التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
451 [ ص: 283 ] حديث أول لصالح بن كيسان ، مسند

مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجهني ، أنه قال : صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس ، فقال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي ، وكافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب .


وهذا الحديث رواه ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن زيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقمه كإقامة صالح بن كيسان ، ولم يسقه كسياقته ، قال فيه : قال الله : ما أنعمت على [ ص: 284 ] عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين يقولون : الكوكب وبالكوكب .

هكذا حدث به يونس بن يزيد وغيره ، عن ابن شهاب ، وفي لفظ هذا الحديث ما يدل على أن الكفر هاهنا كفر النعم لا كفر بالله .

وروى هذا الحديث سفيان بن عيينة ، عن صالح بن كيسان بإسناده ، وقال فيه : ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة ؟ قال : ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح طائفة منهم بها كافرين ، يقولون : مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا ، فأما من آمن بي وحمدني على سقياي ، فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب ، ومن قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك الذي كفر بي وآمن بالكوكب .

وروى سفيان بن عيينة أيضا عن إسماعيل بن أمية أن النبي عليه السلام سمع رجلا في بعض أسفاره يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كذب ، بل هو سقيا الله عز وجل قال سفيان : عثانين الأسد : الذراع والجبهة .

[ ص: 285 ] وقال الشافعي : لا أحب لأحد أن يقول : مطرنا بنوء كذا ، وإن كان النوء عندنا : الوقت ، والوقت مخلوق لا يضر ولا ينفع ، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر ، والذي أحب أن يقول : مطرنا وقت كذا ، كما يقول مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوء كذا ، وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما كان بعض أهل الشرك من أهل الجاهلية يقول - فهو كافر حلال دمه ، إن لم يتب من قوله هذا .

أما قوله في هذا الحديث : على إثر سماء كانت من الليل ، فإنه أراد سحابا حيث نزل من الليل ، والعرب تسمي السحاب والماء النازل منه سماء ، قال الشاعر - وهو أحد فصحاء العرب :

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

يعني : إذا نزل الماء بأرض قوم ، ألا ترى أنه قال : رعيناه ، يعني الكلأ النابت من الماء ، ولو أراد السماء لأنث ; لأنها مؤنثة ، فقال : رعيناها ، وقوله : رعيناه . يعني الكلأ النابت من الماء فاستغنى بذكر الضمير ; إذ الكلام يدل عليه ، وهذا من فصيح كلام العرب ، ومثله في القرآن كثير .

[ ص: 286 ] وأما قوله حاكيا عن الله عز وجل : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر . فمعناه عندي على وجهين : أما أحدهما فإن المعتقد أن النوء هو الموجب لنزول الماء ، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا ، يجب استتابته عليه وقتله ; لنبذه الإسلام ورده القرآن .

والوجه الآخر : أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء ، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه ، فهذا وإن كان وجها مباحا فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل ، وجهلا بلطيف حكمته ; لأنه ينزل الماء متى شاء ، مرة بنوء كذا ومرة دون النوء ، وكثيرا ما يخوى النوء فلا ينزل معه شيء من الماء ، وذلك من الله لا من النوء ، وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر : مطرنا بنوء الفتح ، ثم يتلو ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ) وهذا عندي نحو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مطرنا بفضل الله وبرحمته ، ومن هذا قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب حين استسقى به : يا عم رسول الله ، كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال العباس : العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا ، فكأن عمر - رحمه الله - قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل ، فسأله عنه : أخرج أم بقيت منه بقية ؟ .

[ ص: 287 ] وروي عن الحسن البصري ، أنه سمع رجلا يقول : طلع سهيل وبرد الليل ، فكره ذلك ، وقال : إن سهيلا لم يأت قط بحر ولا برد ، وكره مالك بن أنس أن يقول الرجل للغيم والسحابة : ما أخلقها للمطر ، وهذا من قول مالك مع روايته : إذا أنشأت بحرية . تدل على أن القوم احتاطوا فمنعوا الناس من الكلام بما فيه أدنى متعلق من زمن الجاهلية في قولهم : مطرنا بنوء كذا وكذا ، على ما فسرناه ، والله أعلم ، وسيأتي القول في معنى قوله : إذا أنشأت بحرية . في موضعه إن شاء الله .

والنوء في كلام العرب واحد أنواء النجوم ، يقال : ناء النجم ينوء ، أي : نهض ينهض للطلوع ، وقد يكون أن يميل للمغيب ، ومما قيل : ناوأت فلانا بالعداوة ، أي : ناهضته ، ومنه قولهم : الحمل ينوء بالدابة ، أي : يميل بها ، وكل ناهض - بثقل وإبطاء - فقد ناء ، والأنواء على الحقيقة : النجوم التي هي منازل القمر ، وهي ثمان وعشرون منزلة ، يبدو لعين الناظر منها أربعة عشر منزلا ، ويخفى أربعة عشر ، فكلما غاب منها منزل بالمغرب طلع رقيبه من المشرق ، فليس يعدم منها أبدا أربعة عشر للناظرين في السماء ، وإذا لم ينزل مع النوء ماء قيل : خوى النجم وأخوى ، وخوى النوء وأخلف ، وأما العرب [ ص: 288 ] فكانت تضيف المطر إلى النوء ، وهذا عندهم معروف مشهور في أخبارهم وأشعارهم ، فلما جاء الإسلام نهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأدبهم وعرفهم ما يقولون عند نزول الماء ، وذلك أن يقولوا : مطرنا بفضل الله ورحمته ، ونحو هذا من الإيمان والتسليم لما نطق به القرآن ، وأما أشعار العرب في إضافتها نزول الماء إلى الأنواء ، فقال الطرماح :

محاهن صيب نوء الربيع     من نجم العزل والرامحه

فسمى مطر السماك ربيعا ، وغيره يجعله صيفا ، وإنما جعله الطرماح ربيعا ; لقربه من آخر الشتاء ومن أمطاره ، وإذا كان المطر بأول نجم من أنواء الصيف جاز أن يجعلوه ربيعا ، ويقال للسماك : الرامح وذو السلاح ، وهو رقيب الدلو إذا سقط الدلو طلع السماك ، والسماك ، والدلو ، والعواء ، من أنجم الخريف ، قال عدي بن زيد : في خريف سقاه نوء من الدلـ ـو تدلى ولم يواز العراقا والعرب تسمي الخريف ربيعا ; لاتصاله بالشتاء ، وتسمي الربيع المعروف عند الناس بالربيع صيفا ، وتسمي الصيف قيظا ، وتذهب في ذلك مذاهب الروم ، فأول الأزمنة عندها [ ص: 289 ] الخريف ، وليس هذا موضع ذكر معانيها ومعاني الروم في ذلك ; وكان أبو عبيدة يروي بيت زهير :

وغيث من الوسمي حو تلاعه     وجادته من نوء السماك هواطله

وقال آخر :

ولا زال نوء الدلو يسكب ودقه     بكن ومن نوء السماك غمام

وقال الأسود بن يعفر النهشلي :

بيض مسامح في الشتاء وإن     أخلف نجم عن نوئه وبلوا

وقال الراجز

بشر بني عجل بنوء العقرب     إذ أخلفت أنواء كل كوكب

يدلك أن أنواء النجوم أخلفت كلها فلم تمطر ، فأتاهم المطر في آخر الربيع بنوء العقرب ، وهو محمود ; لأنه ودق دنيء ، وقال رؤبة

وجف أنواء السحاب المرتزق

[ ص: 290 ] أي : جف البقل الذي كان بالأنواء ، أقام ذكر الأنواء مقام ذكر البقل استغناء بأن المراد معلوم ، وهذا نحو قول القائل الذي قدمنا ذكر قوله :

إذا نزل السماء بأرض قوم

. وهو يريد الماء النازل من السماء ، وأشعار العرب بذكر الأنواء كثيرة جدا ، والعرب تعرف من أمر الأنواء وسائر نجوم السماء ما لا يعرفه غيرها ، لكثرة ارتقابها لها ونظرها إليها ; لحاجتها إلى الغيث وفرارها من الجدب ، فصارت لذلك تعرف النجوم الجواري ، والنجوم الثوابت ، وما يسير منها مجتمعا وما يسير فاردا ، وما يكون منها راجعا ومستقيما ; لأن من كان في الصحاري والصحاصح الملساء حيث لا أمارة ولا هادي ، طلب المنائر في الرمل والأرض ، وعرف الأنواء ونجوم الاهتداء ، وسئلت أعرابية فقيل لها : أتعرفين النجوم ؟ فقالت : سبحان الله ، أما أعرف أشباحا وقوفا علي في كل ليلة ؟ وسمع بعض أهل الحضر أعرابيا وهو يتفنن في وصف نجوم ساعات الليل ونجوم الأنواء ، فقال لمن حضره : أما ترى هذا الأعرابي يعرف من النجوم ما لا يعرف ، فقال : ويل أمك من لا يعرف أجداع بيته .

ومن هذا الباب قول ابن عباس في المرأة التي جعل زوجها أمرها بيدها فطلقت نفسها - : خطأ الله نوءها ، أي : أخلى [ ص: 291 ] الله نوءها من المطر ، والمعنى : حرمها الله الخير كما حرم من لم يمطر وقت المطر .

وقال ابن عباس في قول الله عز وجل ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) هو الاستمطار بالأنواء .

حدثنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، قال : حدثنا سعيد بن خمير ، وسعيد بن عثمان ، قالا : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا النضر بن محمد ، قال : حدثنا عكرمة بن عمار ، قال : حدثنا أبو زميل ، قال : حدثني ابن عباس ، قال : مطر الناس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصبح من الناس شاكر وكافر ، قال بعضهم : هذه رحمة وضعها الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، قال : نزلت هذه الآية ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) حتى بلغ : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) .

قال أبو عمر : الرزق في هذه الآية بمعنى الشكر ، كأنه قال : وتجعلون شكركم لله على ما رزقكم من المال أن تنسبوا ذلك الرزق إلى الكوكب .

وقال ابن قتيبة : ومن هذا - والله أعلم - قال رؤبة :

وجف أنواء السحاب المرتزق

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في [ ص: 292 ] حديث ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عتاب بن حنين ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أمسك الله القطر عن عباده خمس سنين ، ثم أرسله ، أصبحت طائفة من الناس كافرين ، يقولون : سقينا بنوء المجدح - فمعناه كمعنى ما مضى من الحديث في هذا الباب .

وأما المجدح ، فإن الخليل زعم أنه نجم كانت العرب تزعم أنها تمطر به ، قال : ويقال : أرسل السماء مجاديح الغيث ، قال : ويقال : مجدح ومجدح ، بالكسر والضم .

أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن الفضل ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن ، قال : حدثنا يحيى بن معين ، قال : حدثنا يحيى بن زكرياء ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثلاث لن يزلن في أمتي : التفاخر في الأحساب ، والنياحة ، والأنواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية