صفحة جزء
518 - وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك . قال المغيرة : فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط ، فحملت معه إداوة قبل الفجر ، فلما رجع أخذت أهريق على يديه من الإداوة ، فغسل يديه ووجهه ، وعليه جبة من صوف ، ذهب يحسر عن ذراعيه ، فضاق كم الجبة ، فأخرج يديه من تحت الجبة ، وألقى الجبة على منكبيه ، وغسل ذراعيه ، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة ، ثم أهويت ، لأنزع خفيه ، فقال : " دعهما ; فإني أدخلتهما طاهرتين " فمسح عليهما ، ثم ركب وركبت ، فانتهينا إلى القوم ، وقد قاموا إلى الصلاة ، ويصلي بهم عبد الرحمن بن عوف ، وقد ركع بهم ركعة ، فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر ، فأومأ إليه ، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين معه ، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم وقمت معه ، فركعنا الركعة التي سبقتنا . رواه مسلم .


518 - ( وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ) قيل : تبوك غير منصرف للعلمية والتأنيث لا وزن الفعل ، وإن جعل اسم الموضع جاز صرفه - يعني التأنيث - باعتبار البقعة أو البلدة ، وقوله : " لا وزن " الفعل فيه نظر ، ولعله أراد أن وزنه فعول لا تفعل ، لكنه خلاف المفهوم من القاموس والنهاية . ( قال المغيرة : فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في القاموس : برز بروزا أي : خرج إلى البراز كتبرز ، وفي النهاية البراز بالفتح اسم للفضاء الواسع ، فكنوا به عن قضاء الغائط كما كنوا عنه بالخلاء ; لأنهم كانوا يتبرزون في الأمكنة الخالية من الناس ، وبالكسر كناية عن الغائط اهـ . وعلى كل فلا معنى لقول ابن حجر أي : خرج إلى التبرز وهو قضاء الحاجة ، بل معنى تبرز هنا خرج وذهب على التجريد ; لقوله : ( قبل الغائط ) : بكسر القاف وفتح الباء أي : جانبه لقضاء الحاجة ، والغائط هو المكان المنخفض من الأرض .

[ ص: 474 ] قال ابن حجر : الغائط في الأصل المكان المطمئن من الأرض يقضى فيه الحاجة ، سمي باسم الخارج للمجاورة ، وإن أريد الحقيقة فواضح ، والتقدير : خرج للتبرز نحو المكان المذكور ، أو المجاورة ، فالتقدير خرج للتبرز لأجل الغائط اهـ . وفيه مع ركاكة عبارته - خرج للتبرز لأجل الغائط - المنافية لما سبق عنه أن يمنع من إرادة المجاور قوله : قبل الغائط ، فتأمل ( فحملت ) أي : ذاهبا ( معه إداوة ) بكسر الهمزة : مطهرة أو ركوة ; ليتوضأ منها ، وكان خروجه عليه الصلاة والسلام لقضاء الحاجة ( قبل الفجر ) وفيه دليل على استحباب المبادرة إلى تهيؤ أسباب العبادة قبل دخول أوقاتها ، ( فلما رجع ) أي : من قضاء الحاجة ( أخذت ) أي : شرعت ( أهريق ) : بضم الهمزة وفتح الهاء وتسكن أي : أصب الماء ( على يديه ) الكريمتين ( من الإداوة ) فيه دلالة على جواز الاستعانة في الطهارة ، سيما إذا أريد بها الإفادة والاستفادة ( فغسل يديه ) أي : كفيه ( ووجهه ) : الوجيه ، ولا دلالة فيه على عدم وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء كما زعم ابن حجر ; لاحتمال عدم ذكره لهما إما اختصارا أو نسيانا أو لكونهما داخلين في حد الوجه من وجه على ما حققه في محله ومع تحقق الاحتمال لا يصح الاستدلال ( وعليه ) أي : على بدنه ، والواو للحال ( جبة من صوف ) فيه دليل على أن لبس الصوف مستحب ( ذهب ) أي : شرع وأخذ ، وهو استئناف ، ولا يبعد أن يكون حالا من الضمير المجرور ( يحسر ) بكسر السين وضمها أي : يكشف كميه ( عن ذراعيه ) أي : ليغسلهما ( فضاق كم الجبة ) بحيث لم يقدر أن يخرج يده إلى المرفق عن كم الجبة من غاية ضيقه ، فيه رد على إطلاق بعض الفقهاء أن لبس الإنسان غير زي أهل إقليمه يسقط المروءة ، ولذا قيل : محله فيمن لم يلبسه لحاجة ، أو لم يقصد التأسي بالسلف في عدم التكلف ، وترك النظر إلى هيئات العادات ، فإن ذلك أمر حدث فأناطوا به حكمه حيث لا حاجة ، ولا قصد للتأسي ، وإلا فقد قالت الصوفية : الإرادة ترك العادة ، نعم لو غير زيه على جهة عدم المبالاة الدالة على قلة الحياء وعدم التقييد بشيء من الأمور الشرعية والقواعد العرفية ، فيحكم بسقوط مروءته وعدم عدالته ، كما هو مقرر في محله ، ومنها الأكل في السوق .

وفي الحديث : أن الأصل فيما يجلب من بلاد المجوس ونحوهم من المتدنسين بالنجاسة الطهارة كالجوخ ، وإن اشتهر أنهم يعملونه بشحم الخنزير ، وكالجبن وإن قيل : إنهم يجعلون فيه أنافح الخنزير ، ويدل لذلك خبر أحمد ، أن عمر أراد أن ينهى عن حلل الحيرة ; لأنها تصبغ بالبول ، فقال له أبي : ليس لك ذلك ; قد لبسهن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبسناهن معه ، وفي رواية للخلال من وجه آخر : أن أبيا قال له : يا أمير المؤمنين ، قد لبسها نبي الله ، ورأى الله مكانها ، لو علم الله أنها حرام لنهى عنها . فقال : صدقت .

وروى الطبراني بسند جيد ، لكنه غريب ، أنه عليه الصلاة والسلام أتي بجبنة في غزوة فقال له عليه الصلاة والسلام : " أين يصنع هذا ؟ قال : بفارس ، أي : أرض المجوس إذ ذاك . فقال عليه الصلاة والسلام : " ضعوا فيها السكين وكلوا " فقيل : يا رسول الله ، نخشى أن يكون ميتة . فقال " سموا الله وكلوا . وأخرج الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم أهدي له خفان فلبسهما ، ولا يعلم أهما ذكيا أم لا ؟ وفي حديث سلمان : النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء ، مع أنهما كانت تجلب من بلاد المجوس ، وذكر عند عمر الجبن ، وقيل : إنه يوضع فيه أنافح الميتة . فقال : سموا الله وكلوا . قال أحمد : أصح حديث في جبن المجوس هذا الحديث . ( فأخرج يديه من تحت الجبة ، وألقى الجبة ) أي : ذيلها ( على منكبيه ) فيه دليل على أنه كان تحته إزار أو قميص ، وإلا لظهرت العورة ( فغسل ذراعيه ، ثم مسح بناصيته ) وهي مقدرة بربع الرأس لما جاء في رواية : أنه مسح على مقدم رأسه ( وعلى العمامة ) بكسر العين ، في رحمة الأمة في اختلاف الأئمة : أن المسح على العمامة دون الرأس بغير عذر لا يجوز عند أبي حنيفة والشافعي ومالك ، وقال أحمد بجوازه ; بشرط أن يكون تحت الحنك منها شيء . قال ابن حجر : فيه أن مسح الرأس في الوضوء لا يجب استيعابه ولا استيعاب ربعه ; لأن الناصية دونه بكثير . قلنا : قدر الناصية بالربع ، وعلى [ ص: 475 ] سليم صحة منعه كان الواجب أن يقدر بمقدار معلوم كما قدره بعض أئمتنا بثلاث أصابع ; لأنها أقل ما اكتفى به عليه الصلاة والسلام لبيان الجواز مع استيعاب المسح بالمواظبة في سائر الحالات ، فلو كان أقل منه جائزا لفعله ولو مرة ، فالتقدير بمسمى - مسح وإن قل قدره - مخالف لظاهر النصوص ، وقول ابن حجر : إن ادعاء القائل باستيعاب الكل أن المسح على العمامة يحتمل أنه كان لعذر ، يرد بأن العذر لا يثبت بالاحتمال مدفوع بأنه عليه الصلاة والسلام لما كان مواظبا على الاستيعاب ، وهنا جمع بين مسح البعض من الرأس وبين مسحه على العمامة تكميلا للاستيعاب كان قرينة دالة على العذر ، لكنه إنما يتم لو لم يقع له مسح على بعض الرأس بدون مسح العمامة ، وقد ثبت في روايات متعددة والله تعالى أعلم . هذا ، وقال محمد في موطئه : أخبرنا مالك قال : بلغني عن جابر أنه سئل عن العمامة فقال : لا ، حتى يمس الشعر الماء ، ثم قال : وأخبرنا مالك عن نافع قال : رأيت صفية ابنة أبي عبيد توضأت ونزعت خمارها ، ثم تمسح برأسها . قال نافع : وأنا يومئذ صغير . قال محمد : بلغنا أن المسح على العمامة كان فترك ، ( ثم أهويت ) أي : قصدت الهوي من القيام إلى القعود ، وقيل : الإهواء إمالة اليد إلى شيء ليأخذه ، أي : انحنيت ( لأنزع خفيه ) ظنا أنه يجب غسل الرجلين في مطلق الأحوال ( فقال : " دعهما " ) أي : اتركهما ولا تنزعهما عن رجلي ( فإني أدخلتهما ) أي : لبستهما حال كون قدمي ( طاهرتين ) وفي رواية : فإني أدخلتهما وهما طاهرتان .

قال الشمني : ليس فيه دلالة لما ذهب إليه الشافعي من اشتراط الطهر بكونه تاما وقت اللبس ، إذ معناه : أدخلت كلا منهما وهي طاهرة ، على حد : دخلنا البلد ركبانا ; أي : دخل كل منا وهو راكب ، لا أن جميعنا راكب عند دخول كل منا اهـ .

والحاصل أن في مذهب الشافعي يشترط أن توجد الطهارة كاملة عند اللبس ، وفي مذهب أبي حنيفة عند الحدث ، ولهذا الاختلاف فروع محلها كتب الفقه . ( فمسح عليهما ) وفي نسخة ابن حجر : فمسح بهما ، وهو مخالف للنسخ المصححة ، واختلفوا في قدر الإجزاء ، فقال أبو حنيفة : يجزئه قدر ثلاثة أصابع ، وقال الشافعي : ما يقع عليه اسم المسح ، وقال أحمد : مسح الأكثر ، وقال مالك بالاستيعاب ( ثم ركب ) صلى الله عليه وسلم ( وركبت ) يعني : فسرنا ( فانتهينا ) أي : وصلنا ( إلى القوم ، وقد قاموا إلى الصلاة ) أي : صلاة الصبح ، جملة حالية ( ويصلي بهم ) أي : والحال أنه يصلي بهم إماما لهم ( عبد الرحمن بن عوف ، وقد ركع ) أي : صلى بهم ( ركعة ، فلما أحس ) أي : علم ( بالنبي ) أي : بمجيئه ( صلى الله عليه وسلم ذهب ) شرع ( يتأخر ) من موضعه ; ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ( فأومأ ) بالهمز ( إليه ) أي : أشار إليه عليه الصلاة والسلام أن يكون على حاله ( فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين معه ) أي : مقتديا به يعني : اقتدى به في الركعة الثانية ، وفيه دليل على جواز اقتداء الأفضل بالمفضول إذا علم أركان الصلاة ، وعلى عدم اشتراط العصمة للإمام خلافا للإمامية ، ( فلما سلم ) أي : الإمام ( قام النبي صلى الله عليه وسلم ) لأداء ما سبق ( وقمت معه ) أي : لأني كنت مسبوقا أيضا . قال ابن حجر : ويؤخذ منه ما قاله أئمتنا أن المسبوق لا يجوز له القيام إلا بعد سلام الإمام ، فإن قام قبله بلا نية مفارقة عمدا عالما بطلت صلاته ، أو جاهلا أو ناسيا يجب جميع ما أتى به اهـ .

وقال علماؤنا : يكره كراهة تحريم أن يقوم إلى قضاء ما سبق قبل سلام الإمام ، إلا أن يكون القيام لضرورة صون صلاته عن الفساد كما إذا خشي إن انتظره أن تطلع الشمس قبل تمام صلاته في الفجر ، فإن قام قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد ; فإن كان مسبوقا بركعة إن وقع من قراءته بعد فراغ الإمام من التشهد مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته ، وإلا فسدت صلاته ; لأن قيامه وقراءته قبل فراغ الإمام من التشهد لا يعتبر ، وهذه مسألة يفعلها الجاهلون ، والناس عنها غافلون . ( فركعنا ) أي : صلى كل منا ( الركعة التي سبقتنا ) أي : فاتتنا .

[ ص: 476 ] قال النووي : في الأصول بفتح السين والباء والقاف ، وبعدها تاء مثناة من فوق ساكنة أي : وجدت قبل حضورنا ، وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته هذه ، وتأخر أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في صلاته في حديث آخر ; ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، فالفرق بينهما أن قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة ، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم ، بخلاف قضية أبي بكر ، نعم وقع لأبي بكر أنه مع الإشارة له بعدم التأخر تأخر ، ولعبد الرحمن أنه لم يتأخر ، فإما أن يقال بنظير ذلك من أن عبد الرحمن تذكر أن تأخره يضر بالقوم فلم يفعله ، وأبا بكر علم أنه لا ضرر في تأخره فتأخر ، وإما أن يقول - وهو الأحسن - : أن أبا بكر فهم أن سلوك الأدب أولى من امتثال الأمر بخلاف عبد الرحمن ، فإنه فهم أن امتثال الأمر أولى ، ولا شك أن الأول أكمل ; لأن الكلام في أمر علم بالقرائن أنه لرعاية حال المأمور دون الآمر ، ففي الامتثال إيهام إخلال بكمال الأدب مع الآمر ، وإن كان في الامتثال أدب أي أدب ، وفي إيثار الأدب إظهار رعاية حال الأمر ، والإعراض عن حال المأمور بكل وجه ، فكان هذا أولى وأكمل ، وقد يقال : إن أبا بكر من الفرح لم يملك نفسه عن التأخر ، وللمبالغة في امتناعه عن التقدم ، والله أعلم .

وجاء في رواية : أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم بعد الفراغ منها : " أحسنتم ، صلوا الصلاة لوقتها " يعني لا تؤخروها بعد دخول وقت الاختيار لانتظار الإمام ، وإنما يستحب ترك انتظاره إذا مضى زمان كثير إن لم يعلموا أنه متى يجيء ، أما إذا علموا فيستحب الانتظار ، وإن كان موضع الإمام قريبا من المسجد يستحب إعلامه وقت الصلاة . ( رواه مسلم ) وروى البخاري أصل الحديث في اللباس وفي غيره ، ولم يذكر المسح على الناصية في كتابه ، ولا ذكر المسح على العمامة من حديث المغيرة ، ولا ذكر في كتابه صلاة عبد الرحمن بن عوف بالناس ، ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كذا ذكره ميرك شاه .

التالي السابق


الخدمات العلمية