صفحة جزء
الفصل الثاني

5299 - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " . رواه الترمذي ، وابن ماجه .


الفصل الثاني

5299 - ( عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : " لو أنكم تتوكلون " ) وفي رواية الجامع بحذف إحدى التائين أي : تعتمدون ( " على الله حق توكله " ) أي : بأن تعلموا يقينا أن لا فاعل في الوجود موجود إلا الله ، وأن كل موجود من خلق ورزق ، وعطاء ومنع ، وضر ونفع ، وفقر وغنى ، ومرض وصحة ، وموت وحياة وغير ذلك مما يطلق عليه اسم الموجود من الله تعالى ، ثم يستعمل في الطلب على الوجه الجميل ، ويشهد بذلك تشبيهه بالطير ، فإنها تغدو خماصا ، ثم تسرح في طلب القوت فتروح بطانا ( " لرزقكم " ) ولو تركتم الأسباب فإنه يرزق البطال والعمال ، وقد يرزق الضعيف بحيث يتعجب القوي ( " كما يرزق الطير " ) : بصيغة الفاعل ( " تغدو " ) أي : تذهب أول النهار ( " خماصا " ) : بكسر الخاء المعجمة ، جمع خميص أي : جياعا ( " وتروح " ) أي : ترجع آخر النهار ( بطانا ) : بكسر الموحدة ، جمع بطين وهو عظيم البطن ، والمراد شباعا ، وفي قوله : تغدو إيماء إلى أن السعي بالإجمال لا ينافي الاعتماد على الملك المتعال ، كما قال تعالى جل جلاله : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم فالحديث للتنبيه على أن الكسب ليس برازق ، بل الرازق هو الله تعالى ، لا للمنع عن الكسب فإن التوكل محله القلب فلا ينافيه حركة الجوارح ، مع أنه قد يرزق أيضا من غير حركة ، بل بتحريك غيره إليه يصل رزق الله ببركته كما يستفاد العموم من قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها .

قد حكي أن فرخ الغراب عند خروجه من بيضته يكون أبيض ، فيكرهه الغراب فيتركه ويذهب ويبقى الفرخ ضائعا ، فيرسل الله تعالى إليه الذباب والنمل ، فيلتقطهما إلى أن يكبر قليلا يسود فيرجع إليه الغراب ، فيراه أسود فيضمه إلى نفسه فيتعهده ، فهذا يصل إليه رزقه بلا سعي ، والحكايات في ذلك كثيرة والروايات به شهيرة .

ومن غرائب ما حكي أنه سبحانه وتعالى قال لعزرائيل : هل رحمت على أحد عند نزع الأرواح ؟ فقال : نعم يا رب ! حين غرق أهل سفينة وبقي بعض أهله على الألواح ، وكانت امرأة بولدها ترضعه فوق لوح ، فأمرت بقبض روحها فرحمت حينئذ على ولدها . قال تعالى : فألقيته على جزيرة وأرسلت إليه أسدا ترضعه إلى أن كبر قليلا ، ثم قيضت له بعضا من الجن ليعلمه لسان الإنس إلى أن نشأ نشأة كاملة ، ودخل في العمارة ، وحصل له الإمارة ، ووصل إلى مرتبة السلطنة ، وأحاط بجميع المملكة فادعى الألوهية ، ونسي العبودية وحقوق الربوبية ، واسمه شداد ، والله رءوف بالعباد ، فالرحيم الذي يرزق أعداءه كيف ينسى أحباءه ؟

قال الشيخ أبو حامد - رحمه الله تعالى - : قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن ، وترك التدبير بالقلب ، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة أو كلحم على وضم ، وهذا ظن الجهال فإن ذلك حرام في الشرع ، والشرع قد أثنى على المتوكل ، فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظور من محظورات الدين ؟ بل نكشف عن الحق فيه ، فنقول : إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه بعمله إلى مقاصده . وقال الإمام أبو القاسم القشيري : اعلم أن التوكل محله القلب ، وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعد ما يحق العبد أن الرزق من قبل الله تعالى ، فإن تعسر شيء فبتقديره ، وإن تيسر شيء فبتيسيره . ( رواه الترمذي ، وابن ماجه ) : وكذا أحمد والحاكم .

[ ص: 3321 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية