التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
458 [ ص: 45 ] حديث ثاني عشر لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة .


هكذا روى هذا الحديث جماعة الرواة ، عن مالك إلا عبد العزيز بن يحيى ، فإنه رواه عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، والصحيح ما في الموطأ : مالك ، عن عبد الله بن دينار ، والله أعلم .

وفي هذا الحديث دليل على قبول خبر الواحد ، وإيجاب الحكم والعمل به ; لأن الصحابة رضي الله عنهم ، قد استعملوا [ ص: 46 ] خبره وقضوا به وتركوا قبلة كانوا عليها لخبره ، وهو واحد ، ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أنكره واحد منهم : وحسبك بمثل هذا قوة من عمل القرن المختار خير القرون وفي حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وروي أن الآتي المخبر لهم بما في هذا الحديث هو عباد بن بشر .

روى إبراهيم بن حمزة الزبيري ، قال : حدثني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة الأنصاري ، عن أبيه ، عن جدته نويلة بنت أسلم ، وكانت من المبايعات ، قالت : كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استقبل الكعبة أو قال : البيت الحرام فتحول الرجال مكان النساء وتحول النساء مكان الرجال .

وفيه أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء ، وفي حال بعد حال على حسب الحاجة إليه , حتى أكمل الله دينه وقبض رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أنزل القرآن جملة واحدة ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، ثم كان ينزل به جبريل - عليه السلام - نجما بعد نجم وحينا بعد حين ، قال الله عز وجل : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) يعني القرآن ، قالوا : إلى سماء الدنيا ، وقال [ ص: 47 ] عز وجل : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) .

وهذا الحديث أصل في كل من صلى على حال ، ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته - أنه يتمها ، ولا يقطعها ليستأنف غيرها , ويجزيه ما مضى منها وما أتمه على غير سنته , كمن صلى عريانا ، ثم وجد ثوبا في الصلاة أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض ، أو مريضا فصح ، أو قاعدا ثم قدر على القيام ، وفي هذه المسائل - وفيمن طرأ الماء عليه في الصلاة - تنازع بين العلماء ، قد بيناه في غير هذا الموضع ، والحمد لله .

وفيه دليل على أن بيت المقدس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يصلون إليه إذ قدموا المدينة ، وذلك بأمر الله لهم بذلك لا محالة ، ثم نسخ الله ذلك وأمره أن يستقبل بصلاته الكعبة ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد ذلك ويرفع طرفه إلى السماء فيه ، فأنزل الله عز وجل : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) الآية .

وفيه أيضا دليل على أن في أحكام الله عز وجل ناسخا ومنسوخا على حسبما ذكر في كتابه وعلى لسان رسوله .

[ ص: 48 ] واجتمعت على ذلك أمته - صلى الله عليه وسلم - فلا وجه للقول في ذلك ، وقد مضى من البيان فيه ما يغني ويكفي في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .

أخبرنا خلف بن أحمد ، قال : أخبرنا أحمد بن مطرف ، حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا عمرو بن خالد ، قال : حدثنا زهير بن معاوية .

وحدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد ، قال : حدثنا محمد بن عمرو بن خالد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم , فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل مسجد ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة . فداروا كما هم قبل البيت ، وكانت اليهود أعجبهم إذ كان يصلي إلى بيت المقدس ، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك وذكر تمام الحديث .

قال علي بن معبد : وأخبرنا أحمد بن البختري ، حدثنا المؤمل بن إسماعيل ، حدثنا عمارة بن زاذان ، عن ثابت ، عن أنس قال : [ ص: 49 ] حول النبي - عليه السلام - من بيت المقدس إلى الكعبة ، وهو راكع فاستدار في ركوعه واستقبل الكعبة . وأجمع العلماء أن شأن القبلة أول ما نسخ من القرآن وأجمعوا أن ذلك كان بالمدينة ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما صرف عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمر بالصلاة إلى الكعبة بالمدينة ، واختلفوا في صلاته - صلى الله عليه وسلم - حين فرضت عليه الصلاة بمكة : هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة ؟ ، فقالت طائفة : كانت صلاته إلى بيت المقدس من حين فرضت عليه الصلاة بمكة إلى أن قدم المدينة ، ثم بالمدينة سبعة عشر شهرا أو نحوها حتى صرفه الله إلى الكعبة .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا وجيه بن الحسن ، حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس ، وهو بمكة ، والكعبة بين يديه وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا ، ثم صرف إلى الكعبة ، وقال آخرون : إنما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول ما افترضت عليه الصلاة إلى الكعبة ، ولم يزل يصلي إلى الكعبة طول مقامه بمكة ، ثم لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ثمانية عشر شهرا أو [ ص: 50 ] ستة عشر شهرا ، ثم صرفه الله إلى الكعبة وسنذكر الرواية بذلك عمن قاله في هذا الباب إن شاء الله .

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال : أخبرنا الحسن بن إسماعيل ، قال : حدثنا عبد الملك بن بحر ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ، قال : حدثنا سنيد بن داود ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس ، وسئل عن قوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، وقوله : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) ، وهو ينزل في غيره ، فقال : نزل به جبريل - عليه السلام - جملة واحدة ، ثم كان ينزل منه في الشهور .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا محمد بن قدامة ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ، فكان الله تبارك وتعالى ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض ، قالوا : ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) [ ص: 51 ] قال أبو عمر :

وروي عن عكرمة في قول الله عز وجل : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) ، قال : القرآن نزل جملة واحدة فوضع مواقع النجوم , فجعل جبريل - عليه السلام - ينزل بالآية ، والآيتين . وقال غيره : ( بمواقع النجوم ) بمساقط نجوم القرآن كلها أوله وآخره ومن الحجة لهذا القول قوله عز وجل : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم ) الآيات .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال : أخبرنا المعتمر بن سليمان ، عن أبي عوانة ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن جميعا في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، ثم فصل فنزل في السنين ، وذلك قوله عز وجل : ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) .

وأما شأن القبلة فأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا أبو بكر بن نافع ، قال : حدثنا بهز ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا ثابت ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فلما نزلت هذه الآية ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) مر رجل من [ ص: 52 ] بني سلمة فناداهم ، وهم ركوع في صلاة الفجر : ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا ركوعا .

وذكر سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقبل صخرة بيت المقدس قبل قدومه - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حجج وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرا ، ثم وجهه الله تبارك وتعالى إلى البيت الحرام .

قال أبو عمر : من حجة الذين قالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى إلى بيت المقدس بالمدينة ، وإنه إنما كان يصلي بمكة إلى الكعبة - ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا موسى بن معاوية ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة ، فأنزل الله عز وجل : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ) [ ص: 53 ] فوجه نحو الكعبة ، وكان يحب ذلك . فظاهر هذا الخبر يدل على أنه لما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس لا قبل ذلك ، والله أعلم .

ويدل على ذلك أيضا ما حدثنا به أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : كان أول ما نسخ الله من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة ، وكان أكثر أهلها اليهود , أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر شهرا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) إلى قوله : ( فولوا وجوهكم شطره ) يعني نحوه . فارتاب اليهود ، وقالوا : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ، فأنزل الله : ( قل ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، وقال : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) ، [ ص: 54 ] قال ابن عباس : ليميز أهل اليقين من أهل الشك .

وأجمع العلماء أن القبلة التي أمر الله نبيه وعباده بالتوجه نحوها في صلاتهم هي الكعبة البيت الحرام بمكة ، وأنه فرض على كل من شاهدها وعاينها استقبالها ، وأنه إن ترك استقبالها ، وهو معاين لها أو عالم بجهتها ، فلا صلاة له ، وعليه إعادة كل ما صلى كذلك .

وأجمعوا على أنه من صلى القبلة من غير اجتهاد حمله على ذلك أن صلاته غير مجزئة عنه ، وعليه إعادتها إلى القبلة كما لو صلى بغير طهارة ، وفي هذا المعنى حكم من صلى في مسجد يمكنه طلب القبلة فيه بالمحراب وشبهه ، فلم يفعل وصلى إلى غيرها .

وأجمعوا أن على كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها وعلى أن على من خفيت عليه ناحيتها الاستدلال عليها بكل ما يمكنه من النجوم ، والجبال ، والرياح ، وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها .

وفي حديث هذا الباب دليل على أن من صلى إلى القبلة عند نفسه باجتهاده ، ثم بان له ، وهو في الصلاة أنه استدبر القبلة [ ص: 55 ] أو شرق أو غرب أنه ينحرف ويبني ، وإنما قلت : إن الاستدبار ، والتشريق ، والتغريب سواء ; لأن بيت المقدس لا يكاد أن يستقبله إلا من استدبر الكعبة ، وذلك بدليل حديث ابن عمر ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل الكعبة مستدبر بيت المقدس لحاجته ، وهذا موضع فيه اختلاف كثير وبالله التوفيق .

واختلف الفقهاء فيمن غابت عنه القبلة فصلى مجتهدا كما أمر ، ثم بان له بعد فراغه من الصلاة أنه قد أخطأ القبلة بأن استدبرها ، أو شرق ، أو غرب عنها ، أو بان له ذلك ، وهو في الصلاة ، فجملة قول مالك وأصحابه أن من صلى مجتهدا على قدر طاقته طالبا للقبلة وناحيتها إذا خفيت عليه ، ثم بان له بعد صلاته أنه قد استدبرها أنه يعيد ما دام في الوقت ، فإن انصرم الوقت فلا إعادة عليه ، والوقت في ذلك للظهر ، والعصر ما لم تصفر الشمس .

وقد روي عن مالك أيضا أن الوقت في ذلك ما لم تغرب الشمس ، وفي المغرب والعشاء ما لم ينفجر الصبح ، وفي صلاة الصبح ما لم تطلع الشمس .

وقال بعض أصحاب مالك : ما لم تصفر جدا ، والأول أصح ، فإن علم أنه استدبرها ، وهو في صلاته أو شرق أو غرب - قطع وابتدأ ، وإن لم يشرق ولم يغرب ، ولكنه انحرف انحرافا يسيرا ، فإنه ينحرف إلى القبلة إذا علم ويتمادى ويجزئه ، ولا شيء عليه .

[ ص: 56 ] قال أشهب : سئل مالك عمن صلى إلى غير قبلة ، فقال : إن كان انحرف انحرافا يسيرا ، فلا أرى عليه إعادة ، وإن كان انحرف انحرافا شديدا فأرى عليه الإعادة ما كان في الوقت .

وقال الأوزاعي : من تحرى فأخطأ القبلة أعاد ما دام في الوقت ، ولا يعيد بعد الوقت .

وقال الثوري : إذا صليت لغير القبلة ، فقد أجزأك إذا لم تعمد ذلك ، وإن جهلت وصليت بعض صلاتك لغير القبلة ، ثم عرفت القبلة بعد فاستقبل القبلة ببقية صلاتك واحتسب بما صليت .

وقال الشافعي : إذا صلى إلى الشرق ، ثم رأى القبلة إلى الغرب - استأنف ، فإن كان شرق ، أو غرب متحرفا ، ثم رأى أنه متحرف وتلك جهة واحدة ، فإن عليه أن ينحرف ويعتد بما مضى .

وذكر الربيع عن الشافعي قال : ولو دخل في الصلاة على اجتهاد ، ثم رأى القبلة في غير الناحية التي صلى إليها ، فإن كان مشرقا ، أو مغربا لم يعتد بما مضى من صلاته وسلم واستقبل الصلاة على ما بان له واستيقنه ، وإن رأى أنه انحرف [ ص: 57 ] لم يلغ شيئا من صلاته ; لأن الانحراف ليس فيه يقين خطإ ، وإنما هو اجتهاد لم يرجع منه إلى يقين ، وإنما رجع من دلالة إلى اجتهاد مثلها .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : من تحرى القبلة فأخطأ ، ثم بان له ذلك ، فلا إعادة عليه في وقت ، ولا غيره ، قالوا : وله أن يتحرى القبلة إذا لم يكن على يقين علم من جهتها ، فإن أخطأ قوم القبلة ، وقد تعمدوها فصلوا ركعة ، ثم علموا بها صرفوا وجوههم فيما بقي من صلاتهم إلى القبلة وصلاتهم تامة ، وكذلك لو أتموا ، ثم علموا بعد لم يعيدوا .

وقال الطبري : من تحرى فأخطأ القبلة أعاد أبدا إذا استدبرها ، وهو أحد قولي الشافعي .

قال أبو عمر : النظر في هذا الباب يشهد أن لا إعادة على من صلى إلى القبلة عند نفسه مجتهدا لخفاء ناحيتها عليه ; لأنه قد عمل ما أمر به وأدى ما افترض عليه من اجتهاده بطلب الدليل على القبلة حتى حسب أنه مستقبلها ، ثم لما صلى بان له خطؤه ، وقد كان العلماء مجمعين على أنه قد فعل ما أبيح له فعله بل ما لزمه ، ثم اختلفوا في إيجاب القضاء عليه إذا بان له أنه أخطأ القبلة ، وإيجاب الإعادة إيجاب فرض ، [ ص: 58 ] والفرائض لا تثبت إلا بيقين لا مدفع له . ألا ترى إلى إجماعهم فيمن خفي عليه موضع الماء فطلبه جهده ، ولم يجده فتيمم وصلى ، ثم وجد الماء أنه لا شيء عليه ; لأنه قد فعل ما أمر به .

وأما قول من رأى عليه الإعادة في الوقت وبعده قياسا على من صلى بغير وضوء فليس بشيء ; لأن هذا ليس بموضع اجتهاد في الوضوء إلا عند عدمه ، فإنه يؤمر بالاجتهاد في طلبه على ما تقدم ذكرنا له .

وأما قول من قال : يعيد ما دام في الوقت ، فإنما هو استحباب ; لأن الإعادة لو وجبت عليه لم يسقطها خروج الوقت ، وهذا واضح يستغنى عن القول فيه ، وكذلك يشهد النظر لقول من قال في المنحرف عن القبلة يمينا أو شمالا ، ولم يكن انحرافه ذلك فاحشا فيشرق أو يغرب : إنه لا شيء عليه ; لأن السعة في القبلة لأهل الآفاق مبسوطة مسنونة ، وهذا معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول أصحابه : ما بين المشرق والمغرب قبلة .

حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا معلى بن [ ص: 59 ] منصور ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن عثمان بن محمد الأخنسي ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين المشرق والمغرب قبلة .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، حدثنا الخضر بن داود ، حدثنا أبو بكر الأثرم ، حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال عمر : ما بين المشرق والمغرب قبلة .

قال : وحدثنا نصر بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن محمد بن فضاء ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت عثمان ، يقول : كيف يخطئ الرجل الصلاة وما بين المشرق والمغرب قبلة ما لم يتحر الشرق عمدا .

قال : وحدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي ، عن علي ، قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة .

قال : وحدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وعبد [ ص: 60 ] الأعلى ، عن محمد ابن الحنفية ، قالا : ما بين المشرق والمغرب قبلة ، قال : وسمعت أبا عبد الله ، يعني أحمد بن حنبل ، يقول : هذا في كل البلدان ، قال : وتفسيره أن هذا المشرق ، وأشار بيساره ، وهذا المغرب ، وأشار بيمينه ، قال : وهذه القبلة فيما بينهما وأشار تلقاء وجهه ، قال : وهكذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت ، ألا ترى أنه إذا استقبل الركن وزال عنه شيئا ، وإن قل فقد ترك القبلة ، قال : وليس كذلك قبلة البلدان .

قيل لأبي عبد الله : فإن صلى رجل فيما بين المشرق والمغرب ترى صلاته جائزة ؟ قال : نعم ، صلاته جائزة , إلا أنه ينبغي له أن يتحرى الوسط .

قال أبو عبد الله : وقد كنا نحن وأهل بغداد نصلي هكذا نتيامن قليلا ، ثم حرفت القبلة منذ سنين يسيرة . قيل لأبي عبد الله : قبلة أهل بغداد على الجدية ، فجعل ينكر الجدية ، وقال : ليس على الجدية ، ولكن حديث عمر " ما بين المشرق والمغرب قبلة " . قيل لأبي عبد الله : قبلتنا نحن أي ناحية ؟ ، قال : على الباب قبلتنا وقبلة أهل المشرق كلهم وأهل خرسان الباب .

[ ص: 61 ] أخبرني عبد الرحمن بن يحيى ويحيى بن عبد الرحمن ، قالا : حدثنا أحمد بن سعيد قال : قال لنا أحمد بن خالد في قول عمر بن الخطاب " ما بين المشرق والمغرب قبلة " : في هذا سعة للناس أجمعين . قيل له : أنتم تقولون إنه في أهل المدينة ، قال : نحن وهم سواء ، والسعة في القبلة للناس كلهم ، قال : وهؤلاء المشرقون لا علم عندهم بسعة القبلة ، وإنما هو شيء يقع في نفوسهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية