التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1057 والحديث الآخر : مالك ، عن نافع ، عن رجل من الأنصار ، عن سعد بن معاذ - أو معاذ بن سعد - أنه أخبره أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع ، فأصيبت منها شاة ، فأدركتها فذكتها بحجر ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : لا بأس بها فكلوها .


قال أبو عمر : قد روي هذا الحديث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وليس بشيء ، وهو خطأ ، والصواب : رواية مالك ومن تابعه على هذا الإسناد [ ص: 127 ] وأما الاختلاف فيه عن نافع فرواه مالك كما ترى ، لم يختلف عليه فيه عن نافع ، عن رجل من الأنصار ، عن معاذ بن سعد - أو سعد بن معاذ .

ورواه موسى بن عقبة ، وجرير بن حازم ، ومحمد بن إسحاق ، والليث بن سعد - كلهم عن نافع - أنه سمع رجلا من الأنصار يحدث عن ابن عمر أن جارية - أو أمة لكعب بن مالك - الحديث .

ورواه عبيد الله بن عمر ، عن نافع أن كعب بن مالك سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مملوكة ذبحت شاة بمروة ، فأمره النبي عليه السلام بأكلها .

ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، وصخر بن جويرية - جميعا عن نافع - عن ابن عمر ، وهو وهم عند أهل العلم ، والحديث لنافع عن رجل من الأنصار ، لا عن ابن عمر ، والله الموفق للصواب . وأما قوله : ترعى غنما بسلع ، فسلع موضع ، وإياه أراد الشاعر بقوله : إن بالشعب الذي جنب سلع لقتيلا دمه ما يطل [ ص: 128 ] وفي هذا الحديث من الفقه : إجازة ذبيحة المرأة ، وعلى إجازة ذلك جمهور العلماء والفقهاء بالحجاز والعراق ، وقد روي عن بعضهم أن ذلك لا يجوز منها إلا على حال الضرورة ، وأكثرهم يجيزون ذلك وإن لم تكن ضرورة - إذا أحسنت الذبح - وكذلك الصبي إذا أطاق الذبح وأحسنه ، وهذا كله قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهم ، والثوري ، والليث بن سعد ، والحسن بن حي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وجابر ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والنخعي .

وأما التذكية بالحجر فمجتمع أيضا عليها ، إذا فرى الأوداج وأنهر الدم ، وقد مضى القول مستوعبا فيما يذكى به وما لا يجوز الذكاة به ، وفيما يذكى من الحيوان الذي قد أدركه الموت وما لا يذكى منه ، وما للعلماء في ذلك كله من المذاهب ، وتأويل قول الله عز وجل ( إلا ما ذكيتم ) مستوعبا ذلك كله ، ممهدا مهذبا في باب زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادة ذلك .

وقد مضى هناك حديث الشعبي عن محمد بن صفوان - أو صيفي - قال : اصطدت أرنبين فذكيتهما بمروة ، فأتيت بهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرني بأكلهما . وحديث عدي بن حاتم ، قال : قلت يا رسول الله أرأيت إن أصاب أحدنا صيدا وليس [ ص: 129 ] معه سكين ، أيذبح بالمروة وبشق العصا ؟ قال : أنهر الدم ، أو أنزل الدم بما شئت ، واذكر اسم الله والمروة : فلقة الحجر ، لا خلاف في ذلك .

وحديث رافع بن خديج ، عن النبي عليه السلام : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ، ما خلا السن والعظم الحديث .

وقد أجمعوا على أن ما مر مرور الحديد ولم يثرد - فجائز الذكاة به ، وأجمعوا على أن الظفر إذا لم يكن منزوعا ، وكذلك السن - فلا يجوز الذكاة به ; لأنه خنق ، وهذا أصل الباب والحمد لله .

وأولى ما قيل به في ذلك عندنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : أخبرنا يوسف بن أحمد ، قال : حدثنا محمد بن عمرو العقيلي ، قال : حدثنا يوسف بن موسى ، قال : حدثنا حسين بن عيسى ، قال : حدثنا أصرم بن حوشب الهمداني ، عن الحسن بن عطاء ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لم يدرك أحد الثلاثة فلا ذكاة له : أن تطرف بعين ، أو تركض برجل ، أو تمصع بالذنب وهذا الحديث وإن كان إسناده لا تقوم به حجة ، فإن قول جمهور العلماء بمعناه - على [ ص: 130 ] ما ذكرنا في باب زيد بن أسلم - يوجب السكون إليه ، واستدل جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على صحة ما ذهب إليه فقهاء الأمصار وهم : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والأوزاعي ، والثوري من جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه ، وردوا به على من أبى من أكل ذبيحة السارق ، ومن أشبهه : داود وإسحاق ، وتقدمهم إلى ذلك عكرمة ، وهو قول شاذ عند أهل العلم ، لم يعرج عليه فقهاء الأمصار ; لحديث نافع هذا .

وقد ذكر ابن وهب في موطئه بإثر حديث مالك عن نافع هذا ، قال ابن وهب : وأخبرني أسامة بن زيد الليثي ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فلم ير بها بأسا ومما يؤكد هذا المذهب : حديث عاصم بن كليب الحرمي ، عن أبيه ، عن رجل من الأنصار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أطعموها الأسارى وهم ممن تجوز عليهم الصدقة بمثلها ، ولو لم تكن ذكية ما أطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية