التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
491 [ ص: 197 ] حديث ثالث لنعيم

مالك ، عن نعيم بن عبد الله المجمر ، عن علي بن يحيى الزرقي ، عن أبيه ، عن رفاعة بن رافع أنه قال : كنا يوما نصلي وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركعة وقال : سمع الله لمن حمده . قال رجل وراءه : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من المتكلم آنفا ؟ قال الرجل : أنا يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبهن أول .


في هذا الحديث من الفقه : أن الإمام يقول : سمع الله لمن حمده ، لا يزيد على ذلك ، والمأموم يقول : ربنا ولك الحمد . لا يقول : سمع الله لمن حمده ، وهذا كله قول مالك ، وقد مضى [ ص: 198 ] الاختلاف في هذه المسألة ووجوب الأقوال فيها من جهة الآثار ; لأنها مسألة مأخوذة من الأثر فيما تقدم من كتابنا هذا ، وفيه دليل على أنه لا بأس برفع الصوت وراء الإمام بـ " ربنا ولك الحمد " لمن أراد الإسماع والإعلام للجماعة الكثيرة بقوله ذلك ; لأن الذكر كله من التحميد والتهليل والتكبير جائز في الصلاة ، وليس بكلام تفسد به الصلاة ، بل هو محمود ممدوح فاعله ; بدليل حديث هذا الباب ، وبما حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : أخبرنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط ، قال : حدثنا إياد ، عن عبد الله بن سعيد ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : جاء رجل ونحن في الصف خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : الله أكبر كبيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، قال : فرفع المسلمون رءوسهم ، واستنكروا على الرجل ، وقالوا : من هذا الذي يرفع صوته فوق صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من هذا العالي الصوت ، فقيل : هو هذا يا رسول الله ، فقال : والله لقد رأيت كلاما يصعد إلى السماء حتى فتح له فدخل .

قال أبو عمر : في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفعل هذا الرجل وتعريفه الناس بفضل كلامه وفضل ما صنع من رفع صوته بذلك الذكر - أوضح الدلائل على جواز ذلك [ ص: 199 ] الفعل من كل من فعله على أي وجه جاء به ; لأنه ذكر لله وتعظيم له يصلح مثله في الصلاة سرا وجهرا ، ألا ترى أنه لو تكلم في صلاته بكلام يفهم غير القرآن والذكر سرا لما جاز كما لا يجوز جهرا ؟ وهذا واضح ، وبالله التوفيق .

وفي حديث هذا الباب أيضا دليل على أن الذكر كله والتحميد والتمجيد ليس بكلام تفسد به الصلاة ، وأنه كله محمود في الصلاة المكتوبة والنافلة ، مستحب مرغوب فيه ، وفي حديث معاوية بن الحكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التكبير ، والتسبيح ، والتهليل ، وتلاوة القرآنفأطلق أنواع الذكر في الصلاة ، فدل على أن الحكم في الذكر غير الحكم في الكلام ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية