صفحة جزء
5158 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " . رواه مسلم .


5158 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) أي : كالسجن للمؤمن في جنب ما أعد له في الآخرة من الثواب والنعيم المقيم ، وكالجنة للكافر في جنب ما أعد له في الآخرة من العقوبة والعذاب الأليم ، وقيل : إن المؤمن عرض نفسه عن الملاذ وأخذها بالشدائد ، فكأنه في السجن ، والكافر فرجها بالشهوات فهي له كالجنة ، كذا ذكر في الفائق . ويؤيد القول الأخير ما قاله فضيل بن عياض : من ترك لذات الدنيا وشهواتها فهو في سجن ، فأما الذي لا يترك لذاتها وتمتعاتها فأي سجن عليه ؟ وأقول : الظاهر أن مراتب السجن ومنازله مختلفة باختلاف أحوال أهله ، مع أن لا يخلو أحد من ضيق التكاليف الشرعية من ارتكاب الواجبات الفعلية ، واجتناب الأمور المنهية ، وكذا من مشقات الأحوال الكونية من البرد والحر في الصيف والشتاء والبلاء والغلاء وموت الأحباء وغلبة الأعداء ، وأمثال ذلك من ابتداء خلق النطفة وأطوارها في مشيمة البطن إلى الظهور في المهد والبطون في اللحد ، وما بينهما من أنواع الكد والكبد ، ولذا قال تعالى لقد خلقنا الإنسان في كبد أي : لا يزال في تعب عظيم مبدؤه ظلمة الرحم ومضيقه ، ومنتهاه الموت وما بعده إلى أن يكون ما بعده هذا السجن ، إما إلباس الخلع السلطانية والقرار في المناصب العلية ، وإما تسليط الزبانية بموجب الغضب الإلهي عليه ، ونقله من السجن السهل الفاني إلى الحبس الصعب الباقي ، نعوذ بالله من ذلك .

ولما مات داود الطائي سمع هاتف يهتف : أطلق داود من السجن . قال أبو حفص السهروردي : إن السجن والخروج منه يتعاقبان على قلب العبد المؤمن على الساعات ومرور الأوقات ; لأن النفس كلما ظهرت بصفاتها أظلم الوقت على [ ص: 3227 ] القلب حتى ضاق ، وانكمد ، وهل السجن إلا تضييق وحجز من الخروج والولوج ، فكلما هم القلب بالتبرؤ عن مشائم الأهواء الدنيوية ، والتخلص عن قيود الشهوات العاجلة تسببا إلى الآجلة ، وتنزها في فضاء الملكوت ، ومشاهدة للجمال الأزلي حجزه الشيطان المردود من هذا الباب المطرود بالاحتجاب ، فيدلى بحسب النفس الأمارة إليه ، فكدر صفو العيش عليه ، وحال بينه وبين محبوب طبعه ، وهذا من أعظم السجون وأضيقها ، فإن من حيل بينه وبين محبوبه ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه ، ولهذا المعنى أخبر الله تعالى عن جماعة من الصحابة حيث تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الغزوات ، فقال تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت الآية . ( رواه مسلم ) : وكذا أحمد والترمذي ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، والطبراني والحاكم عن سلمان ، والبزار عن ابن عمر ، ورواه أحمد والطبراني وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن ابن عمرو بن العاص ، ولفظه : " الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة " . والسنة : بفتح أوله القحط والجدب . وأخرج ابن المبارك عن ابن عمرو قال : ( إن الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن ، وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها ) . وأخرجه ابن أبي شيبة عنه نحوه ، وأخرج أبو نعيم عن ابن عمر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر : ( يا أبا ذر ! إن الدنيا سجن المؤمن ، والقبر أمنه ، والجنة مصيره . يا أبا ذر ! إن الدنيا جنة الكافر ، والقبر عذابه ، والنار مصيره ) . وروى ابن لال عن عائشة : الدنيا لا تصفو لمؤمن ، كيف وهي سجنه وبلاؤه .

التالي السابق


الخدمات العلمية