صفحة جزء
[ ص: 3187 ] [ 20 ] باب الغضب والكبر

الفصل الأول

5104 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني . قال : " لا تغضب " . فردد ذلك مرارا قال : " لا تغضب " . رواه البخاري .


[ 20 ] باب الغضب والكبر

قال بعض المحققين : الغضب فوران دم القلب أو عرض يتبعه ذلك لدفع المؤذيات ، وللانتقام بعد وقوعها . فإطلاقه على الله كما في حديث رواه الترمذي وغيره : " من لم يسأل الله يغضب عليه " مجاز أي : يفعل به ما يفعل الملك إذا غضب على من تحت يده من الانتقام لإنزال العقوبة ، وأما الكبر فقال الراغب : هو الحالة التي يتخصص بها الإنسان من إعجاب نفسه بأن يرى نفسه أكبر من غيره ، وأعظمه الامتناع عن قبول الحق عن الله تعالى والإذعان للعبادة ، والاستكبار على وجهين . أحدهما : أن يتحرى الإنسان أن يصير كبيرا ، وذلك متى كان على ما يحب فهو المحمود ، والثاني : أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له فهو المذموم كقوله : أبى واستكبر والمتكبر أيضا على وجهين ، إما محمود وهو أن تكون أفعاله الحسنة كثيرة زائدة في الحقيقة على محاسن غيره ، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر في قوله تعالى : العزيز الجبار المتكبر أو مذموم ، وذلك إذا كان متكلفا متشبعا لذلك ، وهذا وصف عامة الناس نحو قوله تعالى : فبئس مثوى المتكبرين وقال الغزالي : الكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن ، فإذا ظهر على الجوارح يقال تكبر ، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر ، فالأصل هو الخلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه ، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ليرى نفسه فوقه في صفات الكمال ومتكبرا به ، وبه يفصل الكبر عن العجب ، فإن العجب لا يستدعي غير المعجب به ، بل لو لم يخلق إلا وحده تصور أن يكون معجبا ، ولا يتصور أن يكون متكبرا .

الفصل الأول

5104 - ( عن أبي هريرة أن رجلا ) : هو ابن عمر أو حارثة بن قدامة أو سفيان بن عبد الله ( قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ) أي : أرشدني بخصوصي إلى عموم ما ينفعني دينا ودنيا ويقربني إلى الله زلفى ( قال : " لا تغضب " فردد ) أي : الرجل السؤال وهو المشار إليه لذلك على ما في بعض النسخ ( مرارا ) أي : ثلاثا أو مرة بعد أخرى رجاء أن يضم معه إيصاء آخر ( قال : لا تغضب ) : قال بعض المحققين : الغضب من نزعات الشيطان يخرج به الإنسان عن حد الاعتدال صورة وسرة حتى يتكلم بالباطل ويفعل المذموم شرعا وعرفا ، وينوي الحقد والبغض وغير ذلك من القبائح التي كلها من أثر سوء الخلق ، بل قد يكفر ، ولهذا قال : لا تغضب وأصر عليه مع إلحاح السائل مريدا للزيادة أو التبديل فكأنه قال له : حسن خلقك ، وهو من جوامع الكلم ، فالحديث من بدائع الكلم ، ثم علاجه معجون مركب من العلم والعمل بأن يرى الكل من الله ، ويذكر نفسه أن غضب الله أعظم وفضله أكثر ، وكم خالف أمره ولم يغضب عليه ، ويتعوذ ويتوضأ ويشغل نفسه بشيء . قال التوربشتي : قد كان - صلى الله عليه وسلم - مكاشفا بأوضاع الخلق عارفا بأدوائهم يضع الهنا موضع النقب يأمرهم بما هو أولى بهم ، فلما استوصاه الرجل وقد رآه مملوءا بالقوة الغضبية لم ير له خيرا من أن يتجنب عن دواعي الغضب ويزحزح نفسه عنه . وقال القاضي : لعله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان وتعتريه إنما تعرض له من فرط شهوته واستيلاء غضبه ، والشهوة مكثورة بالنسبة إلى ما يقتضيه الغضب غير ملتفت إليها ، فلما سأله الرجل أن يشير إليه ما يتوسل به إلى التجنب عن القبائح والتحرز عن مظانها نهاه عن الغضب الداعي إلى ما هو أعظم ضررا وأكثر وزرا ، فإن ارتفاع السبب يوجب ارتفاع مسبباته لا محالة .

قلت : هو كلام حسن وبيان مستحسن إلا أن التحقيق أن مدار الغضب على شهوة النفس ، فإن الإنسان لا يغضب غضبا مذموما إلا بتوهم فوت شهوة له أو بعد تحقق فرقا ، ولهذا ترى كل ما كان شهوته أكثر كالملوك والأمراء يكون غضبه أكبر ، ويجب عنه الحذر ، ويؤيده الحديث الذي يليه ( رواه البخاري ) : وكذا أحمد والترمذي عن أبي هريرة وأحمد والحاكم عن حارثة بن قدامة ، ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن رجل ولفظه : لا تغضب ، فإن الغضب مفسدة . وفي رواية لابن أبي الدنيا ، والطبراني عن أبي الدرداء : لا تغضب ولك الجنة .

[ ص: 3188 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية