التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
337 [ ص: 293 ] حديث ثان لصالح بن كيسان ، مسند

مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، في الحضر ، والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر .


هذا حديث صحيح الإسناد عند جماعة أهل النقل ، لا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده ، وكل من رواه قال فيه عن عائشة : فرضت الصلاة . لا يقول : فرض الله ، ولا فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما حدث به أبو إسحاق الحربي ، قال : حدثنا أحمد بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : حدثنا ابن عجلان عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ركعتين ركعتين . فذكر الحديث .

[ ص: 294 ] هكذا قال : فرض رسول الله ، وعنه تقول : فرضت ، إلا أن الأوزاعي قال فيه : عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، ولم يروه مالك عن ابن شهاب ، ولا عن هشام ، إلا أن شيخا يسمى يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ رواه عن مالك ، وابن أخي الزهري - جميعا - عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر وهذا لا يصح عن مالك ، والصحيح في إسناده عن مالك في الموطأ ، وطرقه عن عائشة متواترة ، وهو عنها صحيح ليس في إسناده مقال ، إلا أن أهل العلم اختلفوا في معنى هذا الحديث ، فذهب منهم جماعة إلى ظاهره وعمومه وما يوجبه لفظه ، فأوجبوا القصر في السفر فرضا ، وقالوا : لا يجوز لأحد أن يصلي في السفر إلا ركعتين ركعتين كل صلاة أربع .

قال أبو عمر : فأما المغرب والصبح ، فلا خلاف بين العلماء أنهما كذلك فرضتا ، وأنهما لا قصر فيهما ، في السفر ولا غيره ، وهذا يدلك على أن قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين . قول ظاهره العموم ، والمراد به الخصوص ; ألا ترى أن صلاة المغرب غير داخلة في قولها : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين . وكذلك الصبح غير داخلة في قولها : فزيد في صلاة الحضر ; لأنه معلوم أن الصبح لم يزد فيها ولم ينقص منها ، وأنها في السفر والحضر سواء ، فحجة من ذهب إلى إيجاب القصر في السفر [ ص: 295 ] فرضا قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وهذا واضح في أن الركعتين في السفر للمسافر فرض لا يجوز خلافه ; لأن الفرض الواجب لا يجوز خلافه ولا الزيادة عليه ; ألا ترى أن المصلي في الحضر لا يجوز له أن يصلي الظهر ستا ، ولا العصر ولا العشاء ولا يجوز له أن يصلي المغرب أربعا ولا الصبح أربعا ; لأنه لو فعل ذلك كان زائدا في فرضه عامدا لما يفسده ، وهذا كله إجماع لا خلاف فيه للحضري أنه لا يجوز له ذلك ، قالوا : فكذلك المسافر ، لا يجوز له أن يصلي في السفر أربعا ; لأن فرضه في السفر ركعتان على ما ذكرت عائشة .

وممن ذهب إلى هذا : عمر بن عبد العزيز - إن صح عنه - وحماد بن أبي سليمان ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، وقول بعض أصحاب مالك ، وقد روي عن مالك أيضا - وهو المشهور عنه - أنه قال : من أتم في السفر أعاد في الوقت ، ومن حجة من ذهب إلى إيجاب القصر فرضا في السفر - حديث عمر بن الخطاب قال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصرعلى لسان نبيكم ، صلى الله عليه وسلم . وهو حديث رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، وقال ابن معين ، وعلي ابن المديني : لم يسمعه من عمر ، ورجاله ثقات [ ص: 296 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، قال سفيان : قال زبيد مرة : عن عمر ، قال : صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي ، صلى الله عليه وسلم .

قال أبو عمر : روى هذا الحديث يزيد بن هارون ، عن الثوري ، عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : سمعت عمر . فخطئوه فيه لقوله : سمعت عمر . وقد رواه محمد بن طلحة ، قال : حدثنا زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : خطبنا عمر ، فقال : ألا إن صلاة يوم الفطر ، وصلاة يوم النحر ، وصلاة يوم الجمعة ، وصلاة السفر ركعتان ركعتان ، تمام غير قصر على لسان النبي ، صلى الله عليه وسلم . فوهم أيضا فيه .

ورواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، فزاد كعب بن عجرة ، أدخله بين عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وابن عمر ، وليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، ومن أهل الحديث من يعلله ويضعفه ، ومنهم من يصحح إسناد يزيد بن أبي الجعد هذا فيه .

قال علي ابن المديني : هو أسندها ، وأحسنها ، وأصحها ، واحتجوا أيضا بما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد [ ص: 297 ] وحدثنا عبد الوارث أيضا ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن شاذان ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قالا : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .

وهذا أيضا حديث انفرد به بكير بن الأخنس ، وليس بحجة فيما انفرد به ، واحتجوا أيضا بأن قالوا : وأما قول الله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فغير جائز لمن جعل الطواف بين الصفا والمروة من أركان الحج مع قول الله عز وجل : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) أن يحتج بهذه الآية في إباحة القصر في السفر ، وقالوا : إنما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان بين الظهر والعصر في صلاة الخوف ، وذكروا في ذلك حديثا رواه مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، عن النبي عليه السلام .

[ ص: 298 ] وقالوا : ذلك يدل على أن القصر إنما هو قصر المأموم خلف إمامه ، يصلي معه بعضها بشرط الخوف ، ولا يتمها معه ، وإذا كان ذلك كذلك ، كان حديث عائشة في معنى غير معنى الآية قد أفاد حكما زائدا .

واحتجوا أيضا بأن جابرا ، وابن عمر ، قالا : ليس الركعتين في السفر بقصر ، وأن ابن عباس قال : من صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين ، فهذه جملة ما نزع به الذين ذهبوا إلى أن القصر في السفر فرض على ظاهر حديث عائشة . وقال آخرون : القصر في السفر سنة مسنونة ورخصة وتوسعة ، فمن شاء قصر في السفر ومن شاء أتم ، كما أن المسافر مخير ، إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وحجتهم قول الله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) قالوا : فالقرآن يدل على أن القصر ليس بحتم ; لأن الحتم لا يقال فيه : ليس عليكم جناح أن تفعلوه ، قالوا : كل ما قيل فيه : لا جناح ، فإنما هو رخصة ، لا حتم ، مثل قوله عز وجل ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ) فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن ) [ ص: 299 ] وما كان مثل هذا ، وكذلك قوله عز وجل في الصفا والمروة : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) نزلت في إباحة ما كان عندهم محظورا ; لأن العرب كانت تتحرج من العمرة في أشهر الحج وتتحرج من فعل ما كانت تفعله في جاهليتها ، وقد بينا معنى هذه الآية في مواضع من كتابنا هذا والحمد لله .

قالوا : وإن كان شرط الخوف مذكورا في الآية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم ، وهو المبين عن الله مراده - قد بين بسنته أن المسافر يقصر الصلاة في الخوف وفي غير الخوف ; لأنه كان يقصر وهو آمن لا يخاف إلا الله ، فكان القصر في السفر مع الأمن زيادة بيان على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم ينزل به وحي يتلى ، ومثله كثير في الشرع ، واحتجوا من الأثر بما حدثناه عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، ومسدد ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عامر ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب : أرأيت إقصار الناس الصلاة اليوم ؟ وإنما قال الله عز وجل : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فقد ذهب ذلك اليوم ، فقال : عجبت مما عجبت [ ص: 300 ] منه فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته هكذا قال يحيى القطان ، عن ابن جريج ، حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار . وقال عبد الرزاق ، ومحمد بن بكر البرساني ، وأبو عاصم ، وحماد بن مسعدة ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الله بن أبي عمار ، وقال الفزاري ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، قالوا : ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن القصر في السفر مع الأمن صدقة تصدق الله بها عليكم دليل على أن ذلك توسعة ورخصة ورحمة ، وليس بواجب .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، قال : أما قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فإنما ذلك إذا خافوا الذين كفروا ، وسن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الركعتين ، وليستا بقصر ، ولكنهما وفاء .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا يزيد بن إبراهيم ، عن محمد بن سيرين ، قال : أنبئت [ ص: 301 ] أن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج ما بين مكة والمدينة ، لا يخاف إلا الله ، يقصر الصلاة . ومما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر وهو آمن غير خائف ، قصره الصلاة في حجته حجة الوداع ، وهو يومئذ قد أمن ، وهذا ما لا يجهله أحد من أهل العلم .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، وعارم بن الفضل ، قالا : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، زاد عارم : وبينهما ستة أميال ، قال أنس : وسمعتهم يصرخون بهما جميعا : الحج والعمرة .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى عن سفيان ، قال : حدثني محمد بن المنكدر ، وإبراهيم بن ميسرة ، سمعا أنس بن مالك يحدث ، قال : صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظهر أربعا ، وصلينا العصر بذي الحليفة ركعتين فاستدلوا [ ص: 302 ] بهذه الآثار على أن القصر في السفر سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بفريضة ، واحتجوا أيضا بما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن روح ، حدثنا عثمان بن عمر ، قال : أخبرنا مالك بن مغول ، عن أبي حنظلة الحذاء ، قال : قلت لابن عمر : أصلي في السفر ركعتين ، والله يقول : إن خفتم ، ونحن نجد الزاد والمزاد ؟ فقال : كذلك سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم فهذا ابن عمر قد صرح بأن القصر سنة من رسول الله لا فريضة من الله ولا من رسوله ، ولو فرضها رسول الله لقال ابن عمر : فرضها ، كما قال في زكاة الفطر ، وقد مضى في هذا المعنى ما فيه كفاية في باب ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد من كتابنا هذا .

