التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1796 [ ص: 229 ] حديث ثالث لصفوان بن سليم ، مرسل

مالك ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل فقال : يا رسول الله ، أستأذن على أمي ؟ فقال : نعم ، فقال الرجل : إني معها في البيت ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : استأذن عليها ، فقال الرجل : إني خادمها ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذن عليها ، أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا ، قال : فاستأذن عليها .


قال أبو عمر : روى هذا الحديث ابن جريج ، عن زياد بن سعد ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار - مثل حديث مالك سواء ، وهذا الحديث لا أعلم يستند من وجه صحيح بهذا اللفظ ، وهو مرسل صحيح ، مجتمع على صحة معناه ، ولا يجوز عند أهل العلم أن يرى الرجل أمه ولا ابنته ولا أخته ، ولا ذات محرم منه عريانة ; لأن المرأة عورة فيما عدا وجهها وكفيها ، [ ص: 230 ] ولا يحل النظر إلى عورة أحد عند الجميع - لا يختلفون في ذلك ، وتأمل وجه المرأة الحرة وإدمان النظر إليها لشهوة لا يجوز ; لأنه داع إلى الفتنة ، وقد اختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) وفي قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ) الآية كلها ، على ما نذكره في أولى المواضع به إن شاء الله .

ومن ذلك ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثني أبو صالح عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معمر بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) الآية ، قال : الزينة التي تبديها لهؤلاء : قرطاها وقلادتها وسوارها ، فأما خلخالها وخصرها وجيدها وشعرها ، فإنها لا تبدي ذلك إلا لزوجها .

قال أبو عمر : وهو مذهب ابن مسعود ، ومجاهد ، وعطاء ، والشعبي ، وحدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، وعكرمة في قوله : [ ص: 231 ] ( لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ) الآية . قلت : ما شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قالا : لأنهما ينعتانها لأبنائهما ، وقد قيل : إن العم والخال يجريان مجرى الوالدين ; لأنهما ذوا محرم ، فاستغني بذكر من ذكر من ذوي المحارم عن ذكرهما .

وحدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا محمد بن جرير ، قال : حدثنا علي بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، عن سفيان في المرأة تخرج ثديها من كمها ترضع صبيها بين يدي ذي محرم منها - فكرهه .

وقد اختلف العلماء أيضا في هذا الباب ، فكان الشعبي ، وطاوس ، والضحاك يكرهون أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وذوات محرمه ، وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يفلون أمهاتهم ، وممن روي ذلك عنه من العلماء : أبو القاسم محمد بن علي بن الحنفية ، وأبو محمد بن علي بن الحسين ، وطلق بن حبيب ، ومورق العجلي ، وعلى قول هؤلاء أئمة الفتيا بالأمصار في أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه ، وكذلك شعور ذوات المحارم العجائز دون الشواب ومن يخشى منه الفتنة على ما ذكرت لك .

[ ص: 232 ] وذكر سنيد قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عطاء بن أبي رباح ، قال : قلت لابن عباس : أستأذن على أخواتي يتامى في حجري معي في بيت واحد ؟ قال : نعم ، فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، قال : أتحب أن تراهن عراة ؟ قلت : لا ، قال : فاستأذن ، فراجعته . فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قلت : نعم . قال : فقال لي سعيد بن جبير : إنك لتردد عليه ، قال : قلت : أردت أن يرخص لي . قال : وحدثنا ابن جريج قال : أخبرني ابن طاوس عن أبيه ، قال : ما من امرأة أكره إلي أن أراها عريانة - أو أرى عريتها - من ذات محرم . قال : وكان يشدد في ذلك ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أواجب على الرجل أن يستأذن على أمه وذوات قرابته ؟ قال : نعم . فقلت : بأي وجبت ؟ قال : بقول الله عز وجل : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) .

قال سنيد : وحدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن الزهري قال : سمعت هذيل بن شرحبيل الأزدي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم إذن على أمهاتكم .

قال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا .

[ ص: 233 ] حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا علي ، حدثنا أحمد ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب ، قال : حدثنا يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : يستأذن الرجل على أمه ، وإنها أنزلت : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ) في ذلك .

قال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن أبي عبد الرحمن الجبلي ، أنه قال : كان رجال من الفقهاء يكرهون أن يلج الرجل على أمته إذا كانت متزوجة حتى يستأذن عليها .

وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، قال : سألت ابن عباس ، قلت : إن لي أختين أعولهما وأنفق عليهما وهما معي في البيت ، أفأستأذن عليهما ؟ قال : نعم ، فأعدت عليه فقال : أتحب أن تراهما عريانتين ؟ قلت : لا . قال : فاستأذن عليهما .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا القعنبي ، قال : حدثنا الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا : يا ابن عباس ، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا بما أمرنا فيها ، ولا يعمل بها أحد ، قول الله عز وجل : ( ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر ) إلى ( عليم حكيم ) [ ص: 234 ] قال ابن عباس : إن الله رحيم بالمؤمنين يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيم الرجل على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات ، ثم جاءهم الله بالستور والخير ، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد .

وذكر ابن وهب قال : أخبرني قرة ، عن ابن شهاب ، عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سأل عبد الله بن سويد الحارثي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الإذن في العورات الثلاث ، فقال : إذا وضعت ثيابي من الظهيرة لم يلج علي أحد من الخدم الذين بلغوا الحلم ، ولا أحد ممن لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن ، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ومن قبل صلاة الفجر .

وقال أبو بكر الأثرم : سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن الرجل ينظر إلى شعر أم امرأته ، أو امرأة ابنه ، أو امرأة أبيه ، فقال : هذا في القرآن ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن ) وكذا وكذا الآية . قلت : ينظر إلى ساق امرأة أبيه أو ابنه ؟ فقال : ما أحب أن يرى ذلك من أخته وأمه ، فكيف بغيرهما ؟ .

[ ص: 235 ] روى حماد بن سلمة ، عن الحجاج ، عن إبراهيم ، أنه كان لا يرى بأسا أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وابنته وخالته وعمته ، وكره الساقين .

وقال ابن وهب : سئل مالك عن المرأة لها العبد نصفه حر ، أيرى شعرها ؟ فقال : لا ، فقيل له : فلو كان لها كله أيرى شعرها ؟ فقال : أما العبد الوغد من العبيد فلا أرى بذلك بأسا ، وإن كان عبدا فارها فلا أرى ذلك لها . قال مالك والستر أحب إلي .

قال أبو عمر : اختلف العلماء في معنى قوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانهن ) في الآيتين إحداهما في سورة النور قوله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ) والأخرى في سورة الأحزاب قوله : ( لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن ) ، ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا أبو بكر - يعني ابن أبي شيبة - قال : أخبرنا أبو أسامة ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن طارق ، عن ابن المسيب ، قال : لا تغرنكم هذه الآية ( أو ما ملكت أيمانكم ) إنما عني بها الآباء ، ولم يعن بها العبيد . قال : وأخبرنا أبو [ ص: 236 ] بكر قال : أخبرنا شريك ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، قال : لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته .

قال أبو عمر : إلى هذا ذهب مالك ، وأجاز نظر العبد إلى شعر مولاته ، وروي مثل ذلك عن بعض أمهات المؤمنين ، وقالت به طائفة ، وكره ذلك جماعة من علماء التابعين ومن بعدهم .

وممن كره ذلك : سعيد بن المسيب ، والحسن ، وطاوس ، والشعبي ، ومجاهد ، وعطاء ، قال إسماعيل : حديث نبهان مولى أم سلمة يدل على أنه يجوز للعبد أن يرى من سيدته ما يراه ذو المحارم منها مثل الأب والأخ ; لأنه لا يحل له أن يتزوج سيدته ما دام مملوكا ، لكنه لا يدخل في المحرم الذي يحل لها أن تسافر معه ; لأن حرمته لا تدوم وتزول بزوال الرق إذا أعتقته .

قال أبو عمر : هذا يقضي على قوله ; لأن من لا تدوم حرمته لا يكون ذا محرم مطلقا ، وإذا لم يكن كذلك فالاحتياط ألا يرى العبد شعر مولاته ، وغدا كان أو غير وغد ، وقد يستحسن ويستحب الوغد لأشياء ، وقد سوى الله بين المملوك والحر في هذا المعنى ، فقال : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ) وقال : ( ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) وحديث أم سلمة لم يروه إلا نبهان مولاها ، وليس بمعروف بحمل العلم ، [ ص: 237 ] ولا يعرف إلا بذلك الحديث وآخر ، وحديث عائشة معلول أيضا ، وأكثر العلماء يجعلون العبد البالغ كالحر ، ولا يجيزون له النظر إلى شعر سيدته إلا لضرورة ، وينظر منها إلى وجهها وكفيها ; لأنهما ليسا بعورة منها .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا دحيم ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإذن من أجل البصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية