التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1806 [ ص: 62 ] [ ص: 63 ] حديث ثالث عشر لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر أن رجلا نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما ترى في الضب ؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست بآكله ، ولا بمحرمه .


هكذا روى يحيى هذا الحديث عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه أكثر الرواة للموطأ ، عن مالك ورواه ابن بكير ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وكذلك رواه خالد بن مخلد ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وهو صحيح لمالك عنهما جميعا ، وهو محفوظ من حديث نافع كما هو محفوظ من حديث ابن دينار ، وقد رواه قوم ، منهم : بشر بن عمر ، عن مالك ، عن نافع وعبد الله بن دينار جميعا ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر .

[ ص: 64 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : حدثني نافع ، عن ابن عمر ، قال : سأل رجل النبي - عليه السلام - ، وهو على المنبر ، عن الضب ، فقال : لا آكله ، ولا أحرمه .

واختلف الفقهاء في أكل الضب فذهب مالك ، والشافعي وأصحابهما إلى أنه لا بأس بأكله ; لأن الله تبارك وتعالى لم يحرمه ، ولا رسوله ، وقد أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبحضرته ، ولو كان حراما لم يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا يأكله ، وقد مضى في باب ابن شهاب ، عن أبي أمامة من هذا الكتاب حديث ابن عباس ، عن خالد بن الوليد في الضب حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لم يكن بأرض قومي وأجدني أعافه ، قال خالد : فاجتررته وأكلته ورسول الله ينظر .

فبهذا الحديث وما كان مثله أخذ مالك ، والشافعي في الضب فأجازا أكله وكره أبو حنيفة وأصحابه أكل الضب واحتجوا هم ومن ذهب مذهبهم في كراهية أكله بأحاديث ، منها ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : [ ص: 65 ] حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن حسنة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمة من بني إسرائيل مسخت وأخاف أن يكون منها هذا ، يعني الضب .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن الأعمش ، قال : حدثنا زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن حسنة ، قال : غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابتنا مجاعة فنزلنا بأرض كثيرة الضباب فأخذنا منها فطبخنا في القدور ، فقلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها الضباب ، فقال : إن أمة فقدت ، ولعلها هذه فأمرنا فكفأنا القدور .

هكذا روى هذا الحديث الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن حسنة ورواه حصين ، عن زيد بن وهب ، عن ثابت بن وديعة ، حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا خالد ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن ثابت بن وديعة ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش فأصبنا ضبابا ، قال : فشويت منها ضبا فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته بين يديه ، قال : فأخذ عودا فعد به [ ص: 66 ] أصابعه ، ثم قال : إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض ، وإني لا أدري أي الدواب هي ، قال : فلم يأكل منه ، ولم ينه .

قال أبو عمر : احتج بعض من كرهه بهذا الخبر ، واستدل على أنه مسخ بشبه كفه بكف الإنسان ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عد أصابعه قال ما قال ، ولم يأكل منه .

وأنشد بعضهم في صفة الضب :


له كف إنسان وخلق عظاءة وكالقرد والخنزير في المسخ والعصب

وقال ذو الرمة :


مناسمها صم صلاب كأنها     رؤوس الضباب استخرجتها الظهائر

وأنشد الأصمعي :


إنا وجدنا بني حمان كلهم     كساعد الضب لا طول ولا عظم

وإنما أنشدت هذه الأبيات لتقف على صورة الضب وتعرفه ، فإن بعض الجهال يخالف فيه .

[ ص: 67 ] وروى أبو حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عائشة أنها أهدي لها ضب فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن أكله فنهاها عنه فجاء سائل فقامت لتناوله إياه ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتطعمينه ما لا تأكلين .

وروى حماد بن سلمة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدي له ضب ، فلم يأكله ، فقام عليهم سائل ، فأرادت عائشة أن تعطيه ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أتعطيه ما لا تأكلين .

فاحتج من كره أكل الضب بهذه الأحاديث ، فأما حديث زيد بن وهب فمختلف في إسناده ، وقد روى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن الله لم يهلك قوما ، أو لم يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة " ، وهو معارض مدافع لحديث زيد بن وهب هذا .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، عن مسعر ، عن علقمة بن مرثد ، عن مغيرة بن عبد الله اليشكري ، عن المعرور بن سويد ، عن عبد الله قال : قالت أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية " [ ص: 68 ] قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة أن يعجل شيئا قبل حله ، أو يؤخر شيئا عن أجله ، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب القبر ، أو عذاب النار كان خيرا لك ، أو أفضل .

قال : وذكر عنده القردة ، قال مسعر : وأراه قال : والخنازير مما مسخ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ، ولا عقبا ، وقد كانت القردة ، والخنازير قبل ذلك .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا مسعر ، عن مرة ، عن علقمة بن مرثد ، عن المغيرة اليشكري ، عن المعرور بن سويد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قالت أم حبيبة . فذكر الحديث سواء .

وفيه قال : وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير أهم من نسل الذين مسخوا أم شيء كان قبل ذلك ؟ ، فقال : إن الله لم يهلك قوما قط فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة ، ولكنهم من شيء كان قبل ذلك .

[ ص: 69 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن خالته أهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمنا وأضبا وأقطا فأكل من السمن ، والأقط ، وترك الأضب تقذرا وأكل على مائدته ، ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وحدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا كثير بن هشام ، قال : حدثنا جعفر بن برقان ، قال : حدثنا يزيد بن الأصم ، قال : ذكر الضب عند ابن عباس ، فقال بعض جلسائه : أتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يحله ، ولم يحرمه ، فقال ابن عباس : بئس ما تقولون ، إنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محللا ومحرما ، جاءت أم حفيد ميمونة بنت الحارث ومعها طعام فيه لحم ضب فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما غسق - يعني أظلم - فقرب إليه الطعام ، فكرهت ميمونة أن يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعام لا يعلم ما هو ، فقالت : [ ص: 70 ] يا رسول الله إن فيه لحم ضب فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمسكت ميمونة وأكل من كان عنده ، فقال ابن عباس : فلو كان حراما لنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكله .

قال أبو عمر : قول ابن عباس هو فقه هذا الباب ، وهو الصحيح من معانيه ، وهو كاف يغني عن كل حجة لمن تدبر وفهم ، وبالله العون لا شريك له .

‌‌‌‌‌‌‌‌‌

التالي السابق


الخدمات العلمية