التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
356 [ ص: 71 ] حديث رابع عشر لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته في السفر حيث توجهت به ، قال عبد الله بن دينار : وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك .


قال أبو عمر :

هكذا رواه جماعة رواة الموطأ فيما علمت ورواه يحيى بن مسلمة بن قعنب ، قال : أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته حيث توجهت به .

والصواب ما في الموطأ : مالك ، عن عبد الله بن دينار ، والله أعلم .

وهو حديث صحيح من جهة الإسناد ، روي عن ابن عمر من وجوه .

وروي عن جابر من وجوه .

وروي عن أنس أيضا من وجوه ، وتلقاه العلماء من السلف ، والخلف بالعمل والقبول في جملته إلا أنهم اختلفوا [ ص: 72 ] في بعض معانيه فالذي أجمعوا عليه منه أنه جائز لكل من سافر سفرا تقصر فيه ، أو في مثله الصلاة - أن يصلي التطوع على دابته وراحلته حيثما توجهت به يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع ويتشهد ويسلم ، وهو جالس على دابته ، وفي محمله إلا أن منهم جماعة يستحبون أن يفتتح المصلي صلاته على دابته في تطوعه إلى القبلة ويحرم بها ، وهو مستقبل القبلة ، ثم لا يبالي حيث توجهت به ، ومنهم من لم يستحب ذلك ، وقال : كما يجوز له أن يكون في سائر صلاته إلى غير القبلة ، فكذلك افتتاحه لها ; لأنه لو كان في الأرض لم يجز له الانحراف عن القبلة عامدا ، وهو بها عالم في شيء من صلاته .

ومن استحب افتتاح النافلة على الدابة إلى القبلة فحجته ما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا ربعي بن عبد الله بن الجارود ، قال : حدثني عمرو بن أبي الحجاج ، قال : حدثني الجارود بن أبي سبرة ، قال : حدثني أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة ، فكبر ، ثم صلى حيث وجهه ركابه .

[ ص: 73 ] حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري ، حدثنا أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني سنة سبعين ومائتين ، حدثنا الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به .

وقال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور : هكذا ينبغي أن يفعل من تنفل على راحلته في السفر .

واختلف أهل العلم في المعنى الذي فيه نزلت ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، فقال ابن عمر وطائفة : نزلت هذه الآية في الصلاة على الراحلة ، وقيل : نزلت في قول اليهود في القبلة ، وقيل : نزلت في قوم كانوا في سفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء ، فلم يعرفوا القبلة فاجتهدوا وصلوا إلى جهات مختلفة ، ثم بان لهم خطؤهم فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله عز وجل : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مضت صلاتكم .

وقول من قال : إنها نزلت في الصلاة على الراحلة - قول حسن أيضا تعضده السنة في ذلك .

قال أبو عمر :

ليس في حديث مالك هذا عن عبد الله بن دينار تخصيص التطوع من غيره ، وهو أمر لا خلاف فيه ، فلذلك أهمل مالك ذكره ، والله أعلم .

[ ص: 74 ] وكذلك رواه الثوري عن عبد الله بن دينار كما رواه مالك سواء ، وقد ذكر في هذا الحديث وغيره جماعة الرواة أن ذلك في التطوع دون المكتوبة ، وهو أمر مجتمع عليه ; لأنه لا يجوز لمصلي الفرض أن يدع القبلة عامدا بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف راجلا ، أو راكبا ، فإن لم يكن خائفا شديد الخوف هاربا لم يكن له أن يصلي راكبا .

وقد اختلف في صلاة الطالب في الخوف على ما قد ذكرناه في باب نافع ، وقال الأثرم : قيل لأحمد بن حنبل : يصلي المريض المكتوبة على الدابة ، والراحلة ؟ ، فقال : لا يصلي أحد المكتوبة على الدابة مريض ، ولا غيره إلا في الطين ، والتطوع ، كذلك بلغنا يصلي ويومئ قال : وأما في الخوف ، فقد قال الله عز وجل : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا حكم الصلاة في الطين في باب يزيد بن الهادي ، والحمد لله .

وقد اختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله ، فمرة قال : لا يصلي على ظهر البعير فريضة ، وإن اشتد مرضه حتى لا يقدر أن يجلس لمرض إلا بالأرض ، ومرة قال : إذا [ ص: 75 ] كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء ، فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة .

وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح ، ولا مريض - أن يصلي إلى غير القبلة ، وهو عالم بذلك في الفريضة إلا في الخوف الشديد خاصة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبد المجيد ، عن أبي جريج ، قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على ناقته في السفر حيث توجهت به في غير المكتوبة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن الجهم السمري ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا شعبة ، عن عبد الله بن دينار ، قال : كان عبد الله بن عمر يصلي على راحلته حيث توجهت به تطوعا ، وقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا [ ص: 76 ] ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على الراحلة أي وجه توجه , ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة .

وأخبرنا سعيد بن نصر و عبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني ، قال : حدثنا شبابة بن سوار ، قال : حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر الشامي ، قال : حدثنا القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ونافع ، كلهم عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على دابته حيث توجهت به تطوعا .

وأخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن جابر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته نحو المشرق ، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، قال : حدثنا أبو صالح [ ص: 77 ] محبوب بن موسى الفراء ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة فجئت ، وهو يصلى على راحلته نحو المشرق يومئ إيماء ؛ السجود أخفض من الركوع ، قال : فسلمت ، فلم يرد علي ، فلما سلم ، قال : ما منعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي .

واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة : هل له أن يتنفل على راحلته ودابته أم لا ؟ ، فقال مالك وأصحابه ، والثوري : لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة .

وحجتهم في ذلك أن الأسفار التي حكي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتطوع فيها على راحلته كانت مما تقصر فيها الصلاة ، فالواجب أن لا يصلي إلى غير القبلة إلا في الحال التي وردت بها السنة لا تتعدى .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والحسن بن حي و الليث بن سعد ، وداود بن علي : يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر ، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة ، أو لا تقصر .

وحجتهم : أن الآثار في هذا الباب ليس في شيء منها تخصيص سفر من سفر , فكل سفر جائز ذلك فيه إلا أن يخص شيء من الأسفار مما يجب التسليم له .

[ ص: 78 ] وقال أبو يوسف : يصلي في المصر على الدابة بالإيماء لحديث يحيى بن سعيد ، عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء .

وقال الطبري : يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان ، أو مسافرا - أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه . وحكى بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر .

وقال الأثرم : قيل لأحمد بن حنبل : الصلاة على الدابة في الحضر ، فقال : أما في السفر فقد سمعنا وما سمعت في الحضر .

وقال ابن القاسم : من تنفل في محمله تنفل جالسا قيامه تربع ، ويركع واضعا يديه على ركبتيه ، ثم يرفع رأسه . قال : عبد العزيز بن أبي سلمة : ويزيل يديه ، ثم يثني رجليه ويومئ لسجوده ، فإن لم يقدر أومأ متربعا ، وقد ذكرنا حكم صلاة المريض في باب إسماعيل ، والحمد لله وبه التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية