملة ، فإن قتلها فكل شيء يصدق به ، فهو خير منها .

قال أبو عمر : قد احتج مالك - رحمه الله - لنفسه في هذا الباب في بعض مسائله ، واحتج له إسماعيل أيضا بما ذكرنا وجملة الحجة لمذهبه ومذهب العراقيين أيضا في ذلك عموم قول الله - عز وجل - : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما . [ ص: 167 ] فكل وحشي من الطير ، أو الدواب عندهم صيد ، وقد خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها ، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء ، فيدخل في معناها واستدلوا على أنه لم يرد بقوله : ( والكلب العقور ) جملة السباع ، لأنه أباح أكل الضبع ، وجعلها من الصيد ، وجعل فيها على المحرم إن قتلها كبشا ، وهي سبع ، وأما القملة ، وما كان مثلها مما يخرج من الجسد ، فليس من باب الصيد ، وإنما ذلك من باب التفث وحلاق الشعر .

وأما الشافعي - رحمه الله - ، فقال : كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله ، قال : وللمحرم أن يقتل الحية والعقرب والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور ، وما أشبه الكلب العقور مثل السبع والنمر والفهد والذئب ، قال : وصغار ذلك كله وكباره سواء ، قال : وليس في الرخمة ، والخنافس والقردان والحلم ، وما يؤكل لحمه جزاء ، لأن هذا ليس من الصيد ، قال : الله - عز وجل - : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فدل [ ص: 168 ] أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا ، لأنه لا يشبه أن يحرم في الإحرام خاصة إلا ما كان مباحا قتله ، قال : وما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله ، فلا يجوز أكله ، لأن ما عملت ( فيه ) الذكاة بالاصطياد ، أو الذبح لم يؤمر بقتله حكى هذه الجملة المزني والربيع وحكى الحسن بن محمد الزعفراني عنه ، قال : وما لا يؤكل لحمه على وجهين أحدهما عدو فليقتله المحرم ، وغير المحرم ، وهو مأجور عليه - إن شاء الله - .

وذلك مثل الأسد والنمر والحية والعقرب ، وكل ما يعدو على الناس ، وعلى دوابهم وطائرهم مكابرة فيقتل ذلك المحرم ، وغيره ، وإن لم يتعرضه ، وهو مأجور على قتله ، ومنها ما يضر من الطائر مثل العقاب والصقر والبازي ، فهو يعدو على طائر الناس فيضر فله أن يقتله أيضا ، وله أن يتركه ، لأن فيه منفعة ، وقد يؤلف ويتأنس فيصطاد ويسع المحرم ، وغيره تركه ، لأنه لا يؤكل ، ولم يرغب في قتله لمنفعته ، ومنها ما يؤذي ، ولا منفعة فيه بأكل لحمه ذلك فيقتل أيضا مثل [ ص: 169 ] الزنبور ، وما أشبهه ألا ترى أنه إذا قتل الفأرة والغراب والحدأة لمعنى الضرر كان ما هو أعظم ضررا منها ، أولى أن يقتل ، فإن قال قائل : فلم تفدى القملة ، وهي تؤذي ، وهي لا تؤكل ؟ قيل ليس تفدى إلا على ما يفدى الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه ، لأن في طرح القملة إماطة أذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته ، وكأنه أماط بعض شعره فأما إذا كانت ظاهرة فقتلت ، فإنها لا تودى ، وقال الربيع عنه : لا شيء على المحرم في قتله من الطير كل ما لا يحل أكله ، قال : وله أن يقتل من دواب الأرض ، وهوامها كل ما لا يحل أكله ، قال : والقملة ليست صيدا ، ولا مأكولة ، فلا تفدى بشيء إلا أن يطرحها المحرم عن نفسه فتكون كإماطة الأذى من الشعر والظفر ، وقول أبي ثور في هذا الباب كله مثل قول الشافعي سواء .

فهذه أقاويل أئمة الفتوى في أمصار المسلمين ، وقد جاء ، عن التابعين في هذا الباب أقاويل شاذة تخالفها السنة ، أو يخالف بعضها دليلا ، أو نصا ، فمن ذلك أن إبراهيم النخعي كره [ ص: 170 ] للمحرم قتل الفأرة ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أباح للمحرم قتلها ، وعليه جماعة الفقهاء ، وقال عطاء في الجرذ الوحشي : ليس بصيد فاقتله ، وهذا قول صحيح إلا أنه تناقض ، فقال في الكلب الذي ليس بعقور : إن قتله ضمنه بقيمته ومعلوم أن الجرذ الوحشي ليس بصيد ، وقال الحكم بن عتيبة ) وحماد بن أبي سليمان : لا يقتل المحرم الحية ، ولا العقرب رواه شعبة عنهما ومن حجتهما أن هذين من هوام الأرض ، فمن قال : بقتلهما لزمه مثل ذلك في سائر هوام الأرض ، وهذا أيضا لا وجه له ، ولا معنى ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أباح للمحرم قتلهما .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا علي بن بحر ، قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، قال : حدثنا محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس قتلهن حلال في الحرم الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور .

[ ص: 171 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو قلابة ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل حية بمنى .

وروى مجاهد ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه نحوه مرفوعا .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عمر بن علي بن حرب ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : سمعت الزهري يقول حدثني سالم ، عن أبيه أن عمر سئل عن الحية يقتلها المحرم ، فقال : هي عدو فاقتلوها حيث وجدتموها .

وروى شعبة ، عن مخارق بن عبد الله ، عن طارق بن شهاب ، قال : اعتمرت فمررت بالرمال فرأيت حيات فجعلت أقتلهن فسألت عمر ، فقال : هن عدو فاقتلوهن ، قال سفيان : وقال لنا زيد بن أسلم : ويحك ، أي كلب أعقر من الحية ؟ .

[ ص: 172 ] وقال عبد الرحمن بن حرملة : رأيت سالم بن عبد الله وهو محرم ضرب حية بسوطه حتى قتلها .

وقال السري بن يحيى : سألت الحسن ، أيقتل المحرم الحية ؟ قال : نعم ، وقالت طائفة : لا يقتل من الغربان إلا الغراب الأبقع خاصة .

واحتجوا بما حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس يقتلهن المحرم : الحية ، والفأرة ، والحدأة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور .

قال أبو عمر : الأبقع من الغربان الذي في ظهره ، أو بطنه بياض ، وكذلك الكلب الأبقع أيضا ، والغراب الأدرع ، والدرعي هو الأسود ، والغراب الأعصم هو الأبيض الرجلين ، وكذلك الوعل الأعصم عصمته بياض في رجله ، وقال مجاهد : ترمي الغراب ، ولا [ ص: 173 ] تقتله ، وقال به قوم ، واحتجوا بما أخبرناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل .

وأخبرنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثني يعقوب بن إبراهيم قالا جميعا ، حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال : الحية ، والعقرب ، والفويسقة ، ويرمي الغراب ، ولا يقتله والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي .

قال ابن جرير ، وحدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا مروان بن المغيرة ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن عامر بن هني ، عن محمد بن الحنفية ، عن علي أنه قال : يقتل المحرم الحية ، والعقرب ، والغراب الأبقع ، ويرمي الغراب ، والفويسقة ، والكلب العقور .

قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر ، وغيره أنه أباح للمحرم قتل الغراب [ ص: 174 ] ، ولم يخص أبقع من غيره ، فلا وجه لما خالفه ، لأنه لا يثبت ، وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر ، وما كان مثله في معناه من حديث أبي هريرة ، وغيره ، وأما حديث عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : في الغراب يرميه المحرم ، ولا يقتله ، فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع ، عن ابن عمر ، وسالم ، عن ابن عمر ، والحديث عن علي فيه أيضا ضعف ، ولا يثبت ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة ، وغيره أنه أباح للمحرم قتل الحية ، وهو قول عمر ، وعلي ، وجمهور العلماء .

وأما تقريد المحرم بعيره فأكثر العلماء على إجازة ذلك وتقريده رمي القراد ونزعه عنه ، وقتله .

روى مالك ، وغيره ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى عمر بن الخطاب يقرد بعيرا له في الطين بالسقيا يعني أنه كان يغرق القراد في الطين وينزعه ، عن بعيره ، وكذلك روي عن ابن عباس ، وجابر بن زيد وعطاء لا بأس أن يقرد المحرم [ ص: 175 ] بعيره ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، وبه قال أبو ثور ، وأحمد ، وإسحاق وداود ، وكان عبد الله بن عمر يكره للمحرم أن ينزع القراد عن بعيره ، واتبعه على ذلك مالك ، وأصحابه ، وقال الثوري : إذا كثر القمل على المحرم فقتلها كفر ، وقال أبو ثور : لا شيء على المحرم في قتل القمل قل ، أو كثر ، وكذلك قال داود ، وهو قول طاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وجابر بن زيد .

ذكر عبد الرزاق ، أخبرنا هشيم ، عن أبي بشر ، قال : سئل جابر بن زيد ، عن المحرم تسقط القملة على وجهه ، فقال : انبذها عنك ، أو عن وجهك ما حقها في وجهك ، قال : إذن تموت ، قال : موتها وحياتها بيد الله .

وقد روي عن عطاء أن في القملة حفنة من طعام كقول مالك سواء ، وهو قول قتادة .

وذكر عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران قال : كنت عند ابن عباس فسأله رجل [ ص: 176 ] قال : وجدت قملة ، وأنا محرم فطرحتها ، ثم ابتغيتها ، فلم أجدها ، فقال : تلك الضالة لا تبتغى .

وروى الثوري ، عن جابر ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : المحرم يقتل الهوام كلها غير القملة ، فإنها منه .

قال أبو عمر : احتج من كره أكل الغراب ، وغيره من الطير التي تأكل الجيف ، ومن كره أكل هوام الأرض أيضا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أنه أمر بقتل الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والحية ، والفأرة ، قال : وكل ما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله ، فلا يجوز أكله .

هذا قول الشافعي ، وأبي ثور ، وداود ، وهذا باب اختلف العلماء فيه قديما ، وحديثا ، فأما اختلافهم في ذوي الأنياب من السباع فقد مضى القول في ذلك مستوعبا في باب إسماعيل بن أبي حكيم من كتابنا هذا .

وأما اختلافهم في أكل ذي المخلب من الطير ، فقال مالك : لا بأس بأكل سباع الطير كلها الرخم ، والنسور ، والعقبان ، وغيرها ما أكل الجيف منها ، وما لم يأكل ، قال : ولا بأس [ ص: 177 ] بأكل لحوم الدجاج الجلالة ، وكل ما تأكل الجيف ، وهو قول الليث بن سعد ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وأبي الزناد ، قال مالك : ولا تؤكل سباع الوحش كلها ، ولا الهر الوحشي ، ولا الأهلي ، ولا الثعلب ، والضبع ، ولا شيء من السباع .

وقال الأوزاعي : الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم ، وحجة مالك في هذا الباب أنه ذكر أنه لم ير أحدا من أهل العلم يكره أكل سباع الطير ، وأنكر الحديث عن النبي - عليه السلام - أنه نهى عن أكل ذي المخلب من الطير .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا يوسف بن يعقوب ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا الحجاج بن أرطاة ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : كل الطير كله ، قال : وحدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : سألت عطاء ، عن الطير ، فقال : كله كله ، والحجاج بن أرطاة ليس بحجة فيما نقل .

وقال مالك : لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت ، وهو قول ابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، إلا أنهما لم يشترطا فيها الذكاة .

[ ص: 178 ] وقال ابن القاسم ، عن مالك : لا بأس بأكل الضفدع ، قال ابن القاسم : ولا بأس بأكل خشاش الأرض ، وعقاربها ، ودودها في قول مالك ، لأنه قال : موته في الماء لا يفسده .

وقال الليث : لا بأس بأكل القنفذ ، وفراخ النحل ، ودود الجبن ، والتمر ، ونحو ذلك ، ومما يحتج به لقول مالك ، ومن تابعه في ذلك حديث ملقام بن التلب ، عن أبيه ، قال : صحبت النبي - عليه السلام - ، فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما ، ويحتج كذلك أيضا بقول ابن عباس ، وأبي الدرداء ما أحل الله فهو حلال ، وما حرم الله فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يؤكل ذو الناب من السباع ، ولا يؤكل ذو المخلب من الطير ، وكرهوا أكل هوام الأرض نحو اليربوع ، والقنفذ ، والفأر ، والحيات ، وجميع هوام الأرض ، وحجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطير .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا أبو عوانة [ ص: 179 ] ، عن أبي بشر ، عن ميمون بن مهران ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن كل ذي مخلب من الطير .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا من حديث علي ، وغيره ، وأحسنها إسنادا حديث ابن عباس هذا .

وقال الشافعي : المحرم من كل ذي ناب ما عدا على الناس كالنمر ، والذئب ، والأسد ، وما شاكل ذلك قال : وهي السباع المعروفة ، قال : والمحرم من ذي المخلب أيضا كذلك ما عدا على طيور الناس ، فلا يؤكل شيء من ذلك أيضا كالشاهين ، والبازي ، والعقاب ، وما أشبه ذلك قال : وأما الضبع ، والثعلب ، والهر ، فلا بأس بأكلها ويفديها المحرم إن قتلها ، قال : وكل ما لم يكن أكله إلا العذرة ، والجيف ، والميتات من الدواب ، والطيور ، فإني أكره أكله للنهي عن الجلالة ، قال : ولو قصرت أياما حتى يغلب عليها أكل الطاهر وخرجت عن حكم الجلالة جاز أكلها .

[ ص: 180 ] قال أبو عمر : هذا عنده فيما عدا السباع العادية ، وما عدا سباع الطير التي تعدو على الطيور ، فإن هذه عنده لا تؤكل قصرت أم لم تقصر لورود النهي عنه بالقصد إليها .

قال الشافعي : الجلالة المكروه أكلها إذا لم يكن أكله غير العذرة ، أو كانت العذرة أكثر أكله ، فإن كان أكثر أكله وعلفه غير العذرة لم أكرهه ، قال : وكل ما كانت العرب تستقذره ، وتستخبثه ، فهو من الخبائث التي حرم الله كالذئب ، والأسد ، والغراب ، والحية ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، لأنها دواب تقصد الناس بالأذى ، فهي محرمة ، من الخبائث مأمور بقتلها ، قال : وكانت العرب تأكل الضبع والثعلب ، لأنهما لا يعدوان على الناس بنابهما فهما حلال .

قال أبو عمر : قد تقدم القول في السباع المأكولة ، وغير المأكولة ، وما لأهل العلم في ذلك من الائتلاف ، والاختلاف مبسوطا ممهدا في باب إسماعيل بن أبي حكيم ، فلا معنى لإعادة ذلك هاهنا .

وحجة الشافعي فيما ذهب إليه في هذا الباب نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي ناب من السباع .

[ ص: 181 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا إبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، قالا جميعا ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عيسى بن ثميلة الفزاري ، عن أبيه ، قال : كنت جالسا مع عبد الله بن عمر فسئل عن القنفذ ، فتلا ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ) الآية ، قال : فقال إنسان ، وفي حديث أبي داود ، فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنما هو خبيثة من الخبائث ، فقال ابن عمر : إن كان قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال .

( قال أبو عمر : قد تقدم القول في تأويل قول الله - عز وجل - : ( قل لا أجد في ما أوحي إلي ) الآية بما في ذلك من الوجوه في باب إسماعيل بن أبي حكيم من كتابنا هذا - والحمد لله - .

[ ص: 182 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها .

ومن حديث أيوب السختياني ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة من الإبل أن يركب عليها ، أو يشرب من ألبانها .

وروى جابر ، وابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا شبابة ، عن مغيرة بن مسلم ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمها ، أو يشرب لبنها .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ابن المسيب ، قال : حدثني أبو [ ص: 183 ] عامر ، قال : حدثني هشام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبن الجلالة .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن يزيد ، حدثنا يزيد بن محمد ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبن الجلالة ، وعن لحومها ، وعن أكل المجثمة .

ورواه شعبة ، عن قتادة بإسناده مثله .

ومن حجة الشافعي ، ومن قال بقوله أيضا في هذا الباب أنه ما يجوز أكله فلا يحل قتله ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل عصفورا بغير حقه عذب ، أو نحو هذا ، قيل : فما حقه يا رسول الله ؟ قال : يذبحه ، ولا يقطع رأسه ، حدثناه سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عمرو بن دينار ، قال : أخبرنا صهيب مولى عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب [ ص: 184 ] قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل عصفورة فما فوقها بغير حقها سأله الله عن قتلها ، قالوا : يا رسول الله ، وما حقها ؟ قال : أن تذبحها ، فتأكلها ، ولا تقطع رأسها فترمي به ، قال الحميدي : فقيل لسفيان إن حمادا يقول عن عمرو أخبرني صهيب الحذاء ، قال : ما سمعت عمرا قط قال صهيب الحذاء ما قال إلا مولى عبيد الله بن عامر ، قالوا : ففي هذا أوضح الدلائل أن كل ما يحل أكله ، فلا يجوز قتله ، قالوا : وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والحية ، والفأرة في الحل ، والحرم ، فلا يجوز أكل شيء من هذه ، وما كان مثلها قالوا : وكل ما لا يجوز أكله فلا بأس بقتله في الحرم ، والحل لمن شاء ، وذكروا ما حدثنا به محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا وكيع ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : [ ص: 185 ] الغراب ، والحدأة ، والكلب العقور ، والعقرب ، والفأرة .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا حمزة ( بن محمد ) ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا النضر بن شميل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، قال : سمعت سعيد بن المسيب يحدث ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية ، والكلب العقور ، والغراب الأبقع ، والحدية ، والفأرة .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا عمر بن حفص بن أبي تمام ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : من يأكل الغراب ، وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسقا ؟ والله ما هو من الطيبات .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : كره رجال من أهل العلم أكل الحدأة ، والغراب حيث سماهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فواسق الدواب التي تقتل في الحرم .

[ ص: 186 ] قال أبو عمر : من كره أكل الغراب ، والفأرة ، وسائر ما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسقا جعل ذلك من باب أمره بقتل الوزغ وتسميته له فويسقا ، والوزغ مجتمع على تحريم أكله .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم شريك قالت : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الأوزاغ .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثني عبد الحميد بن جبير بن شيبة الحجبي ، أنه سمع ابن المسيب يقول أخبرتني أم شريك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأوزاغ .

وحدثنا خلف بن القاسم ، قال : أخبرني الحسن بن الخضر الأسيوطي ، قال : حدثنا القاسم بن عبد الله بن [ ص: 187 ] مهدي ، قال : حدثني أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه أن النبي - عليه السلام - أمر بقتل الوزغ ، وسماه فويسقا .

وأخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : للوزغ فويسق ، ولم أسمعه أمر بقتله .

ورواه ابن وهب ، عن مالك ، ويونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : للوزغ الفويسق لم يزد .

قال أبو عمر : وليس قول من قال : لم أسمع الأمر بقتل الوزغ بشهادة ، والقول قول من شهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ ، وقد أجمعوا أن الوزغ ليس بصيد ، وأنه ليس مما أبيح أكله .

[ ص: 188 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، ( قال : حدثنا أبو داود ) ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : أمر رسول الله - عليه السلام - بقتل الوزغ ، وسماه فويسقا ، والآثار في قتل الوزغ كثيرة جدا ، وأما الآثار في قتل الحيات جملة في الحل وغيره فلها مواضع من كتابنا في حديث نافع ، وغيره ، وستأتي - إن شاء الله - .

أخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن فضيل .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة ، قال : حدثنا مسلم بن قتيبة جميعا ، عن همام بن يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السوس منه وينقيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية