التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 15 ] وأما التدليس : فهو أن يحدث الرجل عن الرجل قد لقيه ، وأدرك زمانه ، وأخذ عنه ، وسمع منه ، وحدث عنه بما لم يسمع منه ، وإنما سمعه من غيره عنه ، ممن ترضى حاله ، أو لا ترضى ، على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضية لذكره ، وقد يكون لأنه استصغره .

هذا هو التدليس عند جماعتهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك .

وسنبين معنى التدليس بالإخبار عن العلماء في الباب بعد هذا إن شاء الله .

واختلفوا في حديث الرجل عمن لم يلقه ، مثل مالك عن سعيد بن المسيب ، والثوري عن إبراهيم النخعي ، وما أشبه هذا ; فقالت فرقة : هذا تدليس ; لأنهما لو شاءا لسميا من حدثهما ، كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما ، قالوا : وسكوت المحدث عن ذكر من حدثه مع علمه به دلسة .

قال أبو عمر : فإن كان هذا تدليسا ، فما أعلم أحدا من العلماء سلم منه في قديم الدهر ، ولا في حديثه ، اللهم إلا شعبة بن الحجاج ، ويحيى بن سعيد القطان ، فإن هذين ليس يوجد لهما شيء من هذا ، لا سيما شعبة ; فهو القائل : لأن أزني أحب إلي من أن أدلس .

[ ص: 16 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا بندار ، حدثنا غندر ، قال : سمعت شعبة يقول : التدليس في الحديث أشد من الزنا ، ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أدلس .

وقال أبو نعيم : سمعت شعبة يقول : لأن أزني أحب إلي من أن أدلس .

وقال أبو الوليد الطيالسي : سمعت شعبة يقول : لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول : زعم فلان ، ولم أسمع ذلك الحديث منه .

وقالت طائفة من أهل الحديث : ليس ما ذكرنا يجري عليه لقب التدليس ، وإنما هو إرسال ، قالوا : وكما جاز أن يرسل سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي بكر وعمر ، وهو لم يسمع منهما ، ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليسا ، كذلك مالك عن سعيد بن المسيب .

[ ص: 17 ] والإرسال قد تبعث عليه أمور لا تضيره .

مثل أن يكون الرجل سمع ذلك الخبر من جماعة عن المعزي إليه الخبر ، وصح عنده ، ووقر في نفسه ; فأرسله عن ذلك المعزي إليه علما بصحة ما أرسله .

وقد يكون المرسل للحديث نسي من حدثه به ، وعرف المعزي إليه الحديث ، فذكره عنه فهذا أيضا لا يضر ، إذا كان أصل مذهبه أن لا يأخذ إلا عن ثقة كمالك وشعبة .

أو تكون مذاكرة فربما ثقل معها الإسناد ، وخف الإرسال إما لمعرفة المخطابين بذلك الحديث ، واشتهاره عندهم ، أو لغير ذلك من الأسباب الكائنة في معنى ما ذكرناه .

والأصل في هذا الباب : اعتبار حال المحدث ، فإن كان لا يأخذ إلا عن ثقة ، وهو في نفسه ثقة ، وجب قبول حديثه مرسله ومسنده ، وإن كان يأخذ عن الضعفاء ، ويسامح نفسه في ذلك ، وجب التوقف عما أرسله حتى يسمي من الذي أخبره .

وكذلك من عرف بالتدليس المجتمع عليه ، وكان من المسامحين في الأخذ عن كل أحد ، لم يحتج بشيء مما رواه حتى يقول : أخبرنا ، أو سمعت .

هذا إذا كان عدلا ثقة في نفسه ، وإن كان ممن لا يروي إلا عن ثقة استغني عن توقيفه ، ولم يسأل عن تدليسه .

وعلى ما ذكرته لك أكثر أئمة الحديث ، قال يعقوب بن شيبة : سألت يحيى بن معين عن التدليس ; فكرهه وعابه ، [ ص: 18 ] قلت له : فيكون المدلس حجة فيما روى حتى يقول : حدثنا ، أو أخبرنا ؟ فقال : لا يكون حجة فيما دلس فيه .

قال يعقوب : وسألت علي بن المديني عن الرجل يدلس ، أيكون حجة فيما لم يقل : حدثنا ؟ فقال : إذا كان الغالب عليه التدليس فلا ، حتى يقول : حدثنا .

قال علي : والناس يحتاجون في صحيح حديث سفيان إلى يحيى القطان ، يعني علي أن سفيان كان يدلس ، وأن القطان كان يوقفه على ما سمع ، وما لم يسمع .

وسترى في الباب الذي بعد هذا ما يدلك على ذلك ، ويكشف لك المذهب والمراد فيه إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية