صفحة جزء
5287 - وعن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ثلاث أقسم عليهن ، وأحدثكم حديثا فاحفظوه ، فأما الذي أقسم عليهن فإنه ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله بها عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر . وأما الذي أحدثكم فاحفظوه " فقال : " إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل رحمه ، ويعمل لله فيه بحقه ، فهذا بأفضل المنازل . وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا ، فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان ، فأجرهما سواء . وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما ، فهو يتخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعمل فيه بحق ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما ، فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو نيته ووزرهما سواء " . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث صحيح .


5287 - ( وعن أبي كبشة الأنماري ) : قال المؤلف : هو عمرو بن سعيد نزل الشام ، روى عنه سالم بن أبي الجعد ، ونعيم بن زياد ( أنه سمع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : " ثلاث " ) أي : من الخصال ( " أقسم " ) أي : أحلف ( " عليهن ، وأحدثكم " ) : عطف على قوله " ثلاث " بحسب المعنى ، فكأنه قال : أخبركم بثلاث أؤكدهن بالقسم عليهن ، وأحدثكم ( " حديثا " ) أي : تحديثا عظيما أو بحديث آخر ( " فاحفظوه " ) أي : الأخير أو المجمع ، ومما يدل على ما اخترناه من التقدير المذكور والتحرير المسطور قوله : ( " فأما الذي أقسم عليهن " ) أي : الذي أخبركم بثلاث وأحلف عليهن ، هو هذا الذي أبينه ( " فإنه " ) أي : الشأن ( " ما نقص مال عبد " ) أي : بركته ( " من صدقة " ) أي : من أجل إعطاء صدقة لأنها مخلوفة معوضة كمية أو كيفية في الدار الدنيوية والأخروية . قال تعالى جل جلاله : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ( " ولا ظلم عبد " ) : بصيغة المجهول ( " مظلمة " ) : بفتح الميم وكسر اللام اسم ما أخذه الظالم ظلما ، كذا ذكره ابن الملك .

وفي القاموس : المظلمة بكسر اللام ما يظلمه الرجل ، والظاهر أنه هنا مصدر بمعنى المفعول صفته قوله : ( " صبر " ) أي : العبد ( " عليها " ) أي : على تلك المظلمة ولو كان متضمنا لنوع عن المذلة ( " إلا زاده الله بها عزا " ) أي : عنده تعالى ، كما أنه يزيد للظالم عنده ذلا بها أو يزيده الله بها عزا له في الدنيا معاقبة ، كما يحصل للظالم ذل بها ولو بعد حين من المدة ، بل ربما ينقلب الأمر ويجعل الظالم تحت ذل المظلوم جزاء وفاقا ، ( " ولا فتح عبد " ) أي : على نفسه ( " باب مسألة " ) أي : باب سؤال وطلب من الناس لا لحاجة وضرورة ، بل لقصد غنى وزيادة ( " إلا فتح الله عليه باب فقر " ) أي : باب احتياج آخر وهلم جرا ، أو بأن سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة ، كما هو مشاهد في أصحاب التهمة ، ومثل حاله بالحمار الذي ليس له الذنب ، وهو دائر في الطلب ، فدخل في بستان حريصا عليه فقطع الحارث أذنيه ، وشبه أيضا بكلب في فمه عظم ، ومر على نهر لطيف يظهر من تحته عظم نظيف ، ففتح الكلب فمه حرصا على أخذ ما في قعر الماء فوقع ما في فمه من العظم في الماء ، فالحرص شؤم والحريص محروم ، هذا وقال الطيبي - رحمه الله - في قوله : فأما الذي أقسم عليهن أفرده وذكره باعتبار كون المذكور موعودا ، وجمع المرجع إلى الموصول باعتبار الخصال المذكورات ، وبه فسر قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد في وجه أي : الجمع أو الفوج ، وفي المصابيح : أما اللاتي أقسم عليهن وهو ظاهر ، وليس المراد تحقيق الحلف ، بل تأكيده تنويها فإن المدعي يثبت بذكر القسم تارة وأخرى بلفظ القسم ، انتهى .

والأظهر أن يقال : التقدير فأما قولي الذي أقسم فيه على الخصال الثلاث ، وأؤكده فإنه إلى آخره . ( " وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه " فقال : " إنما الدنيا " ) : هو تفسير وبيان ، بل قال جملة معترضة للتأكيد ، والتقدير : فإنما الدنيا ، ويؤيده أنه ليس في الجامع لفظ فقال : بل فيه : إنما الدنيا ( لأربعة نفر ) أي : كل واحد عبارة عن جمع وصنف ( " عبد " ) : بالجر ويرفع ( " رزقه الله مالا وعلما " ) فيه إيماء إلى أن العلم رزق أيضا ، وأن الله تعالى هو الذي يرزق العلم والمال ، وبتوفيقه وفتحه يفتح باب الكمال ، وقد ورد في حديث : إن علما لا يقال به ككنز لا ينفق منه ، فيدخل العلماء ولو كانوا فقراء في قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون ثم فيه إشعار بأن المراد بالمال هنا ما يزيد على قدر ضرورة الحال ( " فهو يتقي فيه " ) أي : في المال ( " ربه " ) بأن لا يصرف ماله في معصية خالقه ( " ويصل رحمه " ) أي : بالمواساة إلى أقاربه ( ويعمل لله فيه ) أي : في العلم ( " بحقه " ) [ ص: 3309 ] أي : قياما بحق العلم وما يقتضيه من العمل بحق الله وحق عباده ، ففيه لف ونشر مرتب ، ويؤيده لفظ الجامع : ويعلم لله فيه حقا ، ويمكن رجوع كل من الضميرين إلى كل من المال والعلم ، وأفرده باعتبار ما ذكر . وقال ابن الملك أي : بحق المال ، والمعنى يؤدي ما في المال من الحقوق كالزكاة والكفارة والنفقة وإطعام الضيف ، ويجوز كون الضمير لله أي : بحق الله الواجب في المال ( " فهذا " ) أي : العبد الموصوف بما ذكر ( " بأفضل المنازل " ) أي : في أكمل مراتب الشمائل في الدنيا أو في أعلى الدرجات في العقبى ( " وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا ، فهو صادق النية " ) أي : ظاهره مطابق لما في الطوية ( " يقول " ) أي : بلسان المقال أو بلسان الحال ( " لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان " ) أي : من أهل الخير ( " فأجرهما سواء " ) . وهو استئناف بيان أو حال ( " وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما ، فهو يتخبط " ) : بكسر الخاء بدون فهو ، فهو حال أو استئناف بيان ، والمعنى يقوم ويقعد بالجمع والمنع ( " في ماله " ) : أو يختلف في حاله باعتبار الإنفاق والإمساك في ماله ( " بغير علم " ) أي : بغير استعمال علم بأن يمسك تارة حرصا وحبا للدنيا ، وينفق أخرى للسمعة والرياء والفخر والخيلاء ، ( " لا يتقي فيه ربه " ) أي : لعدم علمه في أخذه وصرفه ( " ولا يصل فيه رحمه " ) ، أي : لقلة رحمته وعدم حلمه وكثرة حرصه وبخله ( " ولا يعمل فيه بحق " ) أي : بنوع من الحقوق المتعلقة بالله وبعباده ، ولفظ الجامع : ولا يعلم لله فيه حقا ( " فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان " ) أي : من أهل الشر ( " فهو نيته " ) أي : فهو مغلوب نيته ، ومحكوم طويته ، أو الحمل بطريق المبالغة ، فكأنه عين نيته كرجل عدل . وفي نسخة : فهو بنيته ، وكذا في الجامع أي : مجزى بها ومعاقب عليها ، ولما كان الظاهر أن إثمه بمجرد نيته دون إثم العامل المشتمل عمله على النية والمباشرة أكد الوعيد وشدد التهديد بقوله : ( " ووزرهما سواء " ) : ولفظ الجامع : فوزرهما سواء .

قال الطيبي - رحمه الله - : فهو نيته مبتدأ وخبر ، أي : يسيء النية يدل عليه وقوعه في مقابلة قوله : فهو صادق النية في القرينة الأولى ، وقوله : يقول لو أن لي مالا إلى آخره ، تفسير لقوله : صادق النية . وقوله : فهو يقول لو أن لي مالا إلى آخره مقابل قوله : فأجرهما سواء . وقوله : ووزرهما سواء متقابلان . قال ابن الملك : هذا الحديث لا ينافي خبر : " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به " لأنه عمل هنا بالقول اللساني ، والمتجاوز عنه هو القول النفساني ، انتهى . والمعتمد ما قاله العلماء المحققون : إن هذا إذا لم يوطن نفسه ولم يستقر قلبه بفعلها ، فإن عزم واستقر يكتب معصية ، وإن لم يعمل ولم يتكلم ، وقد تقدم ، والله تعالى أعلم . ( رواه الترمذي وقال : هذا حديث صحيح ) .

قال المنذري : حديث أبي كبشة رواه أحمد والترمذي واللفظ له . وقال : حسن صحيح ، وابن ماجه بمعناه ذكره ميرك . وفي الجامع : وكذا رواه أحمد في مسنده ، وروى ابن أبي الدنيا في ذم الغضب ، عن عبد الرحمن بن عوف صدر الحديث فقط ولفظه : " ثلاث أقسم عليهن : ما نقص مال قط من صدقة فتصدقوا ، ولا عفا رجل مظلمة ظلمها إلا زاده الله تعالى جل جلاله بها عزا ، فاعفوا يزدكم الله عزا ، ولا فتح رجل باب مسألة يسأل الناس إلا فتح الله عليه باب فقر " . فهذا يدل على أن الحديث الأول مركب من حديثين جمعهما الراوي وجعلهما حديثا واحدا ، وما يدل عليه أن لفظ الجامع عن الأنماري : ثلاث أقسم عليهن إلى قوله : باب فقر . ثم قال : وأحدثكم حديثا فاحفظوه وإنما الدنيا إلخ . فالتفسيرات المحتاجة إلى التأويلات إنما هي من تصرفات بعض الرواة ، والله تعالى أعلم .

[ ص: 3310 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية