صفحة جزء
5189 - وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ من الصلاة ، أحسن عبادة ربه ، وأطاعه في السر ، وكان غامضا في الناس ، لا يشار إليه بالأصابع ، وكان رزقه كفافا ، فصبر على ذلك " ثم نقد بيده فقال : ( عجلت منيته ، قلت بواكيه ، قل تراثه ) . رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه .


5189 - ( وعن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " أغبط أوليائي " ) : أفعل تفضيل بني للمفعول ; لأن المغبوط به حاله أي : أحسنهم حالا وأفضلهم مآلا ( " عندي " ) أي : في ديني ومذهبي ( " لمؤمن " ) : اللام زائدة في خبر المبتدأ للتأكيد ، أو هي للابتداء ، أو المبتدأ محذوف أي : لهو مؤمن ( " خفيف الحاذ " ) : بتخفيف الذال المعجمة أي : خفيف الحال الذي يكون قليل المال ، وخفيف الظهر من العيال ، فيتمكن من السير في طريق الخالق بين الخلائق ، ولا يمنعه شيء من العلائق والعوائق ، ومجمل المعنى أحق أحبائي وأنصاري عندي بأن يغبط ويتمنى حاله مؤمن بهذه الصفة ( " ذو حظ من الصلاة " ) أي : ومع هذا هو صاحب لذة وراحة من المناجاة مع الله والمراقبة واستغراق في المشاهدة ، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " قرة عيني في الصلاة " وأرحنا بها يا بلال " أي : بوجودها وحصولها ، وما أقرب الراحة من قرة العين ، وما أبعدها مما قيل معناه : أذن بالصلاة لنستريح بأدائها من شغل القلب بها وقوله : ( " أحسن عبادة ربه " ) : تعميم بعد تخصيص ذكره الطيبي رحمه الله ، أو الأول إشارة إلى الكمية ، والثاني عبارة عن الكيفية ( " وأطاعه في السر " ) أي : كما أطاعه في العلانية فهو من باب الاكتفاء والتخصيص ، لما فيه من الاعتناء ، وجعله الطيبي عطف تفسير على أحسن وتفسيرنا أحسن ، ويمكن أن يكون المعنى : وأطاعه في عبادته بالإخفاء ، ولا يظهر طاعته في الملأ الأعلى على عادة الملامتية من الصوفية ، ويناسب قوله : ( " وكان غامضا " ) أي : خاملا خافيا غير مشهور ( " في الناس " ) أي : فيما بينهم ، وفيه إشارة إلى أنه لا يخرج عنهم ، فإن الخروج عنهم يوجب الشهرة بينهم ، وفيه إيماء إلى أن المراد بالناس عمومهم ، فلا يضره معرفة خصوصهم من الأولياء والصلحاء ممن يصاحبهم كما يدل عليه قوله : ( " لا يشار إليه بالأصابع " ) أي : علما وعملا ، وهو بيان وتقرير لمعنى الغموض ( " وكان رزقه كفافا " ) أي : قدر كفايته بحيث يكفه ويمنعه عن الإجناح إلى الكافة ، ( " فصبر على ذلك " ) أي : على الرزق الكفاف ، أو على الخمول والغموض ، أو على ما ذكر دلالة على أنه ملاك الأمر الصبر ، وبه يتقوى على الطاعة . قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وقال : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا وقال : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ( ثم نقد ) : بالنون والقاف والدال المهملة المفتوحة ( بيده ) أي : نقد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده بأن ضرب إحدى أنملتيه على الأخرى ، حتى سمع منه صوت ، وفي النهاية : هو من نقدت الشيء بأصبعي أنقده واحدا بعد واحد نقد الدراهم ، ونقد الطائر الحب إذا لقطه واحدا بعد واحد ، وهو مثل النقر ويروى بالراء اه . وهو كذلك في نسخة أي : صوت بأصبعه ، وفي رواية وهي الظاهر من جهة المعنى [ ص: 3249 ] جدا ثم نفض يده . ( فقال : " عجلت " ) : بصيغة المجهول من باب التفعيل ( " منيته " ) أي : موته ( " قلت بواكيه " ) : جمع باكية وهي المرأة التي تبكي على الميت ( " قل تراثه " ) أي : ميراثه وماله المؤخر عنه مما يورث حمل على سبيل التعداد . قال التوربشتي رحمه الله : أريد بالنقد ههنا ضرب الأنملة على الأنملة ، وضربها كالمتقلل للشيء أي : لم يلبث قليلا حتى قبضه الله تعالى يقلل مدة عمره وعدد بواكيه ومبلغ تراثه ، وقيل : الضرب على هذه الهيئة يفعله المتعجب من الشيء ، أو من رأى ما يعجبه حسنه ، وربما يفعل ذلك من يظهر قلة المبالاة بشيء أو يفعل طربا وفرحا بالشيء اه .

والمعنى من كان هذه صفته ، فهو يتعجب من حسن حاله وجمال مآله ، وقيل ، قوله : عجلت منيته أنه يسلم روحه سريعا لقلة تعلقه بالدنيا ، وغلبه شوقه إلى المولى لحديث " الموت تحفة المؤمن " . قال الأشرف رحمه الله : ويمكن أنه أراد به أنه قليل مؤن الممات ، كما كان قليل مؤن الحياة . ( رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ) : وفي الجامع : رواه أحمد ، والترمذي ، والحاكم ، والبيهقي ، عن أبي أمامة ولفظه : " أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة ، وكان رزقه كفافا فصبر عليه حتى يلقى الله ، وأحسن عبادة ربه وكان غامضا في الناس ، عجلت منيته ، وقل تراثه ، وقل بواكيه " . وروى الديلمي في مسنده عن حذيفة : " خيركم في المائتين كل خفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد " قال شيخ مشايخنا السخاوي في المقاصد الحسنة في الأحاديث المشهورة على الألسنة : علته داود ، ولذا قال الخليل : ضعفه الحفاظ فيه وخطئوه اه .

فإن صح فهو محمول على جواز الترهب أيام الفتن ، وفي معناه أحاديث كثيرة واهية :

منها : ما رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث ابن مسعود : " سيأتي على الناس زمان تحل فيه العزبة ولا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق ، ومن حجر إلى حجر كالطائر بفراخه ، وكالثعلب بأشباله ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة واعتزل الناس إلا من خير " الحديث . ومنها : ما روى الديلمي من حديث زكريا بن يحيى الصوفي ، عن ابن حذيفة ابن اليمان ، عن أبيه حذيفة مرفوعا : " خير نسائكم بعد ستين مائة العواقر ، وخير أولادكم بعد أربع وخمسين البنات " . وفي الترمذي من طريق علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا : إن أغبط أوليائي " إلى أن قال : " فصبر على ذلك " ثم نفض يده فقال : " عجلت منيته " الحديث . وقال عقبة : علي ضعيف ، وقد أخرجه أحمد والبيهقي في الزهد ، والحاكم في الأطعمة من مستدركه وقال : هذا إسناد للشاميين صحيح عندهم ولم يخرجاه اه .

ولم ينفرد به علي بن يزيد فقد أخرجه ابن ماجه في الزهد من سننه من غير طريقه من حديث صدقة بن عبد الله ، عن إبراهيم بن قرة ، عن أيوب بن سليمان ، عن أبي أمامة ولفظه : " أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ " وذكر نحوه ، ومن شواهده ما للخطيب وغيره من حديث ابن مسعود رفعه : " إذا أحب الله العبد اقتناه لنفسه ولم يشغله بزوجة ولا ولد " . وللديلمي من حديث عبد الله بن عبد الوهاب رحمهم الله الخوارزمي ، عن داود بن غفال ، عن أنس رفعه : " يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدكم جرو كلب خير له من أن يربي ولدا من صلبه " .

التالي السابق


الخدمات العلمية