وقد جاء في هذا الباب عن ابن عباس نحو ما جاء عن ابن عمر : ذكر عبد الرزاق أخبرنا ، ابن جريج ، قال : سأل حميد الضمري ابن عباس ، فقال : إني أسافر ، أفأقصر الصلاة في السفر أم أتمها ؟ فقال ابن عباس : ليس بقصرها ، ولكنه تمامها وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنا لا يخاف إلا الله ، فصلى اثنتين حتى رجع ، ثم خرج أبو بكر آمنا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين حتى [ ص: 303 ] رجع ، ثم خرج عمر آمنا لا يخاف إلا الله ، فصلى اثنتين حتى رجع ، ثم فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ، ثم صلاها أربعا ، ثم أخذ بها بنو أمية قال ابن جريج : وبلغني : إنما أوفاها عثمان أربعا بمنى من أجل أن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما زلت أصليها ركعتين مذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين ، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أن الصلاة ركعتان ، وإنما كان أوفاها بمنى فقط .

قال أبو عمر : قد اختلف في المعنى الذي من أجله أتم عثمان الصلاة في سفره إلى مكة وبمكة ، فقال قوم : أخذ بالمباح في ذلك ; إذ للمسافر أن يقصر وأن يتم ، كما كان له أن يصوم وأن يفطر .

ومن ذهب إلى هذا المذهب ، احتج بما قدمنا ذكره من ظاهر الكتاب والسنة ، وبما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا المغيرة بن زياد ، عن عطاء ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتم في السفر ويقصر .

[ ص: 304 ] وأخبرنا أحمد بن قاسم ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحرث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت : كل قد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، قد صام وأفطر وأتم وقصر في السفر .

حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا مسلمة بن قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا سليمان بن داود الطيالسي ، حدثنا حبيب بن يزيد الأنماطي ، حدثنا عمرو بن هرم ، عن جابر بن زيد ، قال : قالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين - يعني الفرائض - فلما قدم المدينة ، وفرضت عليه الصلاة أربعا وثلاثا - صلى وترك الركعتين اللتين كان يصليهما بمكة تماما للمسافر .

فهذه عائشة قد اضطربت الآثار عنها في هذا الباب ، وإتمامها في السفر يقضي بصحة ما وافق معناه منها .

وروى زيد العمي عن أنس ، قال : كنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسافر ، فيتم بعضنا ، ويقصر بعضنا ، ويصوم بعضنا ، ويفطر بعضنا ، ولا يعيب أحد على أحد .

وقال آخرون : إن عثمان إنما أتم في السفر ; لأنه كان له في تلك المناهل أهل ومال ، وهذا موجود في حديث رواه [ ص: 305 ] عكرمة بن إبراهيم الأزدي المرطي ، عن عبد الله بن الحرث بن أبي ذباب ، عن أبيه ، عن عثمان بن عفان ، أنه صلى بأهل منى أربع ركعات ، فلما سلم أقبل على الناس ، فقال : إني تأهلت بمكة ، وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من تأهل في بلدة فهو من أهلها ، فليصل أربعا . فلذلك صليت أربعا . ذكره الطحاوي عن يحيى بن عثمان بن صالح ، عن عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي ، وعن إسماعيل بن حمدويه ، عن الحميدي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن مولى بني هاشم ، قالا جميعا : أخبرنا عكرمة بن إبراهيم بإسناده - كما ذكرناه . والحرث بن أبي ذباب قد عمل لعمر بن الخطاب على الصدقة ، وقال آخرون : إتمامه إنما كان على نحو إتمام عائشة ، وقد ذكرنا الوجوه التي تئولت على عائشة في إتمامها في باب ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد .

وذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان صدرا من خلافته ، ثم صلاها أربعا .

[ ص: 306 ] قال ابن شهاب : فبلغني أن عثمان أيضا صلاها أربعا ; لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج .

قال أبو عمر : هذا وجه صحيح مجتمع عليه فيمن نوى الإقامة ، أنه يلزمه الإتمام ، وقال وهيب عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر صلوا بمنى ركعتين ، وعثمان شطر إمارته ، ثم أتمها عثمان أربعا بمنى قال : لأنه اتخذ أموالا بالطائف ، فأجمع المقام فأتم الصلاة ، أما قوله : بالطائف ، فليس بشيء ; لأنه بلد آخر ، وقال معمر عن قتادة : إن عثمان لما صلى أربعا بلغ ذلك ابن مسعود فاسترجع ، ثم قام أربعا ، فقيل له : استرجعت ثم صليت أربعا ؟ قال : الخلاف شر .

وروى أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله ، قال : صلى عثمان بمنى أربعا ، قال : فقال عبد الله : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ثم تفرقت بكم الطرق ، ولوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين .

قال الأعمش : فحدثني معاوية بن قرة أن عبد الله صلاها بعد أربعا ، فقيل له : عبت على عثمان وتصلي أربعا ؟ قال : الخلاف شر .

[ ص: 307 ] حدثناه عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا أبو معاوية محمد بن حازم ، قال : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله ، قال : صلى عثمان - فذكره ، قال : وحدثنا أبي ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : كنت مع عبد الله بمنى ، فلما صلى عثمان أربعا قال عبد الله : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان ركعتين ، وصلى أبو بكر ركعتين ، وصلى عمر ركعتين ، قال الأسود : فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، ألا سلمت في ركعتين وجعلت الركعتين الأخريين تسبيحا ؟ قال : الخلاف شر .

قال أبو عمر : فهذا يدلك على أن القصر عند ابن مسعود ليس بفرض ، وإنما أنكر مخالفة عثمان الأفضل عنده ; لأن الأفضل عنده اتباع السنة ، ثم رأى اتباع إمامه فيما أبيح له أولى من إتيان الأفضل في القصر ; لأن مخالفة الأئمة لا تجوز إلا فيما لا يحل ، وأما فيما أبيح فلا يجوز فيه مخالفة الأئمة - إذا حملهم على ذلك الاجتهاد - ولعل عثمان ذهب إلى أن اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفره القصر كان لأنه أيسر على أمته ، فاختاره لذلك ، وقالت عائشة : ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما الحديث . وهذا لا حجة فيه ; لأن ما اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته وسنه وواظب عليه كان أفضل مما سواه ، ومثل حديث ابن مسعود هذا حديث سلمان : [ ص: 308 ] ذكر عبد الرزاق ، عن اسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ليلى الكندي ، عن سلمان ، أنه كان مع قوم في السفر فحضرت الصلاة ، فقالوا له : صل بنا ، فقال : إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم ، فأبى فتقدم رجل من القوم ، فصلى بهم أربع ركعات ، فلما سلم قال سلمان : ما لنا وللمربعة ؟ وإنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج . ألا ترى أن سلمان لم يعد الصلاة ، بل تمادى مع إمامه فصلى أربعا ، وإن كان لم يحمد ذلك له ، فهذا يدل على أن القصر عند سلمان رخصة وسنة ، وقد تقدم عن ابن عباس ، وابن عمر أن ذلك سنة .

وحدثنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا خالد بن سعد ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو ، قال : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن موسى بن سلمة ، قال : سألت ابن عباس قلت : أكون بمكة فكيف أصلي ؟ قال : ركعتين ، سنة أبي القاسم ، صلى الله عليه وسلم . فحسبك بهذا عن ابن عباس ، وفيه تصريح أن ذلك سنة .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قلت له : فيم جعل القصر في الخوف وقد أمن الناس ؟ قال : [ ص: 309 ] السنة ، قلت : ورخصة ؟ قال : نعم ، قال : وقال لي عمرو بن دينار مثله . قال : وحدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : كان سعد بن أبي وقاص ، وعائشة يوفيان الصلاة في السفر ويصومان ، قال : وسافر نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأوفى سعد الصلاة وصام ، وقصر القوم وأفطروا ، فقالوا لسعد : كيف نفطر ونقصر الصلاة ، وأنت تتمها وتصوم ؟ فقال : دونكم أمركم ، فإني أعلم بشأني ، قال : فلم يحرمه سعد عليهم ، ولم ينههم عنه ، قال ابن جريج : فقلت لعطاء : فأي ذلك أحب إليك ؟ قال : قصرها ، قال : وكل ذلك قد فعله الصالحون والأخيار .

قال أبو عمر : حديث عطاء هذا وما حكاه عن سعد وعائشة - أعرف من رواية جويرية عن مالك ، عن الزهري ، عن رجل ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، أن سعد بن أبي وقاص ، والمسور بن مخرمة ، وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانوا جميعا ، فكان سعد يقصر الصلاة ويفطر ، وكانا يتمان الصلاة ويصومان ، فقيل لسعد في ذلك ، فقال سعد : نحن أعلم . المشهور عن سعد ما ذكره عطاء ، وعلى أي حال كان ، ففيه دليل على إباحة القصر والتمام ، وعلى هذا يخرج اختلاف الرواية عن سعد كأنه كان يتم مرة ويقصر أخرى ، وكذلك كل من روي عنه مثل ذلك من الصحابة ، والله أعلم .

[ ص: 310 ] وروى ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن القاسم بن محمد ، أن رجلا قال له : عجبت من عائشة ، كانت تصلي أربعا في السفر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين ! فقال له القاسم : عليك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن من الناس من لا يعاب .

وذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أنها كانت تتم في السفر ، قال : وأخبرنا الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة ، عن عائشة أنها كانت تتم في السفر .

قال أبو عمر : رد الذين ذهبوا إلى أن القصر في السفر مع الأمن سنة مسنونة غير فريضة حديث عائشة ، حيث قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر . فردوه بأن قالوا : قد صح عنها أنها كانت تتم في السفر ، وهذا من فعلها يرد قولها ذلك ، وإن صح قولها ذلك عنها ، ولم يدخله الوهم من جهة النقل فهو على غير ظاهره ، وفيه معنى مضمر باطن ، وذلك - والله أعلم - كأنها قالت : فأقرت صلاة السفر لمن شاء ، أو نحو هذا ، قالوا : ولا يجوز على عائشة أن تقر بأن القصر فرض في السفر ، وتخالف الفرض ، هذا ما لا يجوز لمسلم أن ينسبه إليها ، قالوا : وغير جائز تأويل من تأول عليها أن إتمامها كان من أجل أنها كانت أم المؤمنين [ ص: 311 ] فكانت حيثما نزلت على بنيها فلم تقصر ; لأن ذلك كان منها كأنها كانت في بيتها ، وهذا لا يجوز لأحد أن يعتقده ; لأن النبي عليه السلام به صارت عائشة وسائر أزواجه أمهات المؤمنين ، وكان - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين أبا رءوفا رحيما ، وكان يقصر في أسفاره كلها : في غزواته وعمرته وحجته ، صلى الله عليه وسلم .

وفي قراءة أبي بن كعب : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ، فمما يرد حديث عائشة : إتمامها في أسفارها ، ومما يرده أيضا حديث ابن عباس وغيره : أن الصلاة فرضت في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وما روي عنها مما قدمنا ذكره في هذا الباب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتم في السفر وقصر وصام وأفطر . ومما يعارضه أيضا : حديث القشيري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وضع الله عن المسافر الصوم وشطر الصلاة والوضع لا يكون في الأغلب إلا مما قد ثبت فوضع منه .

وفي إجماع الجمهور من الفقهاء على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة ، أنه يلزمه أن يصلي [ ص: 312 ] أربعا ، فلو كان فرض المسافر ركعتين لم ينتقل فرضه إلى أربع ، كما أن المقيم إذا دخل خلف المسافر لم ينتقل فرضه إلى اثنتين ، وهذا واضح لمن تدبر وأنصف ، قالوا : وكيف يجوز للمسافر أن يكون مخيرا ، إن شاء دخل خلف الإمام المقيم ، فصلى أربعا ، وإن شاء صلى وحده ركعتين ، ولا يكون مخيرا في حال انفراده ، إن شاء صلى ركعتين ، وإن شاء أربعا ؟ قالوا : ولو كان فرض المسافر ركعتين ما جاز له تغيير فرضه بالدخول مع المقيم في صلاته ، ولبطلت صلاته ، كما لو صلى الصبح خلف إمام يصلى الظهر إلى آخرها ، وهذا بين واضح ، والحمد لله .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن حاتم ، قال : أخبرنا حبان ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ابن عيينة ، عن أيوب ، عن شيخ من بني قشير ، عن عمه أنه انتهى إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم وهو يأكل - أو قال : يطعم - فقال : ادن فكل ، فقلت : إني صائم ، فقال : إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام ، وعن الحبلى والمرضع .

ورواه عبد الله بن الشخير ، وعمرو بن أمية الضمري ، عن النبي عليه السلام ، فأما حديث ابن الشخير فرواه أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن هانئ بن عبد الله بن الشخير عن [ ص: 313 ] أبيه ، عن النبي عليه السلام أنه قدم عليه - فذكر مثل حديث القشيري ، وأما حديث عمرو بن أمية فرواه الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن جعفر بن عمرو بن أمية ، عن أبيه ، عن النبي عليه السلام - هكذا حدث به الوليد بن مسلم عن الأوزاعي .

ورواه أبو المغيرة ، ومحمد بن حرب ، عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهاجر ، عن أبي أمية الضمري - يعني : عمرو بن أمية ، وكذلك رواه معاوية بن سلام ، عن يحيى بن أبي كثير - بإسناده مثله .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عبدة بن عبد الرحيم ، عن محمد بن شعيب ، قال : أخبرنا الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، قال : حدثني عمرو بن أمية الضمري قال : قدمت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر ، فقال : انتظر الغداء يا أبا أمية ، فقلت : إني صائم ، قال : ادن مني حتى أخبرك عن المسافر ، إن الله وضع عنه الصيام ونصف الصلاة .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا [ ص: 314 ] أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن علية ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة ، قال : مر عمران بن حصين في مجلسنا فقال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وشهدت معه الفتح ، فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين ، ثم يقول لأهل البلد : صلوا أربعا فإنا قوم سفر ، واعتمرت معه ثلاث عمر لا يصلي إلا ركعتين .

فهذا يدلك على أن الإمامة لا تنقل فرضا عن حاله ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن خلفه من أهل الحضر : صلوا أربعا فإنا قوم سفر ، وكذلك قال عمر لأهل مكة أيضا حين صلى بهم ثم سلم من ركعتين وقال لهم : أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر .

فلما لم يكن اتباع الإمام يحمل المقيم - إذا صلى خلف المسافر - على أن يجتزئ بركعتين ويقتصر على السلام معه ; لأن كلا على فرضه ، وكان المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم انتقل حكمه إلى حكم المقيم ، ولزمه أن يصلي أربعا - علمنا بذلك أن قصر الصلاة ليس بفرض واجب ; لأنه لو كان فرضا لأضاف المسافر إلى ركعته التي أدركها من صلاة المقيم ركعة أخرى ، واستجزى بذلك ، فلما أجمعوا على غير ذلك علم أن القصر للمسافر سنة لا فرض ، ألا ترى [ ص: 315 ] أنهم قد أجمعوا أنه جائز للمسافر أن يصلي خلف المقيم - من كره ذلك منهم ومن استحسنه - كلهم يجيزه ، وقد أجمعوا على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم لزمه الإتمام ، بل قد قال أكثرهم : إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه أنه تلزمه صلاة المقيم وعليه الإتمام ، فلو كان القصر فرضا واجبا ما دخل المسافر مع المقيم في صلاته ، والأمر في هذا واضح بين لمن لم يعاند وألهم رشده .

أخبرنا محمد بن عبد الملك ، وعبيد بن محمد ، قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور ، قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، قال : حدثنا محمد بن سنجر ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، قالا : سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسافر ركعتين وهما تمام . قالا : والوتر في السفر من السنة ، فهذا ابن عمر وابن عباس قد قالا : إن صلاة المسافر سنة ، كما قالا : إن الوتر في السفر من السنة ، وقد مضى في هذا الباب عن ابن عمر أيضا ، وابن عباس مثل ذلك .

وعن عطاء ، وعمرو بن دينار ، والقاسم بن محمد مثل ذلك ، وقد أشبعنا هذا المعنى عند ذكر حديث ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد في كتابنا هذا ، والحمد لله .

[ ص: 316 ] وأما اختلاف الفقهاء في هذا الباب ، فروي عن مالك أنه قال مرة في مسافر أم مقيمين ، فأتم بهم الصلاة - جاهلا - ومنهم المسافر والمقيم ، قال : أرى أن يعيدوا الصلاة جميعا ، وروي عنه أيضا أنه قال : يعيد ما كان في الوقت ، وما مضى وقته فلا إعادة عليه .

وقال ابن المواز في من صلى أربعا ناسيا لسفره ، أو ناسيا لإقصاره ، أو ذاكرا : فليعد في الوقت ، وكذلك قال سحنون فيمن صلى في السفر ناسيا أو ذاكرا - وزاد : أو جاهلا - أربعا : إنه يعيد في الوقت ، وقال ابن المواز : لو افتتح على ركعتين فأتمهما أربعا تعمدا أعاد أبدا ، وإن كان سهوا سجد لسهوه وأجزأه . وقال سحنون : بل يعيد أبدا لكثرة السهو ، وقال ابن المواز : ليس كسهو مجتمع عليه .

وذكر أبو الفرج ، عن مالك ، قال : ومن أتم في السفر أعادها مقصورة ما دام في وقتها إلى أن ينوي مقاما ، فيعيدها كاملة ما دام في وقتها ، قال : ولو صلى مسافر بمسافرين فسها فقام ليتم ، فليجلس من وراءه حتى يسلموا بسلامه ، وعليه إعادة الصلاة ما دام في الوقت ، قال القاضي أبو الفرج : أحسبه أنه ألزم هذا الإعادة ; لأنه سبح به ، فتمادى في صلاته عامدا ، عالما بذلك ، وأما إن كان ساهيا فلا وجه لأمره بالإعادة ; لأنه بمنزلة مقيم [ ص: 317 ] صلى الظهر خمسا ساهيا ، فلم يكن عليه إعادة ، وذكر ابن خواز منداد أن مالكا يقول : إن القصر في السفر مسنون واجب ، وهو قول الشافعي .

قال أبو عمر في قول مالك : إن من أتم الصلاة في السفر لم تلزمه الإعادة إلا في الوقت - دليل على أن القصر عنده ليس بفرض .

وقد حكى أبو الفرج في كتابه عن أبي المصعب ، عن مالك : القصر في السفر للرجال والنساء سنة .

قال أبو الفرج : فلا معنى للاشتغال بالاستدلال على مذهب مالك مع ما ذكره أبو المصعب : أن القصر عنده سنة لا فرض ، قال : ومما يدل على ذلك من مذهبه ، أنه لا يرى الإعادة على من أتم في السفر إلا في الوقت .

قال أبو عمر : فهذا أصح ما في هذه المسألة ، وذلك أصح الأقاويل فيها من جهة النظر والأثر ، وبالله التوفيق .

وأما الشافعي وأبو ثور ، فكانا يقولان : إن شاء المسافر قصر ، وإن شاء أتم ، وذكر أبو سعد القزويني المالكي أن الصحيح في مذهب مالك : التخيير للمسافر في الإتمام والقصر ، كما قال الشافعي ، إلا أنه يستحب له القصر ; ولذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم .

[ ص: 318 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا صلى المسافر أربعا ، فإن كان قعد في كل ركعتين قدر التشهد ، فصلاته تامة ، وإن لم يكن قعد في قدر الركعتين الأوليين قدر التشهد ، فعليه أن يعيد .

قال أبو عمر : هذا على أصولهم في أن التشهد والسلام ليسا بواجبين ، والجلوس مقدار التشهد عندهم واجب ، وبه يخرج عندهم من الصلاة ، وللرد عليهم في ذلك موضع غير هذا .

وقال حماد بن أبي سليمان : من أتم في السفر أعاد ، والإعادة عنده وعند أبي حنيفة - على ما قدمنا من أصولهم - أبدا .

وجاء عن عمر بن عبد العزيز ما يدل على أن القصر في السفر واجب ; لأنه قال : الركعتان للمسافر حتم لا يصلح غيرهما .

واختلف في هذه المسألة عن أحمد بن حنبل ، فقال مرة : أنا أحب العافية من هذه المسألة ، وقال مرة أخرى : لا يعجبني أن يصلي أربعا ، السنة ركعتان . وقد مضى القول في كثير من مسائل هذا الباب في باب ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية