التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
901 [ ص: 232 ] [ ص: 233 ] حديث ثالث وخمسون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : اللهم ارحم المحلقين قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قالوا : والمقصرين .


هكذا هذا الحديث عندهم جميعا ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه سائر أصحاب نافع لم يذكر واحد من رواته فيه أنه كان يوم الحديبية ، وهو تقصير ، وحذف ، والمحفوظ في هذا الحديث أن دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة إنما جرى يوم الحديبية حين صد عن البيت فنحر وحلق ودعا للمحلقين [ ص: 234 ] ، وهذا معروف مشهور محفوظ من حديث ابن عمر ، وابن عباس ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وحبشي بن جنادة ، وغيرهم .

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة ، قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : حدثنا الوليد ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي إبراهيم الأنصاري ، قال : حدثنا أبو سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثا ، وللمقصرين مرة .

أخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر ، حدثنا مسلمة بن قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد الأصبهاني ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا هشام ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي إبراهيم الأنصاري ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حلقوا رءوسهم يوم الحديبية إلا عثمان بن عفان ، وأبا قتادة ، واستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاثا ، وللمقصرين مرة .

ووجدت في أصل سماع أبي بخطه - رحمه الله - أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان الأعناقي ، قال : حدثنا نصر بن مرزوق ، قال : حدثنا أسد [ ص: 235 ] بن موسى ، قال : حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : حلق رجال يوم الحديبية ، وقصر آخرون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رحم الله المحلقين قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ، قال : رحم الله المحلقين قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ، ( قال : رحم الله المحلقين ) ، قال : والمقصرين قالوا : ( يا رسول الله ، ) فما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم ؟ قال : لم يشكوا .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى ، ( قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زيان ) ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : أخبرنا ابن إسحاق ، فذكر بإسناده مثله .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن [ ص: 236 ] أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقد ثبت أن ذلك كان عام الحديبية حين حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنع من النهوض إلى البيت وصد عنه ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء ، فقال : منهم قائلون إذا نحر المحصر هديه ، فليس عليه أن يحلق رأسه ، لأنه قد ذهب عنه النسك كله .

واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا ، والمروة ، وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه ، لأنه إذا طاف بالبيت حل له أن يحلق فيحل له بذلك الطيب واللباس ، فلما سقط عنه ذلك كله بالإحصار سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر ، وممن قال : بهذا القول ، واحتج بهذه الحجة أبو حنيفة ، ومحمد الحسن قالا : ليس على المحصر تقصير ، ولا حلاق ، وقال أبو يوسف : يحلق المحصر ، فإن لم يحلق ، فلا شيء عليه وخالفهما آخرون ، فقالوا : يحلق المحصر رأسه بعد أن ينحر هديه وذلك واجب عليه كما يجب على الحاج والمعتمر سواء .

[ ص: 237 ] ومن الحجة لهم أن الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار قد منع من ذلك كله المحصر ، وقد صد عنه فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه .

وأما الحلاق ، فلم يحل بينه وبينه ، وهو قادر على أن يفعله ، وما كان قادرا على أن يفعله ساقط عنه ، وإنما يسقط عنه ما حيل بينه وبين عمله ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور في هذا الباب ما يدل على أن حكم الحلق باق على المحصرين كما هو على من قد وصل إلى البيت سواء لدعائه للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة ، وهو الحجة القاطعة ( والنظر الصحيح ) وإلى هذا ذهب مالك ، وأصحابه فالحلاق عندهم نسك يجب على الحاج الذي قد أتم حجه ، وعلى من فاته الحج ، ( وعلى ) المحصر بعدو والمحصر بمرض .

وقد حكى ابن أبي عمران ، عن ابن سماعة ، عن أبي يوسف في نوادره أن عليه الحلاق ، أو التقصير لا بد له منه .

واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين أحدهما : أن الحلاق للمحصر من النسك ، والآخر : ليس من النسك .

[ ص: 238 ] واختلف العلماء في المحصر هل له أن يحلق ، أو يحل بشيء في الحل قبل أن ينحر ما استيسر من الهدي ؟ فقال مالك : السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها - عندنا - أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه ، قال - عز وجل - في كتابه : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) ، ومعنى هذا من قوله : فيمن أتم حجه لا في المحصر ، لأنه قد تقدم قوله في المحصر أنه لا هدي عليه إن لم يكن ساقه معه ، والحلاق عنده للحج وللمعتمر سنة ، وعلى تاركه الدم ، والتحلل في مذهبه عند أصحابه لا يتعلق بالحلاق ، وإنما التحلل الرمي ، أو ذهاب زمانه ، أو طواف الإفاضة ، فمن تحلل في الحل من المحصرين كان حلاقه فيه ، ومن تحلل في الحرم كان حلاقه فيه والاختيار أن يكون الحلاق بمنى ، فإن لم يكن فبمكة وحيثما حلق أجزأه من حل ، وحرم ، ويجب حلاق جميع الرأس ، أو تقصير جميعه ، والحلاق أفضل إلا أن النساء لا يجوز لهن غير التقصير ، وحلاقهن معصية عنده إن لم يكن لضرورة ، ويجوز للمريض أن يحلق ، ويفتدي ، وينقص ذلك إحرامه ، وجميع محرمات الحج لا يفسدها إلا الجماع ، وقد ذكرنا أحكام الفدية على من حلق رأسه من مرض ، وغيره في بابحميد بن قيس - والحمد لله - .

[ ص: 239 ] وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم ، ويعود حراما كما كان حتى ينحر هديه ، وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء قالوا : وهو الموسر في ذلك ، والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر ، أو ينحر عنه قالوا : وأقل ما يهديه شاة لا عمياء ، ولا مقطوعة الأذنين ، وليس هذا عندهم موضع صيام ، ولا إطعام .

وقال الشافعي في المحصر : إذا أعسر بالهدي فيه قولان ( أحدهما ) لا يحل أبدا إلا بهدي ، والقول الآخر أنه مأمور بأن يأتي بما قدر عليه ، فإن لم يقدر على شيء خرج بما عليه ، وكان عليه أن يأتي به إذا قدر عليه ، قال : ومن قال هذا قال : يحل مكانه ، ويذبح إذا قدر ، فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يجزه أن يذبح إلا بها ، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر ، قال : ويقال لا يجزيه إلا هدي ، ويقال : إذا لم يجد هديا كان عليه الإطعام ، أو الصيام ، وإن لم يجد واحدا من هذه الثلاث أتى بواحد منها إذا قدر .

[ ص: 240 ] وقال في العبد : لا يجزيه إلا الصوم إذا أحصر تقوم له الشاة دراهم ، ثم الدراهم طعاما ، ثم يصوم عن كل مد يوما قال : والقول في إحلاله قبل الصوم واحد من قولين أحدهما : يحل ، والآخر : لا يحل حتى يصوم ، والأول أشبههما بالقياس ، لأنه أمر بالإحلال للخوف ، فلا يؤمر بالإقامة على خوف ، والصوم يجزئه هذا كله ، قوله : رواه المزني ، والربيع عنه ، وقال ببغداد في العبد : يعطيه سيده في التمتع ، والقران هديا ، ذكر فيها الوجهين ، قال : وفيها قول آخر : إن أذن له بالتمتع ليس يلزمه الدم رواه الحسن بن محمد الزعفراني عنه ، وذكر الربيع عنه في المحصر أنه لو ذبح ، ولم يحلق حتى زال خوف العدو لم يكن له الحلاق ، وكان عليه الإتمام ، لأنه لم يحل حتى صار غير محصور ، قال : وهذا قول من قال : لا يكمل إحلال المحرم إلا بحلاق ، قال : ومن قال يكمل إحلاله قبل الحلاق ، والحلاق أول الإحلال ، فإنه يقول إذا ذبح فقد حل وليس عليه أن يمضي إلى وجهه إذا ذبح .

التالي السابق


الخدمات العلمية