التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
448 [ ص: 166 ] [ ص: 167 ] حديث ثان لعبد الله بن أبي بكر

مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر أنه سمع عباد بن تميم ، يقول : سمعت عبد الله بن زيد المازني ، يقول : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين استقبل القبلة .


هكذا روى مالك هذا الحديث بهذا الإسناد ، وهذا اللفظ لم يذكر فيه الصلاة لم يختلف رواة الموطأ في ذلك عنه فيما علمت إلا أن إسحاق بن عيسى الطباع روى هذا الحديث عن مالك فزاد فيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ في الاستسقاء بالصلاة قبل الخطبة ، ولم يقل حول رداءه . ذكره النسائي في مسند مالك ، عن زكرياء بن يحيى ، عن مروان بن عبد الله ، عن إسحاق ، ورواه سفيان بن عيينة ، عن عبد الله بن أبي بكر . فذكر فيه الصلاة ، ورواه أبو بكر بن [ ص: 168 ] محمد بن عمرو بن حزم ، والد عبد الله بن أبي بكر هذا ، عن عباد بن تميم فذكر فيه الصلاة ، وهذا الحديث سمعه عبد الله بن أبي بكر مع أبيه من عباد بن تميم ، وقد روى هذا الحديث عن عباد بن تميم - محمد بن شهاب الزهري ، وحسبك به جلالة وحفظا وفهما ، فذكر فيه الصلاة . رواه عن ابن شهاب جماعة ، منهم : معمر ، وابن أبي ذئب ، وشعيب ، ويونس ، كلهم عن ابن شهاب ، عن عباد بن تميم ، عن عمه عبد الله بن زيد ورواه النعمان بن راشد ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا استسقى حول رداءه واستقبل القبلة . فأخطأ في إسناده ، ولم يذكر فيه الصلاة ، ولم يتابع على إسناده هذا ، وليس هذا الحديث عند مالك ، عن ابن شهاب ، وليس في تقصير من قصر عن ذكر الصلاة حجة على من ذكرها ، والحجة في قول من أثبت وحفظ ، وبالله العصمة والتوفيق .

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أخبرنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عباد بن تميم ، عن عمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى وصلى ركعتين وقلب رداءه .

[ ص: 169 ] وأخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عباد بن تميم يحدث ، عن عمه عبد الله بن زيد ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى يستسقي فحول رداءه واستقبل القبلة وصلى ركعتين .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، حدثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن منصور ، حدثنا سفيان ، حدثنا المسعودي ، عن أبي بكر ، وهو ابن عمرو بن حزم ، عن عباد بن تميم ، قال سفيان : فسألت عبد الله بن أبي بكر ، فقال : سمعته من عباد بن تميم يحدث أبي عن عبد الله بن زيد الذي أري النداء : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المصلى يستسقي فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين . هكذا في هذا الحديث : عبد الله بن زيد الذي أري النداء ، وهو خطأ ، ولا أدري فمن أتى ذلك ، وما أظنه جاء من ابن عيينة ، ولا ممن فوقه ، لأنهم علماء جلة ، وإنما هو عبد الله بن زايد المازني [ ص: 170 ] عم عباد بن تميم ، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم ، وأما الذي أري النداء فهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، وليس من بني مازن ، وقد ذكرناهما وبينا أمرهما في بابه من كتاب الصحابة ، والحمد لله .

وقد روي عن ابن عيينة في حديث الوضوء أنه جعله لعبد الله بن زيد الذي أري الأذان ، وهذا وهم ، وإنما هو لعبد الله بن زيد بن عاصم ، وقد ذكرنا ذلك في باب عمرو بن يحيى ، والله المستعان .

وأخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا يحيى بن سعيد ، والمسعودي ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عباد بن تميم ، عن عمه عبد الله بن زيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . وزاد فيه المسعودي : قلت لأبي بكر : أجعل الشمال على اليمين ، واليمين على الشمال أم جعل أعلاه أسفله ؟ ، قال : لا ، بل جعل اليمين على الشمال ، والشمال على اليمين .

[ ص: 171 ] وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، وهو القطان ، عن يحيى ، وهو ابن سعيد الأنصاري ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عباد بن تميم ، عن عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يستسقي فصلى ركعتين واستقبل القبلة . ورواه هشيم ، عن يحيى بن سعيد بإسناده مثله ، ولم يذكر الصلاة ، وكذلك رواه سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد مثله سواء .

قال أبو عمر : أحسن الناس سياقة لهذا الحديث معمر ، عن الزهري .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن عباد بن تميم ، عن عمه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما وحول رداءه ورفع يديه فدعا واستسقى واستقبل القبلة .

[ ص: 172 ] قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء ، والبروز ، والاجتماع إلى الله عز وجل خارج المصر بالدعاء ، والضراعة إليه - تبارك اسمه - في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء وتمادي القحط - سنة مسنونة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك .

واختلفوا في الصلاة في الاستسقاء ، فقال أبو حنيفة : ليس في الاستسقاء صلاة ، ولكن يخرج الإمام ويدعو .

وروي عن طائفة من التابعين مثل ذلك .

وحجتهم حديث مالك ، وما كان مثله في هذا الباب ، وقال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد وسائر فقهاء الأمصار : صلاة الاستسقاء سنة , ركعتان يجهر فيهما بالقراءة .

وقال الليث بن سعد : الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة . وقاله مالك ثم رجع عنه إلى أن الخطبة فيها بعد الصلاة ، وعليه جماعة الفقهاء ، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه خطب في الاستسقاء قبل الصلاة ، وقال مالك ، والشافعي : يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين يفصل بينهما بالجلوس ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يخطب خطبة خفيفة يعظهم ويحثهم على الخير ، وقال الطبري : إن شاء خطب واحدة ، وإن شاء اثنتين . وقال الشافعي ، والطبري : التكبير في صلاة الاستسقاء كالتكبير في العيدين سواء . وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم . وقال داود : إن [ ص: 173 ] شاء كبر كما يكبر في العيدين ، وإن شاء تكبيرة واحدة كسائر الصلوات ، وقال أبو حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : لا يكبر في الصلاة الاستسقاء إلا كما يكبر في سائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح ، وقد روي عن أحمد بن حنبل مثل قول الشافعي في ذلك .

وحجة من قال : يكبر فيها كما يكبر في العيد - ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب ، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن إسحاق ، عن أبيه ، قال : أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس أساله عن الاستسقاء ، فقال : من أرسلك ؟ قال : قلت : فلان ، قال : ما منعه أن يأتيني فيسألني ؟ خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متضرعا متذللا متبذلا متواضعا ، فلم يخطب خطبكم هذه فصلى ركعتين كما يصلي في العيد ، قال سفيان : قلت للشيخ : أخطب قبل الركعة ، أو بعدها ؟ ، قال : لا أدري .

قال أبو عمر : هو هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة ، روى عنه الثوري وحاتم بن إسماعيل ، ولم يرو هذا الحديث غيره ، وقد يحتمل أن يكون التشبيه فيه بصلاة العيدين من جهة أن صلاة الاستسقاء ركعتان ، ويحتمل أن يكون من [ ص: 174 ] جهة التكبير ، والله أعلم .

وقال مالك ، والشافعي : يحول الإمام رداءه عند فراغه من الخطبة , يجعل ما على اليمين على الشمال ، وما على الشمال على اليمين , ويحول الناس أرديتهم إذا حول الإمام رداءه كما حول الإمام ، فهذا قول الشافعي بالعراق ، ثم قال بمصر : ينكس الإمام رداءه فيجعل أعلاه أسفله ويجعل ما منه على منكبه الأيمن على منكبه الأيسر ، قال : وإن جعل ما على يمينه على شماله ، ولم ينكسه أجزأه .

وقال الليث بن سعد : يحول الإمام رداءه ، كما قال مالك سواء ، قال : ولا يحول الناس أرديتهم ، وهو قول محمد بن الحسن ، وكذلك قال أبو يوسف إلا أنه قال : يحول الإمام إذا مضى صدر من خطبته .

وقال الشافعي : يحول رداءه ، وهو مستقبل القبلة في الخطبة الثانية عند فراغها ، أو قرب ذلك ويحول الناس .

قال أبو عمر : قد مضى في حديث المسعودي ، عن أبي بكر بن حزم ، عن عباد بن تميم ، عن عمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حول رداءه جعل ما على الشمال منه على اليمين ، وما على اليمين على الشمال ، وعلى ذلك أكثر أهل العلم .

وأما الذي ذهب إليه الشافعي واستحبه فموجود في حديث عمارة بن غزية ، حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد العزيز ، عن [ ص: 175 ] عمارة بن غزية ، عن عباد بن تميم ، عن عبد الله بن زيد ، قال : استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه خميصة سوداء فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها ، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه ، ففي هذا الحديث دليل على أن الخميصة لو لم تثقل عليه - صلى الله عليه وسلم - لنكسها ، وجعل أعلاها أسفلها ، ولا أعلم خلافا أن الإمام يحول رداءه ، وهو قائم ، ويحول الناس وهم جلوس .

والخروج إلى الاستسقاء في وقت خروج الناس إلى العيد عند جماعة العلماء إلا أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فإنه ، قال : الخروج إليها عند زوال الشمس .

واختلف العلماء في خروج أهل الذمة إلى الاستسقاء فأجاز ذلك بعضهم ، وممن ذهب إلى ذلك مالك ، وابن شهاب ، ومكحول ، وقال ابن المبارك : إن خرجوا عدل بهم عن مصلى المسلمين ، وقال إسحاق : لا يؤمروا بالخروج ، ولا ينهوا عنه . وكرهت طائفة من أهل العلم خروج الذمة إلى الاستسقاء ، منهم : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، وقال الشافعي : فإن خرجوا متميزين لم أمنعهم ، وكلهم كره خروج النساء الشواب إلى الاستسقاء ورخصوا في خروج العجائز .

[ ص: 176 ] ولم يختلفوا في الجهر في صلاة الاستسقاء ، وقال مالك : لا بأس أن يستسقى في العام مرة ، أو مرتين ، أو ثلاثا إذا احتاجوا إلى ذلك ، وقال الشافعي : إن لم يسقوا يومهم ذلك أحببت أن يتابع الاستسقاء ثلاثة أيام يصنع في كل يوم منها كما صنع في الأول . وقال إسحاق : لا يخرجون إلى الجبان إلا مرة واحدة ، ولكن يجتمعون في مساجدهم ، فإذا فرغوا من الصلاة ذكروا الله ويدعو الإمام يوم الجمعة على المنبر ويؤمن الناس .

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل ، قال : أخبرنا حميد ، عن أنس ، قال : قحط المطر عاما فقام بعض المسلمين إلى النبي - عليه السلام - في يوم الجمعة ، فقال : يا رسول الله قحط المطر وأجدبت الأرض ، وهلك المال ، قال : فرفع يديه ، وما يرى في السماء سحابة ، ومد يديه حتى رأيت بياض إبطيه يستسقي الله ، قال : فما صلينا الجمعة حتى أهم الشاب القريب الدار الرجوع إلى أهله فدامت جمعة ، فلما كانت الجمعة التي تليها ، قالوا : يا رسول الله تهدمت البيوت واحتبس الركبان ، قال : فتبسم [ ص: 177 ] لسرعة ملالة ابن آدم ، وقال بيديه : اللهم حوالينا ، ولا علينا قال : فتكشطت عن المدينة .

قال أبو عمر : هذا حديث عند مالك بهذا المعنى ، عن شريك بن أبي نمر ، عن أنس ، وسيأتي في باب الشين من كتابنا هذا إن شاء الله .

وهو حديث رواه عن أنس جماعة من أصحابه ، منهم : ثابت ، وشريك ، وإسحاق بن أبي طلحة ، وغيرهم بألفاظ متقاربة ومعنى واحد ، وسنذكر منها ما حضرنا في باب شريك من كتابنا هذا إن شاء الله . وفي باب يحيى بن سعيد وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية