التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
835 [ ص: 79 ] حديث ثان لجعفر بن محمد مسند مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول حين خرج من المسجد ، وهو يريد الصفا ، وهو يقول : نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا .


قال أبو عمر : في هذا الحديث أن الخروج إلى الصفا من المسجد ; لأن الحاج أو المعتمر إذا دخل أحدهما مكة أول شيء يبدأ به إذا لم يكن الحاج مراهقا يخشى فوت الوقوف بعرفة أول ما يبدأ به الطواف بالبيت ، يبدأ بالحجر فيستلمه ، ثم يطوف منه بالبيت سبعا ، فإذا طاف به سبعا صلى في المسجد عند المقام ، أو حيث أمكنه ركعتين بأثر أسبوعه يخرج من باب الصفا إن شاء إلى الصفا فيرقى عليها ، ثم يبتدئ السعي منها بين الصفا والمروة ، لا بد من ذلك ، وهذا كله منصوص في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه ، وبعض الناس أحسن سياقة له من بعض . حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن يزيد الحلبي القاضي قال : حدثنا محمد بن معاذ بن المستهل بن أبي جامع البصري يعرف بدران حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثا ومشى أربعة ، ثم صلى ركعتين ، فقرأ فيهما ب " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " ، ثم خرج يريد الصفا والمروة ، فقال : نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا ، فرقي ثلاثا ، وأهل [ ص: 80 ] واحدة ، ثم هبط ، فلما انصبت قدماه سعى حتى ظهر من طريق المسيل ، وفي هذا الحديث دليل على أن النسق بالواو جائز أن يقال فيه قبل وبعد ; لقوله صلى الله عليه : نبدأ بما بدأ الله به فقد أخبر أن الله بدأ بذكر الصفا قبل المروة وعطف المروة عليها ، إنما كان بالواو ، وإذا كان الابتداء بالصفا قبل المروة سنة مسنونة وعملا واجبا ، فكذلك كل ما رتبه الله ونسق بعضه على بعض بالواو في كتابه من آية الوضوء . وهذا موضع اختلف فيه العلماء وأهل الأمصار وأهل العربية ، فمذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن الواو لا توجب التعقيب ، ولا تعطي رتبة ، وبذلك قال أصحابه ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد المزني صاحب الشافعي وداود بن علي قالوا فيمن غسل ذراعيه ، أو رجليه قبل أن يغسل وجهه ، أو قدم غسل رجليه قبل غسل يديه ، أو مسح برأسه قبل غسل وجهه - أن ذلك يجزئه ، إلا أن مالكا يستحب لمن نكس وضوءه ولم يصل - أن يستأنف الوضوء على نسق الآية ، ثم يستأنف صلاته ، فإن صلى لم يأمره بإعادة الصلاة ، لكنه يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل ، ولا يرى ذلك واجبا عليه ، هذا هو تحصيل مذهب مالك . وقد روى علي بن زياد عن مالك قال : من غسل ذراعيه ، ثم وجهه ، ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه ، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة ، قال علي ثم قال بعد ذلك : لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستقبل ، وذكر أبو مصعب عن مالك وأهل المدينة أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه ، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء . وكل من ذكرناه من العلماء مع مالك يستحب أن يكون الوضوء نسقا ، والحجة لمالك ومن ذكرنا من العلماء أن سيبويه وسائر البصريين من النحويين ، قالوا في قول الرجل : أعط زيدا وعمرا دينارا : إن ذلك إنما يوجب الجمع بينهما في العطاء ولا يوجب تقدمة [ ص: 81 ] زيد على عمرو ، فكذلك قول الله عز وجل إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ، إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة في الغسل ، ولا يوجب النسق ، وقد قال الله عز وجل : وأتموا الحج والعمرة لله فبدأ بالحج قبل العمرة ، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج ، وكذلك قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة ماله في حين وقت صلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة ، ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع ، وكذلك قوله فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله لا يختلف العلماء أنه جائز لمن وجب عليه في قتل الخطأ إخراج الدية وتحرير الرقبة ويسلمها قبل أن يحرر الرقبة ، وهذا كله منسوق بالواو ، ومثله كثير في القرآن ، فدل على أن الواو لا توجب رتبة . وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا : ما أبالي بأي أعضائي بدأت في الوضوء إذا أتممت وضوئي . وهم أهل اللسان فلم يبق لهم من الآية ، إلا معنى الجمع ، لا معنى الترتيب ، وقد أجمعوا أن غسل الأعضاء كلها مأمور في غسل الجنابة ، ولا ترتيب في ذلك عند الجميع ، فكذلك غسل أعضاء الوضوء ; لأن المعنى في ذلك الغسل ، لا التبدية ، وقد قال الله عز وجل : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، ومعلوم أن السجود بعد الركوع ، وإنما أراد الجمع ، لا الرتبة . هذا جملة ما احتج به من احتج للقائلين بما ذكرنا . وأما الذين ذهبوا إلى إبطال وضوء من لم يأت بالوضوء على ترتيب الآية ، وإبطال صلاته إن صلى بذلك الوضوء المنكوس منهم الشافعي وسائر أصحابه والقائلين بقوله ، إلا المزني . ومنهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد [ ص: 82 ] القاسم بن سلام وإسحاق بن ثور وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك ذكره في مختصره ، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم ، فمن الحجة لهم أن الواو توجب الرتبة والجمع جميعا وحكى ذلك بعض أصحاب الشافعي في كتاب الأصول له ، عن نحويي الكوفة الكسائي والفراء وهشام بن معاوية أنهم قالوا في واو العطف : إنها توجب الجمع وتدل على تقدمة المقدم في قولهم : أعط زيدا وعمرا ، قالوا : وذلك زيادة في فائدة الخطاب مع الجمع ، قالوا : ولو كانت الواو توجب الرتبة أحيانا ، ولا توجبها أحيانا ، ولم يكن بد من بيان مراد الله عز وجل في الآية على ما زعم مخالفونا لكان في بيان رسول الله صلى الله عليه لذلك بفعله ما يوجبه ; لأنه مذ بعثه الله إلى أن مات لم يتوضأ إلا على الترتيب ، فصار ذلك فرضا ; لأنه بيان لمراد الله عز وجل فيما احتمل التأويل من الوضوء كتبيينه عدد الصلوات ومقدار الزكوات وغير ذلك من بيانه للفرائض المجملات التي لم يختلف أنها مفروضات ، فمن توضأ على غير ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزه بدليل قوله صلى الله عليه : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وبدليل قوله أيضا ، وقد توضأ على الترتيب : هذا وضوء لا يقبل الله صلاة إلا به قالوا : وأما الحديث عن علي وابن مسعود فغير صحيح عنهما ; لأن حديث علي انفرد به عبد الله بن عمرو [ ص: 83 ] بن هند الجملي ولم يسمع من علي . والمنقطع من الحديث لا تجب به حجة . قالوا : وكذلك حديث عبد الله بن مسعود أشد انقطاعا ; لأنه لا يوجد إلا من رواية مجاهد عن ابن مسعود ومجاهد لم يسمع من ابن مسعود ولا رآه ، ولا أدركه ، وهو أيضا حديث مختلف فيه ; لأن عبد الرزاق ومحمد بن بكر البرساني روياه عن ابن جريج عن سليمان الأحول عن مجاهد عن ابن مسعود قال : ما أبالي بأيهما بدأت باليمنى ، أو باليسرى . ورواه حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن مجاهد قال : قال عبد الله بن مسعود : لا بأس أن تبدأ بيديك قبل رجليك ، قالوا : وعبد الرزاق أثبت في ابن جريج من حفص بن غياث وقد تابعه البرساني وليس في روايتهما ما يوجب تقديما ، ولا تأخيرا ; لأن اليمنى واليسرى لا تنازع بين المسلمين في تقديم إحداهما على الأخرى ; لأنه ليس فيهما نسق بواو ، وقد جمعهما الله بقوله : وأيديكم ، وهذا لم يختلف فيه فيحتاج إليه ، قالوا : وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنتم تقرءون الوصية قبل الدين وقضى رسول الله بالدين قبل الوصية ، وهو مشهور ثابت عن علي رضي الله عنه ، قالوا : فهذا علي قد أوجبت عنده " أو " التي هي في أكثر أحوالها بمعنى الواو - القبل والبعد ، فالواو عنده أحرى بهذا وأولى ، لا محالة ; لأن الواو أقوى عملا في العطف من " أو " عند الجميع ، ومن الحجة لهم أيضا ما أخبرنا به عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا أحمد بن [ ص: 84 ] دحيم حدثنا إبراهيم بن حماد قال : حدثنا عمي إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، قال : أخبرنا عطاف بن خالد قال : أخبرني إبراهيم بن مسلم بن أبي حرة عن عبد الله بن عباس قال : ما ندمت على شيء لم أكن علمت به ما ندمت على المشي إلى بيت الله أن لا أكون مشيت ; لأني سمعت الله عز وجل ، يقول حين ذكر إبراهيم وأمره أن ينادي في الناس بالحج ، قال : يأتوك رجالا فبدأ بالرجال قبل الركبان ، فهذا ابن عباس قد صرح بأن الواو توجب عنده القبل والبعد والترتيب . وأخبرنا خلف بن القاسم قال : أخبرنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سلام قال : حدثنا أبو بكر بن أبي العوام قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أيوب بن ابن مدرك عن أبي عبيدة عن عون بن عبد الله في قوله عز وجل ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، قال : ضج والله القوم من الصغار قبل الكبار ، فهذا أيضا مثل ما تقدم عن ابن عباس سواء ، قالوا : وليس الصلاة والزكاة في التقدمة في معنى هذا الباب في شيء ; لأنهما فرضان مختلفان : أحدهما في مال ، والثاني في بدن ، وقد يجب الواحد على من لا يجب عليه الآخر ، وكذلك الدية والرقبة شيئان ، لا يحتاج فيهما إلى الرتبة . وأما الطهارة ففرض واحد مرتبط بعضه ببعض كالركوع والسجود وكالصفا والمروة اللذين أمرنا بالترتيب فيهما ، قالوا : والفرق بين جمع زيد وعمرو في العطاء وبين [ ص: 85 ] أعضاء الوضوء ; لأنه لا يمكن أن يجمع بين عمرو وزيد معا في عطية واحدة ، وذلك غير متمكن في أعضاء الوضوء ، إلا على الرتبة ، فالواجب أن لا يقدم بعضها على بعض ; لأن رسول الله لم يفعل ذلك منذ افتراض الله عليه الوضوء إلى أن توفي صلى الله عليه ، ولو كان ذلك جائزا لفعله صلى الله عليه ، ولو مرة واحدة ; لأنه كان إذا خير في أمرين أخذ أيسرهما ، فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الرتبة في الوضوء كالركوع والسجود ، ولا يجوز أن يقدم السجود على الركوع بإجماع . واحتجوا أيضا بأن الواو في آية الوضوء في الأعضاء كلها معطوفة على الفاء في قوله فاغسلوا وجوهكم الآية ، قالوا : وما كان معطوفا على الفاء فحكمه حكم الفاء ، بواو كان معطوفا ، أو بغير واو ; لأن أصله العطف على الفاء ، وحكمها إيجاب الرتبة والعجلة ، قالوا : وحروف العطف كلها قد أجمعوا أنها توجب الرتبة ، إلا الواو فإنهم قد اختلفوا فيها ، فالواجب أن يكون حكمها حكم أخواتها من حروف العطف في إيجاب الترتيب . وأما قول الله عز وجل يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي فجائز أن يكون عبادتها في شريعتها الركوع بعد السجود ، فإن صح أن ذلك ليس كذلك فالوجه فيه أن الله عز وجل أمرها أولا بالقنوت ، وهو الطاعة ، ثم السجود وهي الصلاة بعينها كما قال : وأدبار السجود ؛ أي أدبار الصلوات واركعي مع الراكعين أي اشكري مع الشاكرين . ومنه قول الله تعالى فخر راكعا أي سجد شكرا لله ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : هي سجدة شكر ، واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل اركعوا واسجدوا مع إجماع المسلمين أنه لا يجوز لأحد أن يسجد قبل أن يركع ، قالوا : فهذه الواو قد أوجبت الرتبة في هذا الموضع من غير خلاف . واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله مع قول رسول الله [ ص: 86 ] نبدأ بما بدأ الله به ، ورجحوا قولهم بأن الاحتياط في الصلوات واجب ، وهو ما قالوه ; لأن من صلى بعد أن توضأ على النسق كانت صلاته تامة بإجماع ، قالوا : ومن الدليل على ثبوت الترتيب في الوضوء دخول المسح بين الغسل ; لأنه لو قدم ذكر الرجلين وأخر مسح الرأس لما فهم المراد من تقديم المسح ، فأدخل المسح بين الغسلين ليعلم أنه مقدم عليه ليثبت ترتيب الرأس قبل الرجلين ، ولولا ذلك لقال : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم ، ولما احتاج أن يأتي بلفظ ملتبس محتمل للتأويل لولا فائدة الترتيب في ذلك ، ألا ترى أن تقديم ذكر الرأس ليس على من جعل الرجلين ممسوحتين فلفائدة وجوب الترتيب وردت الآية بالتقديم والتأخير ، والله أعلم ، هذا جملة ما احتج به الشافعيون في هذه المسألة . قال أبو عمر : أما ما ادعوه عن العرب ونسبوه إلى الفراء والكسائي وهشام فليس بمشهور عنهم ، والذي عليه جماعة أهل العربية أن الواو إنما توجب التسوية . وأما ما ذكروه من آية الوصية والدين ، فلا معنى له ; لأن المال إذا كان مأمونا وبذر الورثة فنفذوا الوصية قبل أداء الدين ، ثم أدوا الدين بعد من مال الميت - لم تجب عليهم إعادة الوصية ، ولو نفذوا الوصية ، ولم يكن في المال ما يؤدى منه الدين وكانوا قد علموا به ضمنوا ; لأنهم قد تعدوا ، وكذلك قوله : اركعوا واسجدوا ولسنا ننكر - إذا صحب الواو بيان يدل على التقدمة - أن ذلك كذلك لموضع البيان ، وإنما قلنا إن حق الواو في اللغة التسوية لا غير حتى يأتي إجماع يدل على غير ذلك ويبين المراد فيه ، والإجماع في آية الوضوء معدوم ، بل أكثر أهل العلم على خلاف الشافعي في ذلك مع ما روي في ذلك عن علي وابن مسعود . وأما ما ادعوه من أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية بيان كبيانه [ ص: 87 ] ركعات الصلوات فخطأ ; لأن الصلوات فرضها مجمل ، لا سبيل إلى الوصول لمراد الله منها إلا بالبيان ، فصار البيان فيها فرضا بإجماع ، وليس آية الوضوء كذلك لأنا لو تركنا وظاهرها كان الظاهر يغنينا عن غيره ; لأنها محكمة مستغنية عن بيان . فلم يكن فعله فيها صلى الله عليه وسلم إلا على الاستحباب ، وعلى الأفضل كما كان يبدأ بيمينه قبل يساره ، وكان يحب التيامن في أمره كله ، وليس ذلك بفرض عند الجميع . وأما ما احتجوا به من قول الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله مع قول رسول الله نبدأ بما بدأ الله به ، فلا حجة فيه ; لأنا كذلك نقول : نبدأ بما بدأ الله به ، هذا الذي هو أولى ولسنا نختلف في ذلك ، وإنما الخلاف بيننا وبينهم فيمن لم يبدأ بما بدأ الله به ، هل يفسد عمله في ذلك أم لا ؟ ، وقد أريناهم أنه لا يفسد بالدلائل التي ذكرنا ، على أن قوله صلى الله عليه وسلم نبدأ بما بدأ الله به ظاهره أنه سنة ، والله أعلم . ; لأن فعله ليس بفرض ، إلا أن يصحبه دليل يدخله في حيز الفروض ، ولو كان فرضا لقال : ابدءوا بما بدأ الله ، يأمرهم بذلك . ولفظ الأمر في هذا الحديث لا يؤخذ من رواية من يحتج به ، وهذا الإدخال والاحتجاج مذهب أصحابنا المالكيين ; لأنهم يذهبون إلى أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجوب أبدا حتى يقوم الدليل على أنها أريد بها الندب ، وهذه المسألة خارجة على مذهبهم عن أصلهم هذا ، وقد ينفصل من هذا بما يطول ذكره ، وقد يحتمل أن يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم نبدأ بما بدأ الله به على أن الواو لا توجب الترتيب ; لأنها لو كانت توجب الترتيب لم يحتج رسول الله أن يقول لهم : نبدأ بما بدأ الله به ; لأنهم أهل اللسان الذي نزل القرآن به ، فلو كان مفهوما في فحوى الخطاب أن الواو توجب القبل والبعد ما احتاج [ ص: 88 ] رسول الله - والله أعلم - أن يبين لهم ذلك ، وإنما بين لهم ذلك ; لأن المراد كان من السعي بين الصفا والمروة أن يبدأ فيه بالصفا ، ولم يكن ذلك بينا في الخطاب فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف الفقهاء فيمن نكس السعي بين الصفا والمروة فبدأ بالمروة قبل الصفا ، فقال منهم قائلون : لا يجزئه وعليه أن يلغي ابتداءه بالمروة ويبني على سعيه من الصفا ويختم بالمروة ، منهم مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة ومن قال بقولهم . وقال بعض العراقيين : يجزئه ذلك ، وإنما الابتداء عندهم بالصفا استحباب ، وقد اختلف عن عطاء فروي عنه أنه يلغي الشوط ، وهو الذي عليه العمل عند الفقهاء . وروي عنه أنه من جهل ذلك أجزأ عنه ، والحجة لمالك ومن قال بقوله - ما قدمنا ذكره . وأما ترجيحهم بالاحتياط في الصلاة فأصل غير مطرد عند الجميع ، ألا ترى أن الشافعي لم ير ذلك حجة في اختلاف نية المأموم والإمام ، وفي الجمعة خلف العبد ، وفي الوضوء بما حل فيه النجاسة إذا كان فوق القلتين ولم يتغير ، وهذا كله الاحتياط فيه غير قوله ، ولم ير للاحتياط معنى إذ قام له الدليل على صحة ما ذهب إليه ، فكذلك لا معنى لما ذكروه من الاحتياط مع ظاهر قول الله عز وجل والمشهور من لسان العرب . وأما قولهم من فعل فعلنا كان مصليا بإجماع ، فهذا أيضا أصل لا يراعيه أحد من الفقهاء مع قيام الدليل على ما ذهب إليه . وأما قولهم إن وجوب الترتيب أوجب التقديم والتأخير في آية الوضوء فظن ، والظن لا يغني من الحق شيئا ، والتقديم والتأخير في القرآن كثير ، وهو معروف في لسان العرب متكرر في كتاب الله ، فليس في قولهم ذلك شيء يلزم ، والله أعلم . أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن [ ص: 89 ] قال : أخبرنا أحمد بن سلمان النجاد ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن هند الجملي أن عليا قال : ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي ، قال : عوف ولم يسمع من علي وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : أحب إلي أن يبدأ بالأول فالأول : المضمضة ، ثم الاستنشاق ، ثم الوجه ، ثم اليدين ، ثم المسح على الرأس ، ثم الرجلين ، قال : فإن قدم شيئا على شيء ، فلا حرج ، وهو يكرهه . قال أبو عمر : قول مالك في مثل قول عطاء سواء . وأما على قول من لم ير بتنكيس السعي وتنكيس الطواف بأسا فالحجة عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وختم بالمروة في السعي وطاف بالبيت على رتبته ، ثم قال : خذوا عني مناسككم . والحج في الكتاب مجمل وبيانه له كبيانه لسائر المجملات من الصلوات والزكوات ، إلا أن يجمع على شيء من ذلك فيخرج بدليله ، وبالله التوفيق . [ ص: 90 ] ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال : دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة ، وأن يوضعوا في وادي محسر ، وأمرهم بمثل حصى الخذف . وقال : خذوا عني مناسككم ، لعلي لا أحج بعد عامي هذا

التالي السابق


الخدمات العلمية