التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
897 [ ص: 297 ] حديث حاد وستون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأن الناس حلوا وأنت لم تحلل ؟ فقال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر .


كهذا قال يحيى في هذا الحديث ما شأن الناس حلوا وأنت لم تحل من عمرتك ؟ وتابعه جماعة من الرواة منهم عتيق الزبيري ، وعبد الله بن يوسف التنيسي ، والقعنبي ، وابن بكير ، وأبو مصعب .

وقال ابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك في هذا الحديث : ما شأن الناس حلوا بعمرة ، ولم تحل أنت من عمرتك ، والمعنى واحد عند أهل العلم ، ولم يختلف الرواة عن مالك في قوله : [ ص: 298 ] ولم تحل أنت من عمرتك ، وزعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث : " عن نافع ، ولم تحل أنت من عمرتك " إلا مالك وحده ، وجعل هذا القول جوابا لسائله عن معنى هذا الحديث .

قال أبو عمر : فلا أدري ممن أتعجب من المسئول الذي استحيا أن يقول لا أدري ، أو من السائل الذي قنع بمثل هذا الجواب - والله المستعان - وهذه اللفظة قد قالها عن نافع جماعة منهم : مالك ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب السختياني ، وهؤلاء حفاظ أصحاب نافع ، والحجة فيه على من خالفهم ، ورواه ابن جريج ، عن نافع ، فلم يقل من عمرتك .

أخبرنا عبد الرحمن بن مروان ، حدثنا الحسن بن يحيى القلزمي ، حدثنا أحمد بن زيد بن مروان ، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر قال : حدثنا هشام بن سليمان ، وعبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : حدثتني حفصة أن النبي - عليه السلام - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت حفصة ، فقلت : ما يمنعك أن تحل ، قال : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر هديي .

قال أبو عمر : قد علم كل ذي علم بالحديث أن مالكا في نافع ، وغيره زيادته مقبولة لموضعه من الحفظ والإتقان [ ص: 299 ] ، والتثبت ، ولو زاد هذه اللفظة مالك وحده لكانت زيادته مقبولة لفقهه ، وفهمه ، وحفظه وإتقانه ، وكذلك كل عدل حافظ فكيف وقد تابعه من ذكرنا ، ولكن المسئول لما رأى حديث حفصة هذا يوجب أن النبي - عليه السلام - كان متمتعا في حجته ، أو قارنا ، ولابد من إحدى هاتين الحالتين على حديث حفصة هذا وعرف أن مالكا كان يذهب إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا في حجته تلك لحديثه عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ولحديثه عن أبي الأسود ، وابن شهاب جميعا ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج . دفع حديث حفصة بما لا وجه له وزعم أن مالكا انفرد بقوله : ولم تحل أنت من عمرتك .

قال أبو عمر : فلم ينفرد بها مالك ، ولو انفرد بها ما نسب أحد إليه الوهم فيها ، لأنها لفظة لا يدفعها أصل ، ولا نظر من أصل ، ولو جوز له أن يدفع حديث حفصة هذا بمثل ذلك من خطل القول كيف كان يصنع في أحاديث التمتع كلها التي روي فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في حجته متمتعا ، وفي أحاديث القران التي صرحت ، أو دلت على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يومئذ قارنا [ ص: 300 ] وهي كلها آثار صحاح ثابتة ، قد أخرجها البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وغيرهم .

قال أبو عمر : الذي عليه أهل العلم فيما اختلف من الآثار المصير إلى أقوى ما رووه ، وكان أثبت عندهم من جهة النقل والمعنى ، وأشبه بالأصول المجتمع عليها ، هذا إذا تعارضت الآثار في محظور ، ومباح ، ولم يقم دليل على نسخ شيء منها ، ولم يمكن ترتيب بعضها على بعض ، فكيف والأحاديث في القران ، والإفراد ، والتمتع ، لم يختلف إلا في وجوه مباحة كلها ، لا يختلف العلماء في ذلك ، ولا أحد من الأمة بأن الإفراد ، والتمتع والقران كل ذلك مباح بالسنة الثابتة المتواترة النقل ، وبإجماع العلماء ، وإنما اختلفت الآثار ، واختلف العلماء فيما كان به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرما في خاصة نفسه ، وهذا لا يضر جهله لما وصفنا ، ولما لم يكن لأحد من العلماء سبيل إلى الأخذ بكل ما تعارض وتدافع من الآثار في هذا الباب ، ولم يكن بد من المصير إلى وجه واحد منها صار كل واحد منهم إلى الأصح عنده بمبلغ اجتهاده ، فصار مالك إلى تفضيل الإفراد على التمتع ، وعلى القران لوجوه ، منها أنه روي ذلك أيضا عن عائشة من وجوه ، فكانت تلك الوجوه أولى [ ص: 301 ] عنده من حديث حفصة هذا ، ومنها أنه الثابت في حديث جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها أنه اختيار أبي بكر ، وعمر وعثمان ، ومنها أن ذلك أتم ، ولذلك لم يحتج فيه إلى جبر شيء بدم ، ومنها من جهة النظر حجج لمخالفة معارضها بمثلها من جهة النظر أيضا ، ليس بنا حاجة هاهنا إلى ذكر شيء منها ، وذهب غيره إلى أن التمتع أفضل ، لآثار رووها ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تمتع ، وكان ابن عمر يذهب إلى التمتع ويزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمتع في حجته ، وكان ابن عمر من أعلم الصحابة بالحج ، وذهب آخرون إلى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرن بين الحج والعمرة في حجته لآثار رووها صحاح عندهم أيضا بذلك ، والآثار في التمتع والقران كثيرة جدا ، وقد ذكرنا منها في باب ابن شهاب ، عن عروة من كتابنا هذا ما فيه كفاية ، وفي باب نافع أيضا ما فيه شفاء ، وما أعلم أحدا في قديم الدهر ولا حديثه رد حديث حفصة هذا بأن قال : إن مالكا انفرد منه بقوله : ولم تحل أنت من عمرتك إلا هذا الرجل ، والله يغفر لنا ، وله برحمته .



أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، وحدثنا عبد الله بن محمد [ ص: 302 ] بن أسد ، قال : حدثنا أحمد بن محمد المكي ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قالا حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، يعني ابن سعيد القطان ، عن عبيد الله ، قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة قالت : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل من عمرتك ؟ قال : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل من الحج . فهذا عبيد الله بن عمر ، وهو من أثبت الناس في نافع قد قال كما قال مالك سواء ، وهو أمر مجتمع عليه في القارن أنه لا يحل حتى يحل منهما جميعا بآخر عمل الحج ، وزعم بعض أصحابنا أن حديث حفصة هذا ليس فيه ما يدل على أن رسول [ ص: 303 ] الله - صلى الله عليه وسلم - كان يومئذ متمتعا ، ولا قارنا ، وقال : في جوابه لها ما يدل على أنه كان مفردا لقوله : لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، ولم يعرف أن هدي المفرد تطوع لا يمنع من إحلال لمن أمر بفسخ حجه في عمرة ، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ أصحابه ، وسنبين هذا المعنى فيما بعد من هذا الباب - إن شاء الله ، وإنما حمله على ذلك - والله أعلم - تقصير البخاري عنه في رواية عبيد الله .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، وأخبرنا أحمد بن محمد ، وأحمد بن سعيد ، وأحمد بن قاسم ، قالوا : حدثنا وهب بن مسرة ، قالا جميعا : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قلت يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أحل من الحج .

حدثنا عبد الله بن محمد ، وعبد الرحمن بن عبد الله ، قالا : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك ، قال : حدثنا عبد الله بن [ ص: 304 ] أحمد بن حنبل ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل من عمرتك ؟ فذكره حرفا بحرف إلى آخره .

قال أبو عمر : معلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه في حجته أنه من لم يكن منهم معه هدي أن يفسخ حجه في عمرة ، وهذا ما لم يختلف في نقله ، وإنما اختلف في خصوصه ، وعلته ، وعلى هذا خرج سؤال حفصة ، وقولها : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ فجاوبها بما جرى ذكره ، ولم يختلف عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من كان قد ساق هديا ، وثبت هو على إحرامه ، فلم يحل منه إلا وقت ما يحل الحاج من حجه ، قال : ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ، فمن كان ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ، وهذا - عندنا - خصوص - والله أعلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه لا يحج بعدها ، وكان قد عرف من أمر جاهليتهم أنهم لا يرون العمرة في أشهر الحج إلا فجورا ونسخ الله ذلك من أمرهم ، فأراد [ ص: 305 ] - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم أن العمرة في أشهر الحج ليس بها بأس ، فأمر أصحابه أن يحلوا بعمرة يتمتعون بها ، ومما استدل بها من فضل القران ، والتمتع على الإفراد ، أن قال : إن حديث حفصة هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : إني قلدت هديي ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي . يدل أنه كان قارنا - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " حتى أحل من الحج " ، كذلك رواه الحفاظ ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن حفصة .

وقال أحمد بن حنبل : عبيد الله بن عمر أقعد بنافع من أيوب ، ومالك ، وكلهم ثبت ، لأنه لو كان مفردا لحجه ، لكان هديه تطوعا ، والهدي التطوع لا يمنع من الإحلال الذي يحله الرجل إذا لم يكن معه هدي ، ولو كان هديه تطوعا ، لكان حكمه كحكم من لم يسق هديا ، ولجعلها عمرة على حرصه على ذلك بدليل قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي . والهدي الذي يمنع من ذلك هدي قران ، أو هدي متعة ، هذا ما لا شك فيه عند أهل العلم ألا ترى لو أن رجلا خرج يريد التمتع ، وأحرم بعمرة أنه إذا طاف لها وسعى ، وحلق حل منها بإجماع إلا أن يكون معه هدي لمتعته ، فإن كان [ ص: 306 ] ساق هديا لمتعته لم يحل حتى يوم النحر ، ولو ساق هديا تطوعا حل قبل يوم النحر بعد فراغه من العمرة قالوا : فثبت بذلك أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان قد منعه من الإحلال ، وأوجب ثبوته على الإحرام إلى يوم النحر لم يكن هدي تطوع ، وإنما كان هديا لسبب عمرة يراد بها قران أو تمتع ، هذا كله قول من نفى أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ مفردا ، وعول على حديث حفصة ، وما كان في معناه . قالوا : ونظرنا في حديث حفصة هذا فإذا حديثها قد دلنا على أن ذلك القول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان منه بعدما حل الناس ، ألا ترى إلى قول حفصة : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ ولا يخلو النبي - عليه السلام - حين قال لحفصة مجاوبا لها عن قولها : إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي من أن يكون قال ذلك قبل أن يطوف ، أو بعد الطواف ، فإن كان قد طاف قبل ذلك ، ثم أحرم بالحج من بعد ، فإما كان متمتعا ، ولم يكن قارنا ، إذ أحرم بالحج بعد فراغه من الطواف للعمرة ، وإن كان قد أحرم بالحج قبل طوافه للعمرة ، فإنما كان قارنا ، وهذا أشبه - إن شاء الله - .

[ ص: 307 ] وعلى أي الوجهين كان فإن حديث حفصة هذا ينفي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا لحجة لم تتقدمها عمرة ، ولم يكن معها عمرة ، وإذا كان ذلك كذلك ، فحكم حديث حفصة هذا كحكم سائر الأحاديث المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرن ، أو كحكم الأحاديث عنه أنه تمتع ، ومالك - رحمه الله - لا ينكرها ولكنه قال : إن المصير إلى رواية من روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج أولى ، لأنه قد صح عنه ذلك من طريق النقل كما صحت تلك الوجوه ورجحنا اختيارنا الإفراد بأنه عمل أبي بكر ، وعمر وعثمان ، وحسبك بقول عمر : افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، وكان لا يزيد على الإفراد ، ومحال أن يجهل هؤلاء الخلفاء الأفضل ، والأصح مما روي في ذلك ، مع موضعهم من العلم ، والجلالة ، والفهم ، وقد صح عن عائشة ، عن وجوه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج ، وصح مثل ذلك عن جابر ، وجابر ساق الحديث في الحج سياقة من حفظه من أول الإهلال به إلى آخره عنه - صلى الله عليه وسلم - .

روى الأوزاعي ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : حدثني جابر بن عبد الله ، قال : أهللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصا لا يخالطه شيء .

[ ص: 308 ] وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج مفردا ، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة ، وذكر الحديث ، والآثار في الإفراد كثيرة أيضا ، وكل ذلك مجتمع على جوازه وبالله العون ، والتوفيق ، والتسديد لا شريك له .

التالي السابق


الخدمات العلمية