التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1717 [ ص: 100 ] [ ص: 101 ] نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، حديث واحد ، وهو حديث خامس وسبعون لنافع

مالك ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم .


هكذا روى مالك هذا الحديث بهذا الإسناد بلا شك في شيء منه ، إلا ابن وهب ، رواه عن مالك ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي [ ص: 102 ] بكر الصديق ، فلم يصنع ابن وهب شيئا ، والصواب عن مالك في إسناد هذا الحديث ما رواه يحيى ، وجمهور رواة الموطأ ، عن مالك ، عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ، كما رواه مالك سواء .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن عثمان ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، قال : أخبرني نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي يشرب في إناء من فضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم قال علي : عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، كانت عائشة عمته لأبيه وأمه ، وكانت أم سلمة خالته - أخت أمه لأبيها ، وأمها : أمة قريبة بنت أبي أمية ، قال علي : ولا أعلم أحدا كان يدخل على زوجتين من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إحداهما عمته والأخرى خالته غيره ، ورواه ابن علية ، عن أيوب عن نافع ، عن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الرحمن أو عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أم سلمة - على الشك - والصواب ما قاله مالك إلا أنه اختلف عنه في عبد الله [ ص: 103 ] بن عبد الله بن أبي بكر ، أو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقال القعنبي ، وطائفة فيه كما قال يحيى ، وإن كان عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فهو أبو عتيق وأم سلمة خالته .

وروى هذا الحديث شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع عن امرأة ابن عمر ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الذي يشرب في إناء الفضة أو إناء من فضة إنما يجرجر في بطنه نارا .

حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا غندر ، قال : حدثنا شعبة ، فذكره بإسناده .

وحدثنا أحمد بن قاسم أيضا ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم ، وعلي بن مسلم ، قالا : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، فذكره .

ورواه خصيف ، وهشام بن الغازي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شرب في آنية الفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم .

وهذا عندي خطأ لا شك فيه ، ولم يرو ابن عمر هذا الحديث قط - والله أعلم - ولا رواه نافع عن ابن عمر ، ولو رواه عن ابن عمر ما احتاج أن يحدث به عن ثلاثة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما إسناد شعبة في هذا الحديث فيحتمل أن يكون إسنادا آخر ، ويحتمل أن يكون خطأ ، وهو الأغلب ، والله أعلم .

[ ص: 104 ] والإسناد الذي يجب العمل به في هذا الحديث وتقوم به الحجة - إسناد مالك في ذلك ، وبالله التوفيق .

واختلف العلماء في المعنى المقصود بهذا الحديث ، فقالت طائفة : إنما عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم المشركين الذين كانوا يشربون فيها ، فأخبر عنهم ، وحذرنا أن نفعل مثل ذلك من فعلهم ، وأن نتشبه بهم .

وقال آخرون : كل من علم بتحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشراب في آنية الفضة ثم يشرب فيها استوجب النار ، إلا أن يعفو الله عنه بما ذكر من مغفرته لمن يشاء ممن لا يشرك به شيئا .

وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الشرب بها ، واختلفوا في جواز اتخاذها ، فقال قوم : تتخذ كما يتخذ الحرير والديباج ، وتزكى ولا تستعمل ، وقال الجمهور : لا تتخذ ولا تستعمل ، ومن اتخذها زكاها ، وأما الجرجرة في كلام العرب فمعناها : هدير يردده الفحل ، ويصوت به ، ويسمع من حلقه ، والمقصود جرعه إذا شرب ، قال الشاعر يصف فحلا من الإبل :

وهو إذا جرجر عند الهب جرجر في حنجرة كالجب وهامة     كالمرجل المنكب
[ ص: 105 ] وقال امرؤ القيس بن حجر :


إذا سافه العود النباطي جرجرا

أي رغا لبعد الطريق وصعوبته .

وأما قوله في الحديث : يجرجر في بطنه نار جهنم فإنما معناه : الزجر ، والتحذير ، والتحريم ، فجاء بهذا اللفظ كما قال الله عز وجل ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) وهذا الحديث يقتضي الحظر والمنع من اتخاذ أواني الفضة ، واستعمالها في الشرب ، والأكل فيها واتخاذها ، والعلماء كلهم لا يجيزون استعمال الأواني من الذهب ، كما لا يجيزون ذلك من الفضة ; لأن الذهب لو لم يكن الحديث ورد فيه لكان داخلا في معنى الفضة ; لأن العلة في ذلك - والله أعلم - التشبه بالجبابرة ، وملوك الأعاجم ، والسرف ، والخيلاء ، وأذى الصالحين والفقراء الذين لا يجدون من ذلك ما بهم الحاجة إليه ، ومعلوم أن الذهب أعظم شأنا من الفضة ، فهو أحرى بذلك المعنى ، ألا ترى أن النهي لما ورد عن البول في الماء الراكد ، كان الغائط أحرى أن ينهى عنه في ذلك ؟ فكيف وقد ورد النهي عن ذلك منصوصا ؟ .

[ ص: 106 ] حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن أبي ليلى ، قال : كان حذيفة بالمدائن ، فاستسقى ، فأتاه دهقان بآنية من فضة ، فرماه به ، وقال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير والديباج ، وعن الشرب في آنية الذهب والفضة ، وقال : هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني ، قال : حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قالا : أخبرنا شعبة ، عن الأشعث بن سليم ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء ، قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع ، أمرنا باتباع الجنائز ، وعيادة المريض ، ورد السلام ، وإجابة الداعي ، ونصر المظلوم ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، ونهانا عن خاتم الذهب - أو حلقة الذهب - وعن آنية الفضة ، وعن لبس الحرير ، والديباج والإستبرق ، والميثرة ، والقسي .

[ ص: 107 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن يونس الكديمي ، حدثنا أبو زيد ، وهشام أبو الوليد ، قالا : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني أشعث بن سليم ، عن معاوية بن سويد بن مقرن ، عن البراء قال : أمرنا بسبع ونهينا عن سبع فذكر مثله .

وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي المثنى ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع فذكر الحديث بمعنى ما تقدم ، وقال فيه : ونهانا عن الشرب في الفضة ، فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة .

حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة ، قال : حدثنا الطحاوي ، قال : حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : استسقى حذيفة من دهقان بالمدائن ، فسقاه في إناء من فضة ، فحذفه ، ثم اعتذر إلى القوم ، فقال : إني كنت نهيته أن يسقيني فيه ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال : لا تشربوا في آنية الفضة [ ص: 108 ] والذهب ، ولا تلبسوا الديباج والحرير ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة .

وقد روي عن بعض أصحاب داود أنه كره الشرب في إناء الفضة ، ولم يكره ذلك في الذهب ، وهذا لا يشتغل به لما وصفنا والحمد لله .

وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وقيل له : رجل دعا رجلا إلى طعام ، فدخل فرأى آنية فضة فقال : لا يدخل إذا رآها ، وغلط فيها وفي كسبها ، واستعمالها ، وذكر حديث حذيفة المذكور ، وحديث أم سلمة حديث هذا الباب ، وذكر حديث البراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن آنية الفضة في سبع أشياء نهى عنها .

واختلف العلماء في الشرب في الإناء المفضض بعد إجماعهم على تحريم استعمال إناء الفضة والذهب في شرب أو غيره ، فذكر ابن وهب ، عن مالك ، والليث بن سعد - أنهما كانا يكرهان الشرب والأكل في القدح المضبب بالفضة ، والصفحة التي قد ضببت بالورق ، وقال ابن القاسم ، عن مالك : لا أحب أن يدهن أحد في مداهن الورق ، ولا يستجمر في مجامر الورق ، قال : وسئل مالك عن ثلمة القدح وما يلي الأذن ، فقال مالك : قد سمعت سماعا - كأنه يضعفه - وما علمت فيه بنهي .

[ ص: 109 ] وقال الشافعي : أكره المضبب بالفضة ; لئلا يكون شاربا على الفضة ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا بأس أن يشرب الرجل في القدح المفضض ، إذا لم يجعل فاه على الفضة ، كالشرب بيده وفيها الخاتم .

قال أبو عمر : اختلف السلف أيضا في هذه المسألة على نحو اختلاف الفقهاء ، فروى خصيف ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه لم يشرب في القدح المفضض لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الشرب في آنية الفضة والذهب ، هكذا قال خصيف في هذا الحديث لما سمع رسول الله صلى الله عليه سلم ، وزاد فيها الذهب ، وقوله لما سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطأ ، وصوابه لما سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشرب في آنية الفضة والذهب .

وروى ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي عمرو مولى عائشة ، قال : أبت عائشة أن ترخص لنا في تفضيض الآنية .

وعن عمران بن حصين ، وأنس بن مالك ، وطاوس ، ومحمد بن علي بن الحسين ، والحكم بن عتيبة ، وإبراهيم ، وحماد ، والحسن ، وأبي العالية - أنهم كانوا يشربون في الإناء المفضض .

قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن متخذ الآنية من الفضة أو الذهب عليه الزكاة فيها ، إذا بلغت من وزنها ما تجب فيها الزكاة ، وليس ذلك عندهم من باب الحلي المتخذ لزينة النساء ، ولا من باب السيف المحلى ، ولا المصحف المحلى في شيء ، فقف على هذا الأصل ، واعلم أن ما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا شك فيه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية