صفحة جزء
5302 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال : " يا غلام احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه أحمد ، والترمذي .


5302 - ( وعن ابن عباس قال : كنت خلف رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يوما ) أي : رديفه ، وفيه إشعار بكمال حفظه وإحسانه واستحضار لفظه وإتقانه ، فهذا الحديث من جملة أحاديثه التي سمعها من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ، وإلا فأكثر مروياته بالواسطة ، لكنها معتبرة لكونها من مراسيل الصحابة ، وما ذاك إلا لأجل صغره في زمانه - صلى الله تعالى عليه وسلم - . قال المؤلف : ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتوفي النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وقيل خمس عشرة ، وقيل عشر ، لكن صار حبر هذه الأمة وعالمها ; لأنه قد دعا له النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بالحكمة والفقه والتأويل ، ورأى جبريل - عليه السلام - مرتين ، وكف بصره في آخر عمره ، ومات بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير ، وهو ابن إحدى وسبعين سنة ، وروى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين . قيل : المعنى أمشي خلفه ، لا أنه راكب رديفه وهو مردود لما في وسيط الواحدي عن ابن عباس أنه أهدى كسرى إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بغلة ، فركبها بحبل من شعر ، ثم أردفني خلفه وسار بي ميلا ثم التفت ( فقال : " يا غلام " ) : بالرفع ، كذا في الأصول المعتمدة والنسخ المتعددة ، والظاهر كسر الميم بناء على أن أصله يا غلامي بفتح الياء وسكونها بعد حذفها تخفيفا اكتفى بكسرة ما قبلها ، لكن قد يضم ، وذلك في الاسم الغالب عليه الإضافة إلى الياء للعلم بالمراد ، ومنه القراءة الشاذة : رب احكم بضم الباء على أنه يحتمل وقوع ضمها لمشاكلة ضم الكاف كما حقق في " وأن احكم " حيث قرئ بالوجهين من السبعة ، ثم في يا غلام لغة أخرى ، وهي قلب الياء ألفا ، وقد جاء شاذا يا غلام بالفتح اكتفاء بالفتحة عن الألف ، ثم الأظهر أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقف عليه بالسكون ، ولم يظهر عليه إعرابا على ما هو المتعارف في مثله ، هذا والمراد بالغلام هنا الولد الصغير لا المملوك ، ففي القاموس : الغلام الطار الشارب ، والكهل ضده ، أو من حين يولد إلى حين يشب ، والمقصود من النداء استحضاره لديه وتوجهه إلى ما يلقى إليه ، وزاد في الأربعين : إني أعلمك كلمات أي : فصولا مفيدة في دفع اللأواء وجلب المنافع والآلاء ، ( " احفظ الله " ) أي : أمره ونهيه ( " يحفظك " ) أي : يحفظك في الدنيا من الآفات والمكروهات ، وفي العقبى من أنواع العقاب والدركات جزاء وفاقا ، فإن من كان لله كان الله له ( " احفظ الله " ) أي : حقه من دوام ذكره وتمام فكره وقيام شكره . ( " تجده تجاهك " ) : بضم التاء أي : أمامك ، والمعنى أنك تجده حينئذ كأنه حاضر تلقاءك وقدامك وتشاهده في مقام إحسانك وإيقانك وكمال إيمانك ، كأنك تراه بحيث تغنى بالكلية عن نظرك ما سواه ، فالأول حال المراقبة ، والثاني مقام المشاهدة ، وقيل : المعنى إذا حفظت طاعة الله وجدته يحفظك وينصرك في مهماتك أينما توجهت ، ويسهل لك الأمور التي قصدت ، وقيل : المعنى تجد عنايته ورأفته قريبا منك يراعيك في جميع الحالات ، وينقذك من جميع المضرات ، ويسعدك بأنواع التحف والكرامات ، فهو تلميح إلى قوله تعالى : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وقد أشار بعض العارفين إلى أنه لا ذرة من ذرات العالم إلا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها قريب من وجوده إليها لا بمجرد العلم فقط ، ولا بمعنى الإيجاد فقط ، بل بمعنى آخر لا يجوز كشفه رمزت إليه حذار الرقيب وكتمان سر الحبيب .


إذا ما تلاشت في نوره يقول لي ادع فإني قريب



قال الطيبي - رحمه الله - : أي راع حق الله وتحر رضاه تجده تجاهك أي : مقابلك وحذاءك ، والتاء بدل من الواو كما في تقاة وتخمة أي : احفظ حق الله تعالى حتى يحفظك الله من مكاره الدنيا والآخرة ( " وإذا سألت " ) أي : أردت السؤال ( " فاسأل الله " ) : بإثبات الهمز ويجور نقله أي : فاسأل الله وحده ، فإن خزائن العطايا عنده ومفاتيح المواهب والمزايا بيده ، وكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية ، فإنها تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمته من غير شائبة عرض ولا ضميمة علة ; لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر ، فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ، ولا يخشى إلا نقمته ، ويلتجأ في عظائم المهام إليه ، ويعتمد في جمهور الأمور عليه ، ولا يسأل غيره ; لأن غيره غير قادر على العطاء والمنع ودفع الضر وجلب النفع ، [ ص: 3324 ] فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا يترك السؤال بلسان الحال أو ببيان المقال في جميع الأحوال ، ففي الحديث : من لم يسأل الله يغضب عليه ، إذ السؤال إظهار شعائر الانكسار ، والإقرار بسمت العجز والافتقار والإفلاس عن ذروة القوة والطاقة إلى حضيض الاستكانة والفاقة ، ونعم ما قيل :


الله يغضب إن تركت سؤاله     وبني آدم حين يسأل يغضب


( " وإذا استعنت " ) أي : أردت الاستعانة في الطاعة وغيرها من أمور الدنيا والآخرة ( " فاستعن بالله " ) : فإنه المستعان وعليه التكلان في كل زمان ومكان . ( " واعلم " ) : زيادة حث على التوجه إليه والتقرب بالاستفادة لديه ( " أن الأمة " ) أي : جميع الخلق من الخاصة والعامة والأنبياء والأولياء وسائر الأمة ( " لو اجتمعت " ) أي : اتفقت فرضا وتقديرا ( " على أن ينفعوك بشيء " ) أي : في أمر دينك أو ( لم ينفعوك ) أي : لم يقدروا أن ينفعوك ( إلا بشيء قد كتبه الله لك ) أي : قدره ، وأثبته في الذكر وفرغ منه ، وقد أذنهم في ذلك ( " ولو اجتمعوا " ) : وقع في الأربعين هنا بلفظ : وإن اجتمعوا ، فقال بعض الشراح من المحققين : إن لفظة لو فيما سبق بمعنى إن إذ المعنى على الاستقبال لقوله تعالى : لو تركوا من خلفهم فنكتة العدول هو أن اجتماعهم على الإمداد من المستحيلات بخلاف الاتفاق على الإيذاء فإنه ممكن ، ولذا قيل :

الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

انتهى كلامه . وهو غفلة منه عن الحكم المقرر في الاعتقاد أن اجتماعهم على إيصال النفع والضر بدون المشيئة من المحال ، فإن ثبتت الرواية بالاختلاف ، فهو من باب التفنن ، واختيار لو في القرينة الأولى أولى ; لأنها أدل على الفريضة المحالية ، ووقوع أن في الثانية على أصلها مع استفادة الحكم من المعطوف عليها ( " على أن يضروك بشيء " ) أي : من سلب نفع أو جلب ضر ( " لم يضروك " ) أي : لم يقدروا أن يضروك ( " إلا بشيء قد كتبه الله عليك " ) وخلاصة المعنى أنك وحد الله في المطلب والمهرب ، فهو الضار النافع والمعطي المانع ، وفي بعض الكتب الإلهية : وعزتي وجلالي لأقطعن من يؤمل غيري ، وألبسنه ثوب المذلة عند الناس ، ولأجنبنه من قربي ، ولأبعدنه من وصلي ، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد ، والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ، ويطرق بالفكر أبواب غيري ، وبيدي مفاتيح الأبواب ، وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني ، هذا وأورد اللام في جانب النفع ; لأنه للملك ، وحقيقته الاختصاص النافع . وقوله : " وإن أسأتم فلها " مجاز في صورة الضر على ما هو المشهور عند الجمهور . ( " رفعت الأقلام " ) أي : من كتابة الأحكام ( " وجفت الصحف " ) أي : نشفت ما دون فيها من أقضية المخلوقين إلى يوم القيامة ، فلا يوضع عليها قلم بعد بتدوين شيء وتغيير أمر ، وخلاصته أنه كتب في اللوح المحفوظ ما كتب من التقديرات ، ولا يكتب بعد الفراغ منه شيء آخر ، فعبر عن سبق القضاء والقدر برفع القلم ، وجفاف الصحيفة تشبيها بفراغ الكاتب في الشاهد من كتابته ، وقد سبق في أول الكتاب حديث : إن أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد ، وحديث جف القلم على علم الله أي : ما علمه الله وحكم به في الأزل لا يتغير ولا يتبدل ، وجفاف القلم عبارة عنه ، والله تعالى أعلم ، لا يقال : هذا ينافي قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت لأنا نقول : المحو والإثبات أيضا مما جفت الصحف ; لأن القضاء قسمان : مبرم ومعلق ، وهذا بالنسبة إلى اللوح المحفوظ ، وأما بالإضافة إلى علم الله فلا تبديل ولا تغيير ، ولهذا قال : وعنده أم الكتاب وقيل : عند الله كتابان اللوح ، وهو [ ص: 3325 ] الذي لا يتغير ، والذي يكتبه الملك على الخلق وهو محل المحو والإثبات ، فهذا القدر من الحديث ( رواه أحمد ، والترمذي ) : وقال : هذا حديث حسن صحيح كما قاله النووي ، ثم قال : وفي رواية غير الترمذي : احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله - بتشديد الراء أي : تحبب إليه بحفظ أحكامه ، ذكره النووي - رحمه الله - ; لأن المعرفة سبب المحبة - يعرفك في الشدة - بتخفيف الراء أي : يجازك فيها - واعلم أن ما أخطأك - أي : جاوز عنك النعمة والرخاء والشدة والبلاء ، وأصل الخطأ العدول عن الجهة - لم يكن ليصيبك - أي : محال أن يصيبك ، وفيه مبالغة من وجوه من حيث دخول اللام المؤكدة للنفي على الخبر وتسليط النفي على الكينونة وسرايته في الخبر - وما أصابك لم يكن ليخطئك - فيه الحث على التوكل والرضا ونفي الحول والقوة عنه ، إذ ما من حادثة من سعادة وشقاوة وعسر ويسر ، وخير وشر ، ونفع وضر ، وأجل ورزق إلا ويتعلق بقدره وقضائه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام جرى قلم القضاء بما يكون ، فسيان التحرك والسكون ، فيجب الشكر في حال السراء ، والصبر في حال الضراء قائلا كما قال تعالى : قل كل من عند الله - واعلم أن النصر - أي : على الأعداء - مع الصبر - أي : على المحن والبلاء - ، وأن الفرج وهو الخروج من الغم مع الكرب ، أي الغم الذي يأخذ بنفس النفس ، ولذا ورد :

اشتدي أزمة تنفرجي إن مع العسر يسرا قال شارح : وقد وقعت الآية في القرآن مكررة ليعلم أنه لا يوجد عسر إلا معه يسران ، وهذا مبني على القاعدة المشهورة أن النكرة المعادة غير الأولى ، والمعرفة المعادة عين الأولى ، لكنها غالبية لأن قوله تعالى : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك لا شك فيه أن اللام الأولى للاستغراق ، والثانية للجنس الذي يحصل بوجوده فرد منه ، ثم قيل مع بمعنى بعد ، وهذا بعيد عن حقيقة المعنى ، وإرادة المبالغة في المبنى حيث قصد معاقبة أحدهما للآخر واتصاله به حتى جعله كالمقارن لزيادة في التسلية والتنفيس ، على أن المحن لا تخلو عن المنح ، بل إنها عينها وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم هذا وقد قال القطب الرباني والغوث الصمداني السيد عبد القادر الجيلاني - قدس سره - في فتوحات الغيب : ينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه ، فيعمل به في جميع حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة ، ويجد العزة فيها برحمة الله تعالى ، رواه أحمد والترمذي .

قال الطيبي - رحمه الله - : وزاد بعد قوله تجاهك في رواية رزين : تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، وفي آخره : فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، واعلم