صفحة جزء
[ ص: 3170 ] ( 19 ) باب الرفق والحياء وحسن الخلق

الفصل الأول

5067 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه " . رواه مسلم . وفي رواية له : قال لعائشة : " عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه " .


[ 19 ] باب الرفق والحياء وحسن الخلق

الرفق : بالكسر ضد العنف وهو المداراة مع الرفقاء ولين الجانب واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها ، وأما الحياء فقال الحكماء : هو تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يلام به . وقال الجنيد : حالة تتولد من رؤية الآلاء والتقصير في شكر النعماء . وقال ذو النون : الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك . وقال الدقاق : هو ترك الدعوى بين يدي المولى ، وأما حسن الخلق فقالوا : هو الإنصاف في المعاملة وبذل الإحسان والعدل في الأحكام ، والأظهر أنه هو الاتباع بما أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - من أحكام الشريعة وآداب الطريقة ، وأحوال الحقيقة ، ولذا لما سئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلقه عليه الصلاة والسلام الوارد في حقه " وإنك لعلى خلق عظيم " فقالت : كان خلقه القرآن تعني أن كل ما فيه من خصلة محمودة كان يتصف بها وكل فعلة مذمومة فيه يجتنب عنها ، ثم الاتباع بقدر المحبة وتوفيق المتابعة بأخذ كل سهمه ونصيبه وقد أشار إلى ذلك الشاطبي - رحمه الله - في وصفه للقراء :


أولو البر والإحسان والصبر والتقى حلاهم بها جاء القرآن مفصلا

.

الفصل الأول

5067 - ( عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله رفيق ) أي : لطيف بعباده ، يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، فيسامحهم ولا يكلف فوق وسعهم ، أو يحب أن يرفق العباد بعضهم بعضا كما بينه بقوله : ( يحب الرفق ) أي : يرضى به ويثني عليه ( ويعطي على الرفق ) أي : المثوبات والمآرب أو من الأغراض والمطالب ( ما لا يعطي على العنف ) : بالضم في القاموس هي مثلثة العين ضد الرفق ( وما لا يعطي على ما سواه ) أي : سوء الرفق ، وهو العنف ، ففي الكلام زيادة مبالغة وتأكيد للحكم ، والأظهر أن التقدير ما سوى الرفق من الخصال الحسنة . قال القاضي : والظاهر أنه لا يجوز إطلاق الرفيق على الله تعالى اسما لأنه لم يتواتر ولم يستعمل أيضا على قصد الاسمية ، وإنما أخبر عنه تمهيدا للحكم الذي بعده ، فكأنه قال : هو الذي يرفق عباده في أمورهم فيعطيهم بالرفق ما لا يعطيهم على ما سواه ، وإنما ذكر قوله وما لا يعطي على ما سواه بعد قوله : ما لا يعطي على العنف ، ليدل على أن الرفق أنجح الأسباب كلها وأنفعها بأسرها . قال الطيبي : وفي معناه قول الشاعر :


يا طالب الرزق الهني بقوة     هيهات أنت بباطل مشغوف
أكل العقاب بقوة جيف الفلا     ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف



والمعنى ينبغي للمرء أن لا يحرص في رزقه ، بل يكل أمره إلى الله تعالى الذي تولى القسمة في خلقه ، فالنسر يأكل الجيفة بعنفه ، والنحل يرعى العسل برفقه . قال التوربشتي : فإن قيل : فما معنى قوله عليه الصلاة والسلام : أنت رفيق والله الطبيب ؟ قلنا : الطبيب الحاذق بالشيء الموصوف ، ولم يرد بهذا القول نفي هذا الاسم عمن يتعاطى ذلك ، وإنما حول المعنى من الطبيعة إلى الشريعة ، وبين لهم أن الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله ، والمنان به على عباده وهذا كقوله : فإن الله هو الدهر : وليس الطبيب بموجود في أسماء الله تعالى ، ولا الرفيق ، فلا يجوز أن يقال في الدعاء يا طبيب ولا يا رفيق اهـ . وفيه إيماء إلى أنه يجوز أن يقال : هو الطبيب وهو رفيق على منوال ما ورد ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر كلامه عند خروجه من الدنيا : الرفيق الأعلى ، ويحتمل أن يراد به الله ، وأن يراد له الملأ الأعلى ، فمع الاحتمال لا يصح الاستدلال . وفي شرح مسلم للنووي ، قال المازري : لا يوصف الله سبحانه وتعالى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو أجمعت الأمة عليه ، وأما ما لم يرد به إذن في [ ص: 3171 ] إطلاقه ، ولا ورد منع ففيه خلاف ، منهم من قال يبقى على ما كان قبل ، وورود الشرع فلا يوصف به ، ولا يمنع منه ومنهم من منعه ، وبين الأصوليين خلاف في تسمية الله تعالى . بما ثبت بخبر الآحاد ، فقال بعضهم : يجوز لأن الخبر الواحد عنه يقتضي العمل به ، وبعضهم لا يجوز ذلك لأنه من باب العلميات فلا يثبت بالأقيسة ، وإن كانت يعمل بها في المسائل الفقهية العملية . قال النووي : والصحيح جواز تسمية الله تعالى رفيقا وغيره بما يثبت بخبر الواحد ( رواه مسلم ) : وفي الجامع الصغير : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف . رواه البخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود في جامعه عن عبد الله بن مغفل ، وابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة ، وأحمد في مسنده ، والبيهقي في شعب الإيمان عن علي ، والطبراني عن أبي أمامة ، والبزار عن أنس ، فكاد الحديث أن يكون متواترا عند بعضهم .

( وفي رواية له ) أي : لمسلم ( قال لعائشة : عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ) أي : المتولد منه ( إن الرفق ) : استئناف بيان ( لا يكون ) أي : لا يوجد ( في شيء ) أي : من الذوات والأعراض ( إلا زانه ) أي : زينه وكمله ( ولا ينزع ) : بصيغة المجهول أي : لا يفقد ولا يعدم ( من شيء إلا شانه ) أي : عيبه ونقصه قال الطيبي ، قوله : ( يكون ) يحتمل أن تكون تامة ، و ( في شيء ) متعلق بها ، وأن تكون ناقصة و ( في شيء ) خبر كان ، فالاستثناء مفرغ . من أعم عام وصف الشيء ، أي : لا يكون الرفق مستقرا في شيء يتصف بوصف من الأوصاف إلا بصفة الزينة . وفي الجامع الصغير : عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش رواه البخاري في الأدب المفرد ، عن عائشة ، وروى مسلم عن عائشة : عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء الحديث والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية