صفحة جزء
[ ص: 50 ] 1 - كتاب الإيمان

" الفصل الأول "

2 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبته إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام . قال : " الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " . قال : صدقت . فعجبنا له يسأله ، ويصدقه ! قال : فأخبرني عن الإيمان . قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان . قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال : فأخبرني عن الساعة قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " قال : فأخبرني عن أماراتها . قال : " أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ، يتطاولون في البنيان . قال : ثم انطلق ، فلبثت مليا ، ثم قال لي : " يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " رواه مسلم .


1 كتاب الإيمان

الكتاب إما مأخوذ من الكتب بمعنى الجمع ، أو الكتابة ، والمعنى هذا مجموع ، أو مكتوب في الأحاديث الواردة في الإيمان ، وإنما عنون به مع ذكره الإسلام أيضا ؛ لأنهما بمعنى واحد في الشرع ، وعلى اعتبار المعنى اللغوي من الفرق يكون فيه إشارة إلى أنه الأصل ، وعليه مدار الفصل ، وقدمه لزيادة شرفه في الفضل ، ولكونه شرطا لصحة العبادات المتقدمة على المعاملات ، وهو التصديق الذي معه أمن ، وطمأنينة لغة ، وفي الشرع تصديق القلب مما جاء من عند الرب ، فكأن المؤمن يجعل به نفسه آمنة من العذاب في الدارين ، أو من التكذيب ، والمخالفة ، وهو إفعال من الأمن يقال : أمنت وآمنت غيري ، ثم يقال آمنه إذا صدقه ، وقيل : معنى أمنت صرت ذا أمن ثم نقل إلى التصديق ، ويعدى باللام نحو : ( وما أنت بمؤمن لنا ) وقال فرعون : ( آمنتم له ) وقد يضمن معنى اعترف فيعدى بالباء نحو : ( يؤمنون بالغيب ) واختلف العلماء فيه على أقوال أولها : عليه الأكثرون ، والأشعري ، والمحققون أنه مجرد تصديق النبي - عليه الصلاة والسلام - فيما علم مجيئه بالضرورة تفصيلا في الأمور التفصيلية ، وإجمالا في الإجمالية تصديقا جازما ، ولو لغير دليل حتى يدخل إيمان المقلد ، فهو صحيح على الأصح ، وما نقل عن الأشعري من عدم صحته رد بأنه كذب عليه ، والحاصل أن من اعتقد أركان الدين من التوحيد ، والنبوة ، ونحو الصلاة فإن جوز ورود شبهة تفسد اعتقاده ، فهو كافر ، وإن لم يجوز ذلك فهو مؤمن لكنه فاسق بتركه النظر ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة ، والأكثرين ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - قبل الإيمان من غير تفحص عن الأدلة العقلية كذا ذكره ابن حجر ، لكن في كونه فاسقا بتركه النظر نظر ظاهر فتدبر ، ثم فهم من قيد مجرد التصديق أنه لا يعتبر معه أعمال الجوارح ، ومن الضرورة أن ما ليس كذلك ككونه تعالى عالما بذاته ، أو بالعلم الذي هو صفة زائدة على الذات ، أو مرئيا لا يكفر منكره إجماعا ، ومن الجزم أن التصديق الظني لا يكفي في حصول مسمى الإيمان .

وثانيها : أنه عمل القلب ، واللسان معا فقيل : الإقرار شرط لإجراء الأحكام لا لصحة الإيمان فيما بين العبد ، وربه . قال حافظ الدين النسفي : وهذا هو المروي عن أبي حنيفة ، وإليه ذهب أبو منصور الماتريدي ، والأشعري في أصح الروايتين عنه ، وقيل : هو ركن لكنه غير أصلي بل زائد ، ومن ثم يسقط عند الإكراه ، والعجز ، ولهذا من صدق ومات فجأة على الفور فإنه مؤمن إجماعا .

قال بعضهم : والأول مذهب المتكلمين ، والثاني مذهب الفقهاء ، والحق أنه ركن عند المطالبة به ، وشرط لإجراء الأحكام عند عدم المطالبة ، ويدل عليه قوله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ) الآية . حيث أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب ، والله أعلم بالمطالب . وبهذا يلتئم القولان . والخلافان لفظيان ، وأما ما نقل عن الغزالي من أن الامتناع عن النطق كالمعاصي التي تجامع الإيمان ، فهو بظاهره خلاف الإجماع ، فيحمل على الامتناع عند عدم المطالبة ، غاية ما في الباب أنه جعل الإقرار من الواجبات لا شرطا ، ولا شطرا . وثالثها : أنه فعل القلب ، واللسان مع سائر الأركان ، ونقل عن أصحاب الحديث ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وعن المعتزلة ، والخوارج ، لكن المعتزلة على أن صاحب الكبيرة بين الإيمان ، والكفر بمعنى أنه لا يقال له مؤمن ، ولا كافر ، بل يقال له فاسق مخلد في النار ، والخوارج على أنه كافر ، وأهل السنة على أنه مؤمن فاسق داخل تحت المشيئة لقوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) قالوا : ولا تظهر المغايرة بين قول أصحاب الحديث ، وبين سائر أهل السنة لأن امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر من كمال الإيمان اتفاقا لا من ماهيته فالنزاع لفظي لا على حقيقته ، وكذلك اختلافهم في نقصان الإيمان ، وزيادته ، وكذا اقتران الإيمان بالمشيئة ، وكذا الاختلاف في أن الإيمان مخلوق ، أو غير مخلوق ، وكذا التفضيل بين الملك ، والبشر ، ومحل بسط هذا المرام كتب الكلام .

[ ص: 51 ] الفصل الأول

2 - ( عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، قال : بينما نحن عند رسول الله ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل ) : أصله بين فأشبعت الفتحة فقيل بينا . وزيدت ما فقيل بينما ، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ، ويضافان إلى الجملة الاسمية تارة ، وإلى الفعلية أخرى ، ويكون العامل معنى المفاجأة في إذ ، فمعنى الحديث وقت حضورنا في مجلس رسول الله ! فاجأنا وقت طلوع ذلك الرجل ، فبينا ظرف لهذا المقدر ، وإذ مفعول به بمعنى الوقت كما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى : ( وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ) أي : وقت ذكر الذين من دونه فجاءوا وقت الاستبشار . فنحن : مبتدأ ، وعند ظرف مكان ، وذات يوم ظرف لقوله عند باعتبار أن فيه معنى الاستقرار ، أي : بين أوقات نحن حاضرون عنده ، فنحن مخبر عنه بجملة ظرفية ، والمجموع صفة المضاف إليه المحذوف ، وزيادة ذات لدفع توهم التجوز بأن يراد باليوم مطلق الزمان لا النهار كما في قولك : رأيت ذات زيد ، وقيل ذات مقحم ، وقيل بمعنى الساعة ، وقيل بين يضاف إلى متعدد لفظا كقولك : جلست بين القوم ، أو معنى كقولك جئت بين العشاءين ، وإذا قصد إضافته إلى جملة يزاد ألف ، أو ما عوضا عن الأوقات التي تقتضيها بين ، وقيل فائدة المزيدتين إنما هي التهيؤ لدخول الجملتين ، ويجوز دخول إذ في جوابه كما في الحديث الصحيح ، ويجوز تركه كما في الشعر الفصيح :


وبينا نحن نرقبه أتانا



وجاء في طريق : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره ، والحكمة في تأخير مجيئه إلى ما بعد إنزال جميع الأحكام تقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة في مجلس واحد لتغبط ، وتضبط ، وقيل مجيئه كان في السنة العاشرة قبيل حجة الوداع ، وسبب الحديث ما في مسلم أنه ! قال : ( سلوني ) فهابوا أن يسألوه فجاءه جبريل ، ووقع في رواية ابن مندة : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب أي : يعظ إذ جاء رجل ، وفي رواية للبخاري كان - عليه الصلاة والسلام - يوما بارزا للناس ، وفي أخرى لأبي داود كان - عليه الصلاة والسلام - يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل فطلبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لنا مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه قال : فبنينا له دكانا أي : دكة من طين يجلس عليه ، وكنا نجلس بجنبه ، واستنبط منه القرطبي أنه يسن للعالم الجلوس بمحل مرتفع مختص به إذا احتاج إليه للتعظيم ، ونحوه ، ثم الطلوع بمعنى الظهور من كمال النور مستعار من طلعت الشمس ، وفيه إيماء إلى كمال عظمته ، وعلو مرتبته ، والتنوين في رجل للتعظيم ، ويحتمل التنكير ؛ لأن الراوي حين روايته ، وإن كان عارفا بأنه جبريل لكنه حكى الحال الماضية كما يعلم من قوله : لا يعرفه منا أحد ، وفيه دليل على أن الملك له أن يقتدر بقدرة الله تعالى على التشكل مما شاء .

قال الله تعالى : ( فتمثل لها بشرا سويا ) والحكمة في اختيار شكل البشر الاستئناس لأن الجنسية علة الضم ، فالمعنى رجل في الصورة إذ هو جبريل كما عبر به في رواية ، وما وقع في رواية النسائي من أن جبريل نزل في صورة دحية الكلبي معلول بأنه وهم من رواية لقول عمر الآتي . ولا يعرفه منا أحد . نعم كان غالبا يتمثل بصورة دحية لكمال جماله .

( شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ) : بإضافة شديد إلى ما بعده إضافة لفظية مفيدة للتخفيف فقط صفة رجل ، واللام في الموضعين عوض عن المضاف إليه العائد إلى الرجل . أي : شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره ، وفي نسخة بالتنوين في الصفتين المشبهتين ، ورفع ما بعدهما على الفاعلية ، وفيه استحباب البياض ، والنظافة في الثياب ، وأن زمان طلب العلم أوان الشباب لقوته على تحمل أعبائه ، وقدرته على تعلم [ ص: 52 ] أدائه ، وقدم البياض على السواد لأنه خير الألوان ، ومحيط بالأبدان ، ولئلا يفتتح بغتة بلون متوحش ، وجمع الثياب دون الشعر إشعارا بأن جميعها كذلك ، وفي رواية ابن حبان شديد سواد اللحية ، وبها يتبين محمل الشعر المذكور في الحديث المشهور ، والشعر بفتحتين أفصح من سكون الثاني ، ويضم معه مراعاة للسجع في قوله : ( لا يرى عليه أثر السفر ) : روي بصيغة المجهول الغائب ، ورفع الأثر ، وهو رواية الأكثر والأشهر ، وروي بصيغة المتكلم المعلوم ، ونصب الأثر ، والجملة حال من رجل ، أو صفة له ، والمراد بالآثار ظهور التعب ، والتغير ، والغبار ، والسفر مأخوذ من السفر ، وهو الكشف ؛ لأنه يكشف أحوال الرجال ، وأخلاقهم عند مباشرة الأعمال .

( ولا يعرفه ) : عطف على ما قبله ( منا ) أي : من الحاضرين في المجلس قدم للاهتمام على قوله : ( أحد ) : وقال أبو الفضائل علي بن عبد الله بن أحمد المصري المشتهر بزين العرب في شرحه للمصابيح من الصحابة ، وإلا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عرفه ، وقال السيد جمال الدين : قد جاء صريحا في بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرفه حتى غاب جبريل كما أفاده الشيخ ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري ، والمعنى تعجبنا من كيفية إتيانه ، وترددنا في أنه من الملك ، أو الجن إذ لو كان بشرا من المدينة لعرفناه ، أو كان غريبا لكان عليه أثر السفر ، فإن قيل : كيف علم عمر أنه لم يعرفه أحد منهم ؟ أجيب : بأنه يحتملها ، ثم استند في ذلك إلى ظنه ، أو إلى صريح قول الحاضرين ، والثاني أولى فقد جاء كذلك في روايةعثمان بن غياث فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا : ما نعرف هذا كذا قاله الشيخ ابن حجر العسقلاني . ( حتى جلس ) : غاية لمحذوف دل عليه طلع أوله لأنه بمعنى أتى أي : أقبل ، واستأذن . وفي مسند الإمام الأعظم عن حماد عن علقمة عن ابن مسعود قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة شاب عليه ثياب بياض فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وعليك السلام ) فقال : يا رسول الله أدنو فقال : ( ادن ) فالتقدير دنا حتى جلس متوجها أي : مائلا ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ) : والجلوس ، والقعود مترادفان ، وما ذكره التوربشتي ، وغيره أن القعود استعماله مع القيام ، والجلوس مع الاضطجاع محمول على أنه الأصلي ، أو الغالب ، وفي رواية : حتى برك بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يجلس أحدنا للصلاة ، وقول زين العرب أي : جلس إلى جانبه ، أو معه لا يلائمه قوله : ( فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ) أي : ركبتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع ، والأدب ، وإيصال الركبة بالركبة أبلغ من الإصغاء ، وأتم من حصول حضور القلب ، وأكمل في الاستئناس ، وألزم لمسارعة الجواب ، ولأن الجلوس على هذه الهيئة يدل على شدة حاجة السائل ، وإذا عرف المسئول حاجته ، وحرصه اعتنى ، وبادر إليه ( ووضع كفه ) أي : كفي الرجل ( على فخذيه ، ) : بفتح فكسر ، وفي القاموس الفخذ ككتف ما بين الساق ، والورك مؤنث كالفخذ ، ويكسر أي : فخذي الرجل ، وهو المناسب لهيئة المتعلم بين يدي المعلم ، أو على فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية النسائي ، وغيره ، ثم وضع يديه على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما بينه الشيخ ابن حجر العسقلاني ، وهو الملائم للتقرب لديه ، والإصغاء إليه ، وقصر النظر عليه ( وقال : يا محمد ! ) : قيل : ناداه باسمه إذ الحرمة تختص بالأمة في زمانه ، أو مطلقا ، وهو ملك معلم ، ويريده قوله تعالى : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) إذ الخطاب للآدميين فلا يشمل الملائكة إلا بدليل ، أو قصد به المعنى الوصفي دون المعنى العلمي ، ولم أر من ذكره ، وأما ما ورد في الصحاح من نداء بعض الصحابة باسمه فذاك قبل التحريم ، وقيل آثره زيادة في التعمية إذ كانوا يعتقدون أنه لا يناديه به إلا العربي الجلف ، ويحتمل أن يكون هذا قبل تحريم ندائه - صلى الله عليه وسلم - باسمه ، قيل : ولم يسلم مبالغة في التعمية ، أو بيانا أنه غير واجب ، أو سلم ، ولم ينقله الراوي ، وهو الصحيح لما سبق من رواية الإمام ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، ومن ذكره مقدم على من سكت عنه ؛ لأن معه زيادة علم . نعم في رواية قال : السلام عليك يا محمد ، والجمع بأنه جمع بين اللفظين فقال : السلام عليك يا محمد السلام عليك يا رسول الله ، ووقع عند القرطبي أنه قال : السلام عليك يا محمد ، وأخذ منه أنه [ ص: 53 ] يسن للداخل أن يعم بالسلام ، ثم يخص من شاء بالكلام ، قال شيخ الإسلام في فتح الباري : والذي وقفت عليه في الرواية إنما فيه الإفراد ، وهو السلام عليك يا محمد . أقول : وعلى تقدير ثبوته الظاهر من إيراد الجمع إرادة التعظيم لا قصد التعميم فكأن القرطبي جعله نظيرا لقوله تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) في كون الخطاب خاصا ، والحكم عاما ( أخبرني ) أي : أعلمني ، وصيغة الأمر للاستدعاء لما تقرر أن الرسول أفضل من الملائكة العلوية ( عن الإسلام ) : وهو لغة الانقياد مطلقا ، وشرعا الانقياد الظاهر بشرط انقياد الباطن المعبر عنه بالإيمان لقوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) واللام فيه للحقيقة الشرعية ، ولذلك أجاب عنه بالأركان الخمسة الإسلامية ، ثم اعلم أن السؤال عن الإسلام ، وجوابه مقدم على الإيمان ، وجوابه في صحيح مسلم ، وكتاب الحميدي ، وجامع الأصول ، ورياض الصالحين ، وشرح السنة بخلاف المصابيح ، فإنه قدم فيه الإيمان ، والتصديق ، وإن كان مقدما لأنه أساس قاعدة الإسلام ، لكن المقام يقتضي تقدم الإسلام ; لأنه دليل على التصديق ، وما جاء جبريل عليه السلام إلا لتعليم الشريعة ، وهو - عليه الصلاة والسلام - كان يحكم بالظاهر على مقتضى الحكم التدريجية فيبدأ بما هو الأهم ، ويترقى من الأدنى إلى الأعلى فيكون الإسلام مقدما على الإيمان ، والإيمان على الإخلاص المعبر عنه بالإحسان ، وجاء في رواية للبخاري بتأخير الإسلام عن الإيمان ، لكن عن أبي هريرة لا عن عمر ، ففي إيراد الحديث هذا اللفظ اعتراض فعلي من صاحب المشكاة على البغوي في المصابيح ، وفي رواية بتوسط الإحسان بينهما فقيل : إشارة إلى أن محله القلب فذكر في القلب ، والأظهر أن وجه التوسط أن له تعلقا بكل من الطرفين ، وقال جماعة من المحققين : إن هذا التقديم ، والتأخير من الرواة ؛ لأن القضية واحدة فكان الواقع أمرا واحدا عبر الرواة عنه بأساليب مختلفة .

( قال : ( الإسلام ) ] : أعاده ، ووضعه موضع ضميره إرادة لوضوحه [ ( أن تشهد ) ] أي : أيها المخاطب خطابا عاما ، ولم يقل تعلم لأن الشهادة أبلغ في الانكشاف من مطلق العلم ، ومن ثم لم يكف أعلم عن أشهد في أداء الشهادة ، وأن مصدرية ، والتقدير الإسلام شهادة [ ( أن ) ] : وهي مخففة من المثقلة أي : أنه ، والضمير للشأن [ ( لا إله ) ] : لا هي النافية للجنس على سبيل التنصيص على نفي كل فرد من أفراده [ ( إلا الله ) ] : قيل : خبر لا ، والحق أنه محذوف ، والأحسن فيه لا إله معبود بحق في الوجود إلا الله ، ولكون الجلالة اسما للذات المستجمع لكمال الصفات ، وعلما للمعبود بالحق ، قيل : لو بدل بالرحمن لا يصح به التوحيد المطلق ، ثم قيل : التوحيد هو الحكم بوحدانية الشيء ، والعلم بها ، واصطلاحا إثبات ذات الله بوحدانيته منعوتا بالتنزه عما يشابهه اعتقادا فقولا ، وعملا فيقينا ، وعرفانا فمشاهدة ، وعيانا فثبوتا ، ودواما . قال الغزالي : للتوحيد لبان ، وقشران كاللوز فالقشرة العليا القول باللسان المجرد ، والثانية الاعتقاد بالقلب جازما ، واللب أن ينكشف بنور الله سر التوحيد بأن يرى الأشياء الكثيرة صادرة عن فاعل واحد ، ويعرف سلسلة الأسباب مرتبطة بمسبباتها ، ولب اللب أن لا يرى في الوجود إلا واحدا ، ويستغرق في الواحد الحق غير ملتفت إلى غيره . [ ( وأن محمدا رسول الله ) ] : إيماء إلى النبوة ، وهما أصلان متلازمان في إقامة الدين ضرورة توقف الإسلام على الشهادتين ، وظاهر الحديث يؤيد من قال الإقرار شرط لإجراء الأحكام عليه ، وفي رواية البخاري أن تعبد الله أي : توحده ، ولا تشرك به شيئا أي : من الأشياء ، أو الإشراك . قال المحققون : مجرد التوحيد هو الاحتجاب بالجمع عن التفصيل ، وهو محض الجبر المؤدي إلى الإباحة ، ومجرد إسناد القول ، والفعل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وسائر الخلق احتجاب بالتفصيل عن الجمع الذى هو صرف القدرة المؤدي إلى التعطيل ، أو الثنوية ، والجمع بينهما هو الحق المحض . قال في العوارف : الجمع اتصال لا يشاهد صاحبه إلا الحق فمن شاهد غيره فما ثم جمع ، والتفرقة شهود لما شاهد بالمباينة فقوله : آمنا بالله جمع ، وما أنزل إلينا تفرقة اهـ . وكذا قوله : إياك نعبد تفرقة ، وإياك نستعين جمع ، والأول رد على الجبرية ، والثاني حط على القدرية . وقال الجنيد : القرب بالوجد جمع ، وغيبته في البشرية تفرقة ، وكل جمع بلا تفرقة زندقة ، وكل تفرقة بلا جمع تعطيل [ ص: 54 ] وحسبنا الله ، ونعم الوكيل . " [ ( وتقيم ) ، أي : وأن تقيم [ ( الصلاة ) ] أي : المعهودة شرعا . وفي رواية لمسلم : المكتوبة تنبيها على أن النافلة وإن كانت من الإسلام لكنها ليست من أركانه . يعني بأن تؤديها ، وتحفظ شروطها ، وتعدل أركانها ، وتداوم عليها ، ولذا لم يقل ، وتصلي [ ( وتؤتي الزكاة ) ] أي : وأن تعطي ، وفيه إشارة إلى أنه لا بد فيها من التمليك ، وهي مأخوذة من زكى . بمعنى طهر ، ونما ، وهو اسم للقدر المخرج من النصاب ; لأنه يطهر المخرج ، أو المخرج عنه ، ويزيد البركة ، وفي رواية للبخاري ، ومسلم تقييدها بالمفروضة ، والظاهر أنها للتأكيد [ ( وتصوم ) ] : بالنصب [ ( رمضان ) ] أي : في شهره ، وفيه جواز ذكره بلا كراهة من غير ذكر شهر ، وهو المعتمد ، وهو من رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر ، وسمي به لارتماضهم من حر الجوع ، أو من حرارة الزمان الذي وقع فيه ، أو لأنه يحترق به الذنوب ، وتمحى به العيوب ، أو لأنه يزول معه حرارة الشهوات ، والصوم لغة الإمساك ، وشرعا إمساك مخصوص بوصف مخصوص ، [ ( وتحج البيت ) ] أي : الحرام ; فإن فيه للعهد ، أو هو اسم جنس غلب على الكعبة علما ، واللام فيه جزء كما في النجم ، والحج لغة القصد ، أو تكراره مطلقا ، أو إلى معظم ، وشرعا قصد بيت الله في وقت معين بشرائط مخصوصة [ ( إن استطعت إليه ) ] أي : إلى البيت ، أو إلى الحج أي : إن أمكن لك الوصول إليه بأن وجدت زادا ، أو راحلة كما في حديث صححه غير واحد [ ( سبيلا ) ] : تمييز عن نسبة الاستطاعة فأخر عن الجار ليكون أوقع ، وهي الطريق الذي فيه سهولة ، وتستعمل في كل ما يتوصل به إلى شيء ، وتنكيره للعموم إذ النكرة في الإثبات قد تفيد العموم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى : ( علمت نفس ) لكنه مجاز ، وتقديم إليه عليه للاختصاص أي : سبيلا ما على أي وجه كان قريبا ، أو بعيدا ، ونحوهما ، بشرط اختصاص انتهائه إليه لا إلى غيره ، وقيل " سبيلا " مفعول . بمعنى موصل ، أو مبلغ قال الشافعي : إنه بالمال ، وأوجب الاستنابة على الزمن الغني ، وقال مالك : إنه بالبدن فيجب على من قدر على المشي ، والكسب في الطريق ، وقال أبو حنيفة : إنه مجموع الأمرين ، ثم الاستطاعة هي القدرة من طاع لك إذا سهل يطلق على سلامة الأسباب ، وصحة الآلات ، وهي قد تتقدم على الفعل ، وعلى عرض في الحيوان يفعل له الأفعال الاختيارية ، ولا يكون إلا مع الفعل ، وهي كما فسرت استطاعة خاصة بالمعنى الأول فلا يرد ما قيل إن الاستطاعة التي بها يتمكن المكلف من فعل العبادة مشروطة في الكل فكيف خص الحج بها ؟ قال الطيبي ، فإن قلت : كيف خص الحج بالاستطاعة دون سائر الأركان الإسلامية مع أن الاستطاعة التي يتمكن المكلفون من فعل الطاعة مشروطة في الكل ؟ أجيب : بأن المعني بهذه الاستطاعة الزاد ، والراحلة ، وكان طائفة لا يعدونها منها ، ويثقلون على الحاج فنهوا عن ذلك ، أو علم الله تعالى أن ناسا في آخر الزمان يفعلون ذلك فصرح تسهيلا على العباد ، ومع ذلك ترى كثيرا من الناس لا يرفعون لهذا النص الجلي رأسا ، ويلقون أنفسهم بأيديهم إلى التهلكة . أقول : ولعل في هذا حكمة ، وهي أن تكون حجة على الأغنياء التاركين للحج رأسا مع أن الله تعالى أعطاهم مالا ، وأثاثا ، وإيراد الأفعال المضارعية لإفادة الاستمرار التجددي لكل من الأركان الإسلامية ، ففي التوحيد المطلوب الاستمرار الدائم مدة الحياة ، وفي الصلاة دونه ، ثم في الصوم ، والزكاة دونها ، وقدم الصوم لتعلقه بجميع المكلفين ، وأخر ما وجب في العمر مرة . وفي فتح الباري فإن قيل : السؤال عام ؛ لأنه سئل عن ماهية الإسلام . والجواب خاص بقوله : أن تعبد ، وتشهد ، وكذا قال في الإيمان : أن تؤمن ، وفي الإحسان أن تعبد . فالجواب : أن ذلك لنكتة الفرق بين المصدر ، و ( أن ) الفعل ، لأن أن والفعل يدل على الاستقبال ، والمصدر لا يدل على الزمان على أن في رواية قال : شهادة أن لا إله إلا الله اهـ .

وقيل : الأولى في الجواب أن يقال : القصد التعليم هو إنما يتعلق بالأمور المستقبلة فلذلك عدل عن المصدر المناسب للسؤال إلى ما يدل على الاستقبال ، ويسنح بالبال ، والله أعلم بحقيقة الحال أن العدول عن المصدر المفيد للعلم إلى المضارع المقتضي للعمل إيماء إلى أنه لا يكفي مجرد المعرفة من غير أن يخرج من القوة إلى الفعل ، وبنحو [ ص: 55 ] هذا العدول يعلم بلوغ بلاغته إلى أعلى الغايات ، وأعلى النهايات ، ووقع في رواية حذف الحج ، وفي أخرى حذف الصوم ، وفى أخرى الاقتصار على الشهادتين ، وفي أخرى على الصلاة ، والزكاة ، ولا تخالف لأن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره ذهولا ، أو نسيانا كذا قيل ، أو يقال لكل وجهة ، فحذف الحج لأن وجوبه نادر ، وفي العمر مرة ، وحذف الصوم اكتفاء بذكر الصلاة ، فإن كلا منهما عبادة بدنية ، والاقتصار على الشهادتين لأنهما أساس الإسلام ، وعلى الصلاة ، والزكاة لأنهما عمدة العبادة البدنية ، والمالية ، والمقصود ظاهر الطاعة ، والانقياد ، والعبادة لا استيفاء أفرادها ، وإن كانت الخمسة هي معظم أركانها فالمراد بذكر بعضها مثلا هو التنبيه على بقيتها ، ولذا ورد في رواية : وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء فيحمل الاختلاف اللفظي على التحديث المعنوي ، ثم اعلم أن لكل من تلك الأركان ظاهرا تبين أحكامه في الكتب الفقهية ، وباطنا من حقائق ، وأسرار ذكرها أرباب القلوب الأمناء لأسرار الغيوب ، فنحن نذكر نبذة منها . أما التوحيد ، فهو ظهور فناء الخلق بتشعشع أنوار الحق ، وله مراتب كما ذكره ذوو المناقب .

الأولى : التوحيد النظري إن علم بالاستدلال ، أو التقليدي إن اعتقد بمجرد تصديق المخبر الصادق ، وسلم القلب من الشبهة ، والحيرة ، والريب ، هو أن يعتقد أن الله متفرد بوصف الألوهية متوحد باستحقاق العبودية يحقن الدماء ، والأموال ، ويتخلص من الشرك الجلي في الأحوال .

الثانية : التوحيد العلمي ، وهو أن يصير العبد بخروجه من غشاوة صفاته ، وخلاصه من سجن ظلمات ذاته ، وانسلاخه عن لباس الاختيار حيران في أنوار عظمة الجبار ، ولهان تحت سبحات سطوات الأنوار ، فيعرف أن الموجد المحقق ، والمؤثر المطلق هو الله تعالى ، وأن كل ذات فرع من نور ذاته ، وكل صفة من علم ، وقدرة ، وإرادة ، وسمع ، وبصر عكس من أنوار صفاته ، وأثر من آثار أفعاله ، ومنشؤه نور المراقبة ، وهو دون المرتبة الحالية ، لكن مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون ، وعند ذلك ينفي من الظلمة الوجودية ، ويرتفع بعض من الشرك الخفي .

الثالثة : التوحيد الحالي ، وهو أن يحمل التوحيد وصفا لازما لذات الموحد بتلاشي ظلمات رسوم وجود الغير إلا قليلا في غلبة إشراق نور التوحيد ، واستنار نور حاله في نور علم التوحيد كاستتار نور الكواكب في نور الشمس ، فلما استنار الصبح أدرج ضوء نور الكواكب ، واستغراقه في مشاهدة جمال وجود الواحد بحيث لا يظهر عند شهوده إلا ذات الواحد ، ويرى التوحيد صفة الواحد لا صفته بل لا يرى ذلك ، قال الجنيد : التوحيد معنى يضمحل فيه الرسوم ، ويندرج فيه العلوم ، ويكون الله كما لم يزل .

الرابعة : التوحيد الإلهي ، وهو أن الله تعالى كان في الأزل موصوفا بالوحدانية في الذات ، والأحدية في الصفات ، كان ولم يكن معه شيء ، والآن كما كان . كل شيء هالك إلا وجهه ، ولم يقل يهلك ؛ لأن عزة وحدانيته لم تدع لغيره وجودا ، وفي هذا المعنى أنشد العارف الأنصاري لنفسه شعرا :


ما وحد الواحد من واحد     إذ كل من وحده جاحد


توحيد من ينطق عن نعته     عارية أبطلها الواحد


توحيده إياه توحيده     ونعت من ينعته لاحد



وأما الصلاة فقد قيل : كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - معراجان : معراج في عالم الحس من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى عالم الملكوت ، ومحل الملأ الأعلى ومعراج في عالم الأرواح من الشهادة إلى الغيب ، ثم من الغيب إلى غيب الغيب ، فلما أراد أن يرجع قال الرب تبارك وتعالى : المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه ، وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالآداب ، والأفعال ، والروحاني بالأذكار ، والأحوال . ولهذا ورد : الصلاة معراج المؤمن ، وأما الصوم فصوم الشريعة منافعه أكثر من أن تحصى ، ولو لم يكن إلا التشبه بالملأ الأعلى لكفى به فضلا ، وصوم الطريقة ، فهو الإمساك عن الأكوان ، والإفطار بمشاهدة الرحمن .

صمت عن غيره فلما تجلى كان لي شاغل عن الإفطار [ ص: 56 ] وأما الزكاة فهي إشارة إلى تزكية أحوال الظاهر والباطن بترك الأموال ، وصرفها إلى أسباب الوصول إلى الأحوال ، وتخلية القلب عن الأغيار ، وتخلية الروح لظهور تجليات الأنوار ، وأما الحج ، فهو إشارة إلى وجوب زيارة بيت الجليل على الخليل إن استطاع إليه السبيل بأن وجد شرائط السلوك ، وإمكانه ، وآداب السفر ، وأركانه ، وهي الإحرام بالخروج عن الرسوم ، والعادات ، والتجرد عن المألوفات ، والتوجه إلى الله تعالى بصفاء الطويات ، والوقوف بعرفات المعرفة ، والعكوف على عتبة جبل الرحمة ، والطواف بالخروج عن الأطوار السبعية بالأطواف السبعية حول كعبة الربوبية ، والسعي بين صفا الصفات ، ومروة المروات ، والحلق بمحو آثار العبودية بموسى الأنوار الإلهية ، وقس عليه سائر المناسك ، ولله در القائل الناسك :


يا من إلى وجهه حجي ومعتمري     إن حج قوم إلى ترب ، وأحجار


لبيك لبيك من قرب ومن بعد     سرا بسر ، وإضمارا بإضمار



( قال : صدقت ) : دفعا لتوهم أن السائل ما عده من الصواب ، وحملا للسامعين على حفظ الجواب ، ( فعجبنا له ) أي : للسائل ( يسأله ، ويصدقه ) : التعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ، فوجه التعجب أن السؤال يقتضي الجهل غالبا بالمسئول عنه ، والتصديق يقتضي علم السائل به ; لأن صدقت إنما يقال إذا عرف السائل أن المسئول طابق ما عنده جملة ، وتفصيلا ، وهذا خلاف عادة السائل ، ومما يزيد التعجب أن ما أجابه - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف إلا من جهته ، وليس هذا الرجل ممن عرف بلقائه - صلى الله عليه وسلم - فضلا عن سماعه منه . وفي رواية : لما سمعنا قول الرجل صدقت أنكرناه ، وفي رواية أخرى : انظروا هو يسأله ، ويصدقه كأنه أعلم منه ، وفي أخرى ما رأينا رجلا مثل هذا كأنه يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له : صدقت صدقت . قيل : هو من صنيع الشيخ إذا امتحن المعيد عند حضور الطلبة ليزيدوا في طمأنينة ، وثقة في أنه يعيد الدرس ، ويلقي المسألة من الشيخ بلا زيادة ، ونقصان ، وفيه نسخة من قوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ) ( قال : فأخبرني عن الإيمان ) : وفي رواية : ما الإيمان ، واستشكلت بأن ما للسؤال عن الماهية ؟ فالجواب غير مطابق ، ورد بأنه - عليه الصلاة والسلام - علم منه أنه إنما سأل عن متعلقات الإيمان ، لأنها الأحق بالتعليم ، ولأن التصديق في ضمنها ، والأظهر أنه لا فرق بين الروايتين ، والمطابقة حاصلة في الجهتين لأن الإيمان في [ قال : ( أن تؤمن ) ] : أريد به المعنى اللغوي ، وقيل المعنى الشرعي حتى لا يكون تفسير الشيء بنفسه ، ولا يكون الدور في تعريفه . وقول الطيبي أي : تعترف ، ولذا عدي بالباء فيه أن الاعتراف من أجزاء الإسلام ، فالتحقيق أن الإيمان هنا بمعنى التصديق ، وهو يتعدى بالباء ، ففي القاموس آمن به إيمانا أي : صدقه ، نعم لو ضمن معنى الاعتراف لكان حسنا ، ويكون التقدير أن تصدق معترفا ، أو تعترف مصدقا فيفيد كون الإقرار شطرا ، أو شرطا . قيل : والحديث يدل على مغايرة العمل للإيمان فإنه أجاب عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، وجعله تصديقا [ ( بالله ) ] أي : بتوحيد ذاته ، وتفريد صفاته ، وبوجوب وجوده ، وبثبوت كرمه ، وجوده ، وسائر صفات كماله من مقتضيات جلاله ، وجماله . قيل : الصفة إما حقيقة لا يتوقف تصورها على شيء كالحياة ، أو إضافية يتوقف على ذلك لوجوب القدم ، أو وجودية ، وهي صفات الإكرام ، أو سلبية ، وهي صفات الجلال ، وتنحصر الوجودية في ثمانية نظمها الشاعر في قوله :


حياة وعلم قدرة وإرادة     كلام وإبصار وسمع مع البقا



قال ابن الصلاح : هذا الحديث بيان أصل الإيمان ، وهو التصديق ، والإسلام ، وهو الانقياد ، وحكم الإسلام يثبت بالشهادتين ، وإنما أضاف إليهما الأعمال المذكورة ؛ لأنها أظهر شعائره ، ثم قيل : الإيمان قد يطلق على الإسلام كما في حديث عبد قيس ، واسم الإسلام يتناول أصل الإيمان ، وهو التصديق ، والطاعات فإن كل ذلك استسلام فعلم أنهما يجتمعان ، ويفترقان ، وأن كل مؤمن مسلم من غير عكس ، وهذا التحقيق موافق لمذهب جماهير العلماء اهـ .

[ ص: 57 ] والمشهور أنهما مترادفان في الشرع نقله ابن عبد البر عن الأكثرين ; لأن انقياد الظاهر لا ينفع بدون انقياد الباطن ، وكذا العكس ، والحق أن الخلاف لفظي لأن مبنى الأول على الحكم الدنيوي ، ومدار الثاني على الأمر الأخروي ، أو الأول بناؤه على اللغة ، والثاني مداره على الشريعة ، وصنف في المسألة إمامان كبيران ، وأكثرا من الأدلة على أنهما متغايران ، أو مترادفان ، وتكافآ في ذلك ، وقيل التحقيق أنهما مختلفان باعتبار المفهوم متحدان في المصادق ، والله أعلم . ثم التصديق إذعان النفس ، وقبولها بما يجب قبوله ، وهو : تقليدي ، وتحقيقي . والتحقيقي إما استدلالي ، أو ذوقي ، والذوقي إما كشفي واقف على حد العلم ، أو الغيب ، أو غيبي غير واقف عليه ، والغيبي إما مشاهدة ، أو شهود ، والأول هو الاعتقاد الجازم المطابق الممتنع الزوال ، والثاني الاعتقاد الجازم الثابت بالبرهان ، والثالث الممتنع الزوال الثابت بالوجدان ، والثلاثة مراتب الإيمان بالغيب ، والأخيران علم اليقين ، والرابع هو المشاهدة الروحانية مع بقاء الاثنينية ، ويسمى عين اليقين ، والخامس هو الشهود الحقاني عند تجلي الوحدة الذاتية ، وزوال الاثنينية ، ويسمى حق اليقين ، هذا وإن للإيمان وجودا غيبيا ، ووجودا ذهنيا ، ووجودا لفظيا ، أما الأول ، فهو ما أشار إليه الشيخ الكبير أبو عبد الله الشيرازي في معتقده من أنه نور يقذف في القلب من نور الذات ، ومعناه أن أصله نور يقذفه الحق من ملكوته إلى قلوب عباده فيباشر أسرارهم ، وهو متصل بالحضرة ثابت في قلوبهم ، فإذا انكشف جمال الحق له ازداد ذلك النور فيتقوى إلى أن ينبسط ، وينشرح الصدر ، ويطلع العبد على حقائق الأشياء ، ويتجلى له الغيب ، وغيب الغيب ، ويظهر له صدق الأنبياء ، وينبعث من قلمه داعية الاتباع ، فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأعمال ، والأخلاق ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ) وذلك القذف ، والكشف يتعلق بمراد الله في أحايين ، نسيم الصفات لا يقدر على كسبه ، نعم شرائطه مكتسبة ، وأما الوجود الذهني فملاحظة ذلك النور ، ومطالعته بالتصديق ، وأما الوجود اللفظي ، فهو الشهادتان ، وكما أن إيمان العوام هو التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، فإيمان الخواص عزوب النفس من الدنيا ، وسلوكه طريق العقبى ، وشهود القلب مع المولى ، وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله ، وإنابة الخلق إلى الفناء في الله ، وإخلاص السر للبقاء بالله ذوقنا الله .

[ ( وملائكته ) ] : جمع ملاك ، وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة ، وهي الرسالة قدمت اللام على الهمزة ، وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها إلى ما قبلها فصار ملك ، ولما جمعت ردت الهمزة ، وقيل قلبت ألفا ، وقدمت اللام ، وجمع على فعائل كشمأل ، وشمائل ، ثم تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال ، وألقيت حركتها إلى اللام ، والتاء لتأنيث الجمع ، أو مزيدة لتأكيد معناه أطلقت بالغلبة على الجواهر العلوية النورانية المبرأة عن الكدورات الجسمانية ، وهي وسائط بين الله وبين أنبيائه ، وخاصة أصفياءه ، وقال بعضهم : هي أجسام لطيفة نورانية مقتدرة على تشكلات مختلفة يجوز عليهم الصعود ، والنزول ، والتسبيح لهم بمنزلة النفس منا ، فمشقة التكليف منتفية ، والمعنى نعتقد بوجودهم تفصيلا فيما علم اسمه منهم ضرورة كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، وإجمالا في غيرهم ، وأنهم عباد مكرمون يسبحون الليل ، والنهار لا يفترون ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وأن منهم كراما كاتبين ، وحملة العرش المقربين ، وأن لهم أجنحة مثنى ، وثلاث ، ورباع ، وأنهم منزهون عن وصف الأنوثة ، والذكورة ، وأما كون الرسل أفضل منهم ، أو هم فلا يجب اعتقاد أحدهما فإن المسألة ظنية . فإن قلت : ما الموجب لدخول الإيمان بها في مفهوم الإيمان الصحيح مع أن المقصود بالذات معرفة المبدأ ، أو المعاد ؟ فأجيب : بأن الناس ينقسم إلى فطن يرى المعقول كالمحسوس ، ويدرك الغائب كالمشاهد ، وهم الأنبياء ، وإلى من الغالب عليهم متابعة الحس ، ومتابعة الوهم فقط ، وهم أكثر الخلائق ، فلا بد لهم من معلم يدعوهم إلى الحق ، ويذودهم عن الزيغ المطلق ، ويكشف لهم المغيبات ، ويحل عن عقولهم الشبهات ، وما هو إلا النبي المبعوث لهذا الأمر ، وهو وإن كان مشتعل القريحة ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) يحتاج إلى نور يظهر له الغائب ، وهو الوحي ، والكتاب ، ولذلك سمي القرآن نورا ، ولا بد له من حامل ، وموصل ، وهو الملك المتوسط ، وإليه الإشارة بقوله : ( إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا )

[ ص: 58 ] فالمراد لا يصير مؤمنا إلا إذا تعلم من النبي ما يحققه بإرشاد الكتاب الواصل إليه بتوسط الملك أن له إلها واجب الوجود فائض الجود إلى غير ذلك مما يثبت بالشرع ، [ ( وكتبه ) ] أي : ونعتقد بوجود كتبه المنزلة على رسله تفصيلا فيما علم يقينا كالقرآن ، والتوراة ، والزبور ، والإنجيل ، وإجمالا فيما عداه ، وأنها منسوخة بالقرآن ، وأنه لا يجوز عليه نسخ ، ولا تحريف إلى قيام الساعة لقوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) . وأما كون كلام الله تعالى غير مخلوق ففيه اختلاف بين المعتزلة ، وأهل السنة . قيل : الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب ، منها عشر صحائف نزلت على آدم وخمسون على شيث ، وثلاثون على إدريس ، وعشرة على إبراهيم ، والأربعة السابقة ، وأفضلها القرآن ، [ ( ورسله ) ] بأن تعرف أنهم بلغوا ما أنزل الله إليهم ، وأنهم معصومون ، وتؤمن بوجودهم فيمن علم بنص ، أو تواتر تفصيلا ، وفي غيرهم إجمالا . وهذا الحديث يدل على ترادف الرسول ، والنبي فإنه كما يجب الإيمان بالرسل يجب بالأنبياء . وعن الإمام أحمد عن أبي أمامة قال أبو ذر : قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء ؟ قال : ( مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا ) اهـ .

وهو ظاهر في التغاير ، وعليه الجمهور في الفرق بينهما بأن النبي إنسان بعثه الله ، ولو لم يؤمر بالتبليغ ، والرسول من أمر به فكل رسول نبي ، ولا عكس ، فلعل وجه التخصيص أن الرسول هو المقصود بالذات في الإيمان من حيث أنه مبلغ ، وأن الإيمان بالأنبياء إنما يعرف من جهة تبليغ الرسل ، فإنه لا تبليغ للأنبياء ، والله أعلم . وهذا لا ينافي قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ) لأن المنفي هو التفصيل ، والثابت هو الإجمال ، أو النفي مقيد بالوحي الجلي ، والثبوت متحقق بالوحي الخفي . فإن قلت : ما فائدة ذكر ما بعد الرسل ، وما قبلهم مع أن الإيمان بهم مستلزم للإيمان بجميع ما جاءوا به يستلزم الإيمان بجميع ذلك ؟ قلت : التنبيه على الترتيب الواقع ؟ فإن الله تعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول لمعرفة المبدأ ، أو المعاد ، وأن الخير ، والشر يجريان على العباد بمقتضى ما قدره ، وقضاه ، وأراده ، ولهذا قدم الملائكة لا لكونهم أفضل من الرسل ؛ لأنه مختلف ، ولا من الكتب إذ لم يقل به أحد ، وهذا الترتيب مما يقتضيه حكمة عالم التكليف ، والوسائط ، وإلا فما قام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، معلوم لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إذ فيه إشارة إلى تمكينه في وقت كشوف المشاهدة ، واستغراقه في بحر الوحدة حيث لا يبقى فيه أثر البشرية ، والكونين ، وهذا محل استقامته في مشهد التمكين الذي أخبر الله عنه بقوله : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) وليس هناك مقام جبريل ، وجميع الكروبيين ، ولا مقام الصفي ، والخليل ، ومن دونهم من الأنبياء ، وكان أكثر أوقاته كذلك لكن يرده الله إلى تأديب أمته في بعض الأوقات ليجري عليهم أحكام التلوين ، ولا يذوب في أنوار كبرياء الأزل ، [ ( واليوم الآخر ) ] أي : يوم القيامة ؛ لأنه آخر أيام الدنيا ، وهو الأحسن ليشمل أحوال البرزخ فإنه آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، ولأنه مقدمته ، أو لأنه أخر عنه الحساب ، والجزاء ، وقيل هو الأبد الدائم الذي لا ينقطع لتأخره عن الأوقات المحدودة ، وذلك بأن تؤمن بوجوده ، وبما فيه من البعث الجسماني ، والحساب ، والجنة ، والنار ، وغير ذلك مما جاءت به النصوص . وفي رواية البخاري : والبعث الآخر ، فهو تأكيد كأمس الذاهب ، أو لإفادة تعدده ; فإن الأول هو الإخراج من العدم إلى الوجود ، أو من بطون الأمهات إلى الدنيا ، والثاني البعث من بطون القبور إلى محل الحشر ، والنشور . وفي أخرى له : وبلقائه ، وتؤمن بالبعث ، فاللقاء الانتقال إلى دار الجزاء ، والبعث بعث الموتى من قبورهم ، وما بعده من حساب ، وميزان ، وجنة ، ونار ، وقد صرح بهذه الأربعة في رواية . وقيل : اللقاء الحساب ، وقيل رؤية الله تعالى ، وقيل : المراد بالبعث بعثة الأنبياء [ ( وتؤمن ) ] ، أي : وأن تؤمن [ ( بالقدر ) ] : بفتح الدال ، ويسكن ما قدره الله ، وقضاه ، وإعادة العامل إما [ ص: 59 ] لبعد العهد كقول الشاعر :


لقد علم الحي اليماني أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها



أو لشرف قدره ، وتعاظم أمره وقع فيه الاهتمام لأنه محار الأفهام ، ومزال الأقدام ، وقد علم - عليه الصلاة والسلام - أن الأمة سيخوضون فيه ، وبعضهم يتقونه فاهتم بشأنه ، ثم قرره بالإبدال بقوله : [ ( خيره ، وشره ) ] أي : نفعه ، وضره ، وزيد في رواية ، وحلوه ومره ، فإن البدل توضيح مع التوكيد المفيد للتعميم لتكرير العامل ، وعندي أن إعادة العامل هنا أفادت أن هذا المؤمن به دون ما سبق ، فإن من أنكر شيئا مما تقدم كفر بخلاف من أنكر هذا فإنه لا يخرجه عن دائرة الإسلام فيكون بمنزلة التذييل ، والتكميل ، وأما قول ابن الملك : خيره ، وشره بدل بعض فغير ظاهر إلا أن يقال باعتبار كل من المعطوف ، والمعطوف عليه ، والأظهر أنه بدل الكل ، والرابطة بعد العطف ، والمعنى تعتقد أن الله قدر الخير ، والشر قبل خلق الخلائق ، وأن جميع الكائنات متعلق بقضاء الله مرتبط بقدره . قال تعالى : ( قل كل من عند الله ) وهو مريد لها لقوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) فالطاعات يحبها ، ويرضاها بخلاف الكفر ، والمعاصي . قال تعالى : ( ولا يرضى لعباده الكفر ) والإرادة لا تستلزم الرضا ، ثم القضاء هو الحكم بنظام جميع الموجودات على ترتيب خاص في أم الكتاب أولا ، ثم في اللوح المحفوظ ثانيا على سبيل الإجمال ، والقدر تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها ، وهو تفصيل قضائه السابق بإيجادها في المواد الجزئية المسماة بلوح المحو ، والإثبات كما يسمى الكتاب بلوح القضاء ، واللوح المحفوظ بلوح القدر في وجه هذا تحقيق كلام القاضي . ولما كان الإيمان بالقدر مستلزما للإيمان بالقضاء لم يتعرض له ، وذكر الراغب أن القدر هو التقدير ، والقضاء هو التفصيل ، فهو أخص ، ومثل هذا بأن القدر ما أعد للبس ، والقضاء بمنزلة اللبس ، ويؤيده ما ذكره الحكيم الترمذي . كان في البدء علم ، ثم ذكر ، ثم مشيئة ، ثم تدبير ، ثم مقادير ، ثم إثبات في اللوح ، ثم إرادة ، ثم قضاء ، فإذا قال : كن فكان على الهيئة إلى علم فذكر ، ثم شاء فدبر ، ثم قدر ، ثم أثبت ، ثم قضى ، فعلم منه أنه ما من شيء من حيث استقام في العلم الأزلي إلى أن استقام في اللوح ، ثم استبان إلا يتعلق به أمور من الله تعالى . قال بعض العارفين : إن القدر كتقدير النقاش الصورة في ذهنه ، والقضاء كرسمه تلك الصورة للتلميذ بالأسرب ، ووضع التلميذ الصبغ عليها متبعا لرسم الأستاذ هو الكسب ، والاختيار ، وهو في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ كذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء ، والقدر ، ولكنه متردد بينهما ، هذا والقدرية فسروا القضاء بعلمه بنظام الموجودات ، وأنكروا تأثير قدرة الله تعالى في أفعال المخلوقات ، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد خيرها ، وشرها مخلوقة لله تعالى مرادة له ، ومع ذلك هي مكتسبة للعباد لأن لهم نوع اختيار في كسبها ، وإن رجع ذلك في الحقيقة إلى إرادته وخلقه ، ولا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون . وهذا أوسط المذاهب ، وأعدلها ، وأوفقها للنصوص ، فهو الحق ، والصواب خلافا للجبرية القائلين بأن العباد مجبورون على أفعالهم ، إذ يلزمهم أن لا تكليف ، ومن اعترف منهم بهذا اللازم ، فهو كافر بخلاف من زعم أن سلب قدرة العبد من أصلها إنما هو تعظيم لقدرة الله تعالى عن أن يشركه فيها أحد بوجه فإنه مبتدع ، وخلافا للقدرية النافين للقدر ، وهم المعتزلة القائلون بأن العبد يخلق أفعال نفسه ، وأن قدرة الله تعالى لا تؤثر فيها ، وأن إرادته لا تتعلق بها لاستقلال قدرة العبد بالإيجاد ، والتأثير في أفعاله ، إذ يلزمهم أن له تعالى شركاء في ملكه سبحانه ، فمن اعتقد حقيقة الشركة قصدا فقد كفر ، أو تنزيه الله تعالى عن الفعل القبيح ، فهو مبتدع . روي أنه كتب الحسن البصرى إلى الحسن بن علي - رضي الله عنهم - يسأله عن القضاء ، والقدر فكتب إليه الحسن بن علي : من لم يؤمن بقضاء الله ، وقدره خيره ، وشره فقد كفر ، ومن حمل ذنبه على ربه فقد كفر ، وأن الله تعالى لا يطاع استكراها ، ولا يعصى بغلبة لأنه تعالى مالك لما ملكهم [ ص: 60 ] وقادر على ما أقدرهم ، فإن عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما عملوا ، وإن عملوا بالمعصية فلو شاء لحال بينهم وبين ما عملوا فإن لم يفعل فليس هو الذي جبرهم على ذلك ، ولو جبر الله الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب ، ولو جبرهم على المعصية لأسقط عنهم العقاب ، ولو أهملهم كان ذلك عجزا في القدرة ، ولكن له فيهم المشيئة التي غيبها عنهم ، فإن عملوا بالطاعة فله المنة عليهم ، وإن عملوا بالمعصية فله الحجة عليهم ، والسلام ، فهذه رسالة يظهر عليها أنوار مشكاة النبوة والرسالة .

ثم اعلم أن الإيمان بالقدر يستلزم العلم بتوحيد ذات الحق ؛ لأن إتيان المقدورات وأحكامها على ما هو حقها في أزمنة وأمكنة مخصوصة تدل على توحد الحكم بتقديرها المقتضي لتوحد المقدر ، والعلم بصفاته كسعة علمه ورحمته على العالمين ، وآثار قدرته ، وحكمته للمخلوقين ، ونفوذ قضائه فيهم ، والعلم بكمال صنعه وأفعاله ، وأن الحوادث مستندة إلى الأسباب الإلهية فيعلم أن الحذر لا يقطع القدر ، ولا ينازع أحدا في طلب شيء من اللذات ، ولا يأنس بها إذا وجدها ، ولا يغضب بسبب فوت شيء من المطالب ، ولا بوقوع شيء من المهارب . قال تعالى : ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) وورد في الحديث : " ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك " . فيكون مستسلما للحق فيما أراده من القضاء المطلق ، وحسن الخلق مع سائر الخلق . قال بعض العارفين : إن الله قدر وجود مخلوقاته لمظاهر تجلي أسمائه وصفاته ، فلكل منها مقدار مقدر لمظاهر تجلي ما علمه الله له من الأسماء والصفات مما يليق به ، وهو مستعد له ، وبذلك يسبح له كما قاله : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) ولكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح ، والتحميد تنزيها لصانعه ، وحمدا له على ما أولاه من مظهريتها للصفات الجمالية والجلالية فالأشياء كلها مقادير لأسماء الله تعالى وصفاته دون ذاته فإنه لا يسعها إلا قلب المؤمن لا يسعني أرضي ، ولا سمائي ، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن ، ولذا قيل : قلب المؤمن عرش الله . وقال أبو يزيد قدس الله سره : لو وقع العالم ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به .

[ قال : ( صدقت ) قال : فأخبرني عن الإحسان ] : قيل أي : المعهود ذهنا في الآيات القرآنية من قوله تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى ) و ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) والأظهر أن المراد به في الآيات ما اشتمل على الإيمان والإسلام ، وغيرهما من الأعمال ، والأخلاق والأحوال ، والمراد في الحديث المعنى الأخص فقيل أراد به الإخلاص ، فإنه شرط في صحة الإيمان والإسلام معا لأن من تلفظ بالكلمة ، وجاء بالعمل من غير نية الإخلاص لم يكن إيمانه صحيحا قاله في النهاية . فكان المخلص في الطاعة يوصل الفعل الحسي إلى نفسه ، والمرائي يبطل عمل نفسه ، والإخلاص تصفية العمل من طلب عوض ، وغرض عرض ، ورؤية رياء ، والأظهر أن المراد به إحسان العمل ، وهو إحكامه وإتقانه ، وهو يشمل الإخلاص ، وما فوقه من مرتبة الحضور مع الله ، ونفي الشعور عما سواه ، ويدل عليه الجواب . [ قال : ( أن تعبد الله ) ] ، أي : توحده ، وتطيعه في أوامره ، وزواجره .

وفي رواية : أن تخشى الله ، ومآلهما واحد ؛ لأن العبادة أثر الخشية ، وهي منتجة للعبادة ، وهي الطاعة مع الخضوع والمذلة . قال الراغب : العبادة فعل اختياري مناف للشهوات البدنية تصدر عن نية يراد بها التقرب إلى الله تعالى طاعة للشريعة . وقال بعض المحققين : وهي الغاية القصوى من إبداع الخلق ، وإرسال الرسل . وكلما ازداد العبد معرفة ازداد عبودية ، ولذا خص الأنبياء ، وأولو العزم بخصائص في العبادة ، ولا ينفك العبد عنها ما دام حيا بل في البرزخ عليه عبودية أخرى لما سأله الملكان عن ربه ، ودينه ، ونبيه ، وفي القيامة يوم يكشف عن ساق ، ويدعون إلى السجود ، وإذا دخل الجنة كانت عبوديته سبحانك اللهم مقرونا بأنفاسه ، وفي كلام الصوفية : أن العبادة حفظ الحدود والوفاء [ ص: 61 ] بالعهود ، وقطع العلائق والشركاء عن شرك ، والفناء عن مشاهدتك في مشاهدة الحق ، وله ثلاث مراتب لأنه إما أن يعبده رهبة من العقاب ورغبة في الثواب ، وهو المسمى بالعبادة ، وهذه لمن له علم اليقين . أو يعبده تشوقا لعبادته وقبول تكاليفه ، وتسمى بالعبودية ، وهذه لمن له عين اليقين ، أو يعبده لكونه إلها وكونه عبدا ، والإلهية توجب العبودية ، وتسمى بالعبودة ، وهذه لمن له حق اليقين ، والشرك رؤية ضر ، أو نفع مما سواه ، وإثبات وجود غير الله ذاتا ، أو صفة ، أو فعلا [ ( كأنك تراه ) ] : مفعول مطلق أي : عبادة شبيهة بعبادتك حين تراه ، أو حال من الفاعل أي : حال كونك مشبها بمن ينظر إلى الله خوفا منه وحياء ، وخضوعا ، وخشوعا ، وأدبا ، وصفاء ، ووفاء ، وهذا من جوامع الكلم ، فإن العبد إن قام بين يدي مولاه لم يترك شيئا مما قدر عليه من إحسان العمل ، ولا يلتفت إلى ما سواه ، وهذا المعنى موجود في عبادة العبد مع عدم رؤيته ، فينبغي أن يعمل بمقتضاه إذ لا يخفى أن من يرى من يعمل له العمل يعمل له أحسن ما يمكن عمله ، ولا شك أن ذلك التحسين لرؤية المعمول له العامل حتى لو كان العامل يعلم أن المعمول له ينظر إليه من حيث لا يراه يجتهد في إحسانه العمل أيضا ، ولذا قال : [ ( فإن لم تكن تراه ) ] أي : تعامله معاملة من تراه [ ( فإنه يراك ) ] أي : فعامل معاملة من يراك ، أو فأحسن في عملك فإنه يراك . وفي رواية : فإن لم تره أي : بأن غفلت عن تلك المشاهدة المحصلة لغاية الكمال فلا تغفل عما يجعل لك أصل الكمال ، فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله . بل استمر على إحسان العبادة مهما أمكن فإنه يراك أي : دائما ، فاستحضر ذلك لتستحيي منه حتى لا تغفل عن مراقبته ، ولا تقصر في إحسان طاعته ; وحاصل الكلام فإن لم تكن تراه مثل الرؤية المعنوية فلا تغفل فإنه يراك ، فالفاء دليل الجواب ، وتعليل الجزاء ؛ لأن ما بعدها لا يصلح للجواب ، لأن رؤية الله للعبد حاصلة . سواء رآه العبد أم لا . بل الجواب محذوف استغناء عنه بالمذكور لأنه لازمه . وقيل : التقدير فكن بحيث إنه يراك ، وهو موهم . قال السيد جمال الدين : وليس معناه فإن لم تكن تعبد الله كأنك تراه فاعبده كأنه يراك كما ظن فإنه خطأ بين اهـ .

وأراد به الرد على الطيبي ، وبيانه أن رؤية الله تعالى لنا متحققة دائما حالة العبادة ، وغيرها ، فالتعبير بكأنه يراك خطأ ، والصواب فإنه يراك ، ووهم بعضهم أيضا فقال بعد قوله : كأنك تراه أي : كأنك تراه ويراك فحذف الثاني لدلالة الأول عليه ، وهو غلط قبيح لما تقدم ، فالصواب أن يقال : وهو يراك ; وحاصل جميع الأقوال الحث على الإخلاص في الأعمال ، ومراقبة العبد ربه في جميع الأحوال . قال بعض العارفين : الأول إشارة إلى مقام المكاشفة ، ومعناه إخلاص العبودية ، ورؤية الغير بنعت إدراك القلب عيان جلال ذات الحق ، وفنائه عن الرسوم فيه . والثاني إلى مقام المراقبة في الإجلال ، وحصول الحياء من العلم باطلاع ذي الجلال . قيل : المعنى فإن لم تكن بأن تكون فانيا تراه باقيا فإنه يراك في كل حال من غير نقصان وزوال ، وما قيل من أنه لا يساعده الرسم بالألف فمدفوع بحمله على لغة ، أو على إشباع حركة ، أو على حذف مبتدأ ، وهو أنت ، وجاز حذف الفاء من الجملة الاسمية الواقعة موقع الجزاء ، والمعنى أن تعبد الله في حال شعورك بوجودك لقوله تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) أي : الموت بإجماع المفسرين ، فإذا فنيت ، ومت موتا حقيقيا تراه رؤية حقيقية ، وترتفع العبادات التكليفية والتكلفية ، وإذا مت موتا مجازيا ، ودخلت في حال الفناء ، وبقيت في مقام البقاء تراه رؤية مشاهدة غيبية تسقط عنك ثقل العبادات البدنية ، أو نفس الأعمال الظاهرية عند غلبات الجذبات الباطنية . وقوله : فإنه يراك متعلق بالكلام السابق ، وإن كان له تعلق ما أيضا باللاحق ، وإنما أطنبت في المقام لتخطئة بعض الشراح في ذلك الكلام ، ولا ينافيه ما ورد في بعض الروايات ، فإنك إن لا تراه فإنه يراك ، وفي بعضها فإن لم تره فإنه يراك فإن القائل بما تقدم ما ادعى المراد من الحديث المؤدى بالعبارة ، بل ذكر معنى يؤخذ من فحوى الكلام بطريق الإشارة . قيل : وفي قوله كأنك تراه دليل لما هو الحق من أن رؤية الله في الدنيا لا تقع لحديث مسلم ( واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا ) قال الإمام مالك : لأن البصر في الدنيا خلق للفناء فلم يقدر على رؤية الباقي بخلافه في الآخرة فإنه لما خلق للبقاء الأبدي قوي [ ص: 62 ] وقدر على نظر الباقي سبحانه ، فرؤيته - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء بعين رأسه على القول به إما على أنه مستثنى ، وإما لكونه في الملكوت الأعلى الذي لا يصدق عليه حال الدنيا ، ونزاع المعتزلة معروف في هذه المسألة ، هذا وقد جاء في كثير من الروايات أن جبريل هنا أيضا قال : صدقت ، ولعل بعض الرواة لم يذكره نسيانا ، أو اختصارا ، أو اعتمادا على المذكور ، وفي بعض روايات صحيح مسلم وشرح السنة مسطور ، وقيل : إنما لم يقل هاهنا صدقت لأن الإحسان هو الإخلاص ، وهو سر من أسرار الله تعالى لا يطلع عليه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، كما جاء في الحديث المسلسل الرباني : الإخلاص سر من أسراري أودعته قلب من أحببت من عبادي اهـ .

وما ذكر أولا هو الأولى ( قال : فأخبرني عن الساعة ) أي : عن وقت قيامها لما في رواية : متى الساعة ، لا وجودها ؛ لأنه مقطوع به ، وقيل : لأنه علم من قوله السابق ، واليوم الآخر ، وهي جزء من أجزاء الزمان عبر بها عنها ، وإن طال زمنها اعتبارا بأول زمانها ، فإنها تقع بغتة ، أو لسرعة حسابها ، أو على العكس لطولها ، أو تفاؤلا كالمفازة للمهلكة ، أو لأنها عند الله كساعة عند الخلق كذا في الكشاف . والساعة لغة مقدار غير معين من الزمان ، وعرفا جزء من أربعة وعشرين جزءا من أوقات الليل والنهار . قيل : والساعة كما تطلق على القيامة ، وهي الساعة الكبرى تطلق على موت أهل القرن الواحد ، وهي الساعة الوسطى كما في قوله - عليه الصلاة والسلام - حين سألوه عن الساعة فأشار إلى أصغرهم ، ( إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم ) إذ المراد انقضاء عصرهم ، ولذا أضاف إليهم وعلى الموت ، وهي الساعة الصغرى ، وورد : من مات فقد قامت قيامته . قال : ( ما المسئول عنها ) ، أي : عن وقتها . قيل ، حق الظاهر أن يقول : ما المسئول عنه ليرجع الضمير إلى اللام . أجيب : بأنه كما يقال سألت عن زيد المسألة يقال سألته عنها ، وهو الاستعمال الأكثر فالضمير المرفوع راجع إلى اللام ، والمجرور إلى الساعة ، وما نافية أي : ليس الذي سئل عنها . ( بأعلم من السائل ) : نفى أن يكون صالحا لأن يسأل عنه - في أمر الساعة - لأنها من مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ، وقد قال تعالى : ( أكاد أخفيها ) . قيل أي : عن ذاتي مبالغة على سبيل الكناية لما عرف أن المسئول عنه يجب في الجملة أن يكون أعلم من السائل ، فلا يقال لا يلزم من نفي الأعلمية نفي أصل العلم عنها مع أنهما متساويان في انتفاء العلم بذلك ، ومساق الكلام يقتضي أن يقول : لست أعلم بعلم الساعة منك لكنه عدل ليفيد العموم ; لأن المعنى كل سائل ومسئول سيان في ذلك ، وفي رواية فنكس فلم يجبه ، ثم أعاد فلم يجبه شيئا ، ثم رفع رأسه ، وقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، والباء مزيدة لتأكيد النفي . قيل : وما أفهمه من أنهما مستويان في العلم به غير المراد فإنهما مستويان في نفي العلم به ، أو في العلم بأن الله استأثر به ، فتعين أن المراد استواؤهما في القدر الذي يعلمانه منه ، وهو نفس وجودها ، وهذا وقع بين عيسى وجبريل أيضا إلا أن عيسى كان سائلا وجبريل مسئولا فانتفض بأجنحته فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل . رواه الحميدي عن سفيان عن مالك بن مغول عن إسماعيل بن رجاء عن الشعبي .

فإن قلت : فلم سأل جبريل عن الساعة مع علمه بأنه لا يعلمها إلا هو ، وما التوفيق بين الآية ، وبين ما اشتهر عن العرفاء من الأخبار الغيبية كما قال الشيخ الكبير أبو عبد الله في معتقده ، ونعتقد أن العبد ينقل في الأحوال حتى يصير إلى نعت الروحانية فيعلم الغيب ، وتطوى له الأرض ، ويمشي على الماء ، ويغيب عن الأبصار ; فالجواب : أما عن الأول فلتنبيههم بذلك على أنه ليس له الجواب عما لا علم له به ، ولا الاستنكاف من قول لا أدري الذي هو نصف العلم كما نبههم مما له الجواب عنه مما قد سلف بحسن السؤال الذي هو نصف العلم فتم العلم بذلك ، وأما عن الثاني فلأن للغيب مبادئ ولواحق ، فمبادئه لا يطلع عليه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وأما اللواحق ، فهو ما أظهره على بعض أحبائه لوحة علمه ، وخرج ذلك عن الغيب المطلق ، وصار غيبا إضافيا ، وذلك إذ تنور الروح القدسية ، [ ص: 63 ] وازداد نوريتها ، وإشراقها بالإعراض عن ظلمة عالم الحس ، وتحلية مرآة القلب عن صدأ الطبيعة ، والمواظبة على العلم والعمل ، وفيضان الأنوار الإلهية حتى يقوى النور ، وينبسط في فضاء قلبه فتنعكس فيه النقوش المرتسمة في اللوح المحفوظ ، ويطلع على المغيبات ، ويتصرف في أجسام العالم السفلي ، بل يتجلى حينئذ الفياض الأقدس بمعرفته التي هي أشرف العطايا فكيف بغيرها ؟ ( قال : فأخبرني عن أماراتها ) : بفتح الهمزة جمع أمارة أي : علامة ، وفي رواية : عن أشراطها ، وهو جمع شرط بالفتح بمعنى العلامة ، والمراد شيء من علاماتها الدالة على قربها ، ولذا قيل أي : مقدماتها ، وقيل صغار أمورها . وفي رواية سأخبرك ، وفي أخرى ، وسأحدثك عن أشراطها ، وجمع بأنه ابتدأه بقوله ، وسأخبرك ، فقال السائل : فأخبرني ، ويدل عليه ما في رواية : ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها . قال : أجل . وفي رواية : فحدثني [ ( قال : ( أن تلد الأمة ربتها ) ] أي : من جملة علاماتها أو إحدى أماراتها ولادة الأمة مالكها ومولاها ، وقيل التقدير علاماتها ولادة الأمة ، ورؤية الحفاة فاحتاج إلى أن يقول أخبر عن الجمع باثنين ؛ لأنهما أقله كما عليه جمع ، وتأنيثها في هذه الرواية وإن ذكر في روايات أخر باعتبار التسمية ، ليشمل الذكور والإناث ، أو فرارا من شركة لفظ رب العباد ، وإن جوز إطلاقه على غيره تعالى بالإضافة دون التعريف ؛ لأنه من ألفاظ الجاهلية ، أو أراد البنت فيعرف الابن بالأولى ، والإضافة إما لأجل أنه سبب عتقها ، أو لأنه ولد ربها ، أو مولاها بعد الأب ، وفسر هذا القول كثير من الناس بأن السبي يكثر بعد اتساع رقعة الإسلام فيسترد الناس إماءهم ، فيكون الولد كالسيد لأمه لأن ملكها راجع إليه في التقدير ، وذلك إشارة إلى قوة الدين ، واستيلاء المسلمين ، وهي من الأمارات ؛ لأن بلوغ الغاية منذر بالتراجع والانحطاط المؤذن بقيام الساعة ، أو إلى أن الأعزة تصير أذلة لأن الأم مربية للولد مدبرة أمره فإذا صار الولد ربها سيما إذا كان بنتا ينقلب الأمر كما أن القرينة الثانية على عكس ذلك ، وهي أن الأذلة ينقلبون أعزة ملوك الأرض فيتلاءم المعطوفان ، وهذا إخبار بتغير الزمان ، وانقلاب أحوال الناس بحيث لا يشاهد قبله ، ويؤيده ما ورد من حديث أنه ( إذا ضيعت الأمانة ، ووسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) . وقيل : سمي ولدها سيدها ؛ لأن له ولاءها بإرثه له عن أبيه إذا مات ، أو أنه كسيدها لصيرورة مال أبيه إليه غالبا فتصير أمه كأنها أمته ، وقيل : معناه أن الإماء تلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته ، وأيد بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالبا من وطء الإماء ، ويتنافسون في الحرائر ، ثم انعكس الأمر سيما من أثناء دولة بني العباس ، ويقرب منه القول بأن السبي إذا كثر قد يسبى الولد صغيرا ، ثم يعتق ، ويصير رئيسا بل ملكا ، ثم يسبي أمه فيشتريها عالما أو جاهلا بها ثم يستخدمها ، وقد يطؤها أو يعتقها ويتزوجها ، وقيل معناه فساد الأحوال بكثرة بيع أمهات الأولاد فتردد في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها أو يطأها ، وهو لا يعلم ، ويؤيده رواية بعلها ، وإن فسر بسيدها ، وقيل معناه الإشارة إلى كثرة عقوق الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الخدمة وغيرها ، وخص بولد الأمة لأن العقوق فيه أغلب ، وعبر في رواية البخاري بإذا بدل أن المفتوحة إشارة إلى تحقق الوقوع ، ولذلك قالوا يقال : إذا قامت القيامة ، ولا يقال : إن بالكسر لأنه كفر لإشعاره بالشك . قال ابن حجر : وفي جزمهم بأن ذلك كفر نظر ، ويتعين حمله على من عرف هذا المعنى واعتقده ، وإلا فكثيرا ما يستعمل إن موضع إذ ، أو بالعكس لأغراض بينت في علم المعاني [ ( وأن ترى ) ] : خطاب عام ليدل على بلوغ الخطب في العلم مبلغا لا يختص به رؤية راء [ ( الحفاة ) ] : بضم الحاء جمع الحافي ، وهو من لا نعل له ، [ ( العراة ) ] : جمع العاري ، وهو صادق على من يكون بعض بدنه مكشوفا مما يحسن وينبغي أن يكون ملبوسا [ ( العالة ) ] : جمع عائل ، وهو الفقير من عال يعيل إذا افتقر ، أو من عال يعول إذا افتقر وكثر عياله ، [ ( رعاء الشاء ) ] : بكسر الراء ، والمد جمع راع كتاجر وتجار ، والشاء جمع شاة ، والأظهر أنه اسم جنس ، وفي رواية : الإبل البهم بضم الباء أي : السود ، وهو بجر الميم ورفعها ، وصفا للرعاة ، جمع بهيم ، فيكون كناية عن حالهم ، وأنه لا يعود لهم أصل من أبهم الأمر ، إذا لم يعرف حقيقته . وقال القرطبي : الأولى حمله على سواد اللون لأن الأدمة غالب ألوان العرب ، أو للإبل جمع بهماء إذ السود شرها عندهم ، وخيرها عندهم الحمر ، ومن ثم ورد : خير من حمر النعم ، وفي رواية البهم بفتح الباء ، ولا وجه له مع ذكر الإبل بل مع حذفه الذي هو رواية مسلم إذ هو جمع بهمة [ ص: 64 ] وهي صغار الضأن والمعز ، ورجحت هذه على تلك ؛ لأن رعاء الغنم أضعف أهل البادية بخلاف رعاء الإبل فهم أهل فخر وخيلاء . [ ( يتطاولون في البنيان ) ] أي : يتفاضلون في ارتفاعه وكثرته ويتفاخرون في حسنه وزينته ، وهو مفعول ثان إن جعلت الرؤية فعل البصيرة ، أو حال إن جعلتها فعل الباصرة ، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الفاقة تبسط لهم الدنيا ملكا ، أو ملكا فيتوطنون البلاد ، ويبنون القصور المرتفعة ، ويتباهون فيها ، فهو إشارة إلى تغلب الأراذل ، وتذلل الأشراف ، وتولي الرئاسة من لا يستحقها ، وتعاطي السياسة من لا يستحسنها ، كما أن قوله : أن تلد الأمة ربتها إشارة إلى عكس ذلك ، وقيل : كلاهما إشارة إلى اتساع دين الإسلام فيتناسب المتعاطفان في الكلام ، ولعل تخصيصهما لجلالة خطبهما ، ونباهة شأنهما ، وقرب وقوعهما ، ويحتمل أن تكون الأولى إيماء إلى كثرة الظلم والفسق والجهل وبلوغها مبلغ العليا ، والثانية إلى غلبة محبة الدنيا ، ونسيان منازل العقبى ، ويقال : تطاول الرجل إذا تكبر فلا يرد ما ذكره ابن حجر من قوله : التفاعل فيه بين أفراد العراة الموصوفين بما ذكر لا بينهم وبين غيرهم مما كان عزيزا فذل خلافا لمن وهم فيه ، وقال : المعنى أن أهل البادية العارين عن القيام بالديانة يسكنون البلاد ، ويتخذون القصور الرفيعة ، ويتكبرون على العباد والزهاد ، وحاصل الكلام أن انقلاب الدنيا من النظام يؤذن بأن لا يناسب فيها المقام فلا عيش إلا عيش الآخرة عند العقلاء الكرام ، كما أنشدت الملكة حرقة بنت النعمان لما سبيت ، وأحضرت عند سعد بن أبي وقاص :


فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

    فأف لدنيا لا يدوم نعيمها
تقلب تارات بنا وتصرف



فهنيئا لمن جعل الدنيا كساعة ، واشتغل فيها بالطاعة قياما بأمر الحبيب ، فإن كل ما هو آت قريب . قال تعالى : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ) ( قال ) أي : عمر ( ثم انطلق ) أي : السائل ( فلبثت ) أي : أنا . وفي رواية فلبث أي : هو ( مليا ) : بفتح الميم ، وتشديد الياء من الملاوة إذ المهموز بمعنى الغني أي : زمانا ، أو مكثا طويلا ، وبينته رواية أبي داود ، والنسائي ، والترمذي قال عمر : فلبثت ثلاثا ، وفي رواية للترمذي فلقيني النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث ، وفي أخرى فلبثت ليالي فلقيني النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث ، وفي أخرى لابن حبان بعد ثالثة ، وفي أخرى لابن منده بعد ثلاثة أيام ، وفي ورود هذه الروايات رد على من وهم أن رواية ثلاثا مصحفة من رواية مليا ، والمعنى أني لم أستخبر منه - عليه الصلاة والسلام - مهابة ، وفي شرح مسلم ، وهذا مخالف لرواية أبي هريرة من أنه - عليه الصلاة والسلام - ذكره في المجلس اللهم إلا أن يقال إن عمر لم يحضر في الحال بل قام فأخبر الصحابة ، ثم أخبر عمر بعد ثلاثة أيام ( ثم قال لي : ( يا عمر ! أتدري ) أي : أتعلم ، وفي العدول نكتة لا تخفى ( من السائل ؟ ) أي : ما يقال في جواب هذا بشر السؤال ( قلت : الله ورسوله أعلم ) : لأن الأمارات السابقة والتعجب أوقعهم في التردد أهو بشر أم ملك ، وهذا القدر يكفي في الشركة على أن اسم التفضيل كثيرا يراد به أصل الفعل من غير شركة . ( قال : ( فإنه جبريل ) أي : إذا فوضتم العلم إلى الله ، ورسوله فإنه جبريل على تأويل الأخبار أي : تفويضكم ذلك سبب للإخبار به ، وقرينة المحذوف قوله : الله ورسوله أعلم فالفاء فصيحة ; لأنها تفصح عن شرط محذوف ، وأكد الكلام لأن السائل طالب متردد ، وفي رواية ردوه فأخذوا ليردوه فما رأوا شيئا . قال القاضي : وجبريل ملك متوسط بين الله ورسله ، ومن خواص الملك أن يتمثل للبشر فيراه جسما . اهـ .

قيل : والسر في التوسط أن المكالمة تقتضي مناسبة بين المتخاطبين فاقتضت الحكمة توسط جبريل ليتلقف الوحي بوجهه الذي في عالم القدرة من الله سبحانه تلقفا روحانيا ، أو من اللوح ، ويلقيه بوجهه الذي في عالم الحكمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فربما ينزل الملك إلى صورة البشر ، وربما يرتقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد يرتقي إلى المرتبة الملكية ، ويتعرى عن الكسوة البشرية فيرد الوحي على القلب في لبسة الجلال ، وأبهة الكبرياء والكمال ، ويأخذ بمجامعه [ ص: 65 ] فإذا سري عنه وجده المنزل ملقى في الروع كما في المسموع ، وهذا معنى قوله أحيانا : ( يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي فيفصم عني ، وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " ، ثم جبريل بكسر الجيم وفتحها مع كسر الراء بعدها ياء ، وبفتحها وهمزة مكسورة مع ياء وتركها ، أربع لغات متواترات ، والأول أشهر وأكثر . [ ( أتاكم ) ] : استئناف بيان ، أو خبر لجبريل على أنه ضمير الشأن [ ( يعلمكم دينكم ) ] " : جملة حالية من الضمير المرفوع في أتاكم أي : عازما تعليمكم ، فهو حال مقدرة ؛ لأنه لم يكن وقت الإتيان معلما ، أو مفعول له بتقدير اللام كما في رواية ، والمراد تثبيتهم على علمهم ، وتقديره بطريق السؤال والجواب ليتمكن غاية التمكن في نفوسهم ؛ لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب ، وإسناد التعليم إليه مجاز ؛ لأنه السبب ، وأضاف الدين إليهم ؛ لأنهم المختصون بالدين القيم دون سائر الناس ، أو الخطاب مخصوص بالصحابة خصوصا ، أو عموما ، فإن سائر الناس يأخذون دينهم منهم رضي الله عنهم ، وفيه إيماء إلى أن الإيمان والإسلام والإحسان يسمى دينا فقوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) المراد به الكامل ، وكذا قوله عز وجل : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) وفي رواية : أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا ، وفي أخرى : والذي بعث محمدا بالحق ما كنت أعلم به من رجل منكم ، وبأنه لجبريل ، وفي أخرى : ثم ولى ، فلما لم ير طريقه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله هذا جبريل ، أتاكم ليعلمكم دينكم خذوا عنه فوالذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه ، وما عرفته حتى ولى " . ( رواه مسلم ) أي : عن عمر ، ورواه البخاري في كتاب الزكاة مع تغيير ، كذا قاله بعض شراح الأربعين ، وقال ابن حجر : ولم يخرجه البخاري عن عمر لاختلاف فيه على بعض رواته . وقال السيد جمال الدين : وقد رواه البزار في مسنده من طريق أنس بن مالك ، وأبو عوانة الإسفراييني في صحيحه من طريق جرير بن عبد الله البجلي ، والنسائي في سننه من طريق أبي ذر الغفاري ، وأحمد بن حنبل في مسنده من طريق ابن عباس ، وكل واحد من الطرق مشتمل على فوائد غزيرة ، وفوائد كثيرة لم توجد في طريق عمر ، وأبي هريرة ، وهذا حديث جليل سمي حديث جبريل ، وأم الأحاديث ، وأم الجوامع ؛ لأنه متضمن للشريعة ، والطريقة ، والحقيقة بيانا إجماليا على الوجه الأتم الذي علم تفاصيلها من السنن النبوية ، والشرائع المصطفوية على صاحبها ألوف التحية ، كما أن فاتحة الكتاب تسمى أم القرآن ، وأم الكتاب لاشتمالها على المعاني القرآنية ، والحكم الفرقانية بالدلالات الإجمالية ، فحديث : إنما الأعمال بالنيات بمنزلة البسملة ، وهذا الحديث بمنزلة الفاتحة المصدرة بالحمدلة ، وهذا وجه وجيه ، وتنبيه نبيه لاختيارها في صدر الكتاب ، ومفتح الأبواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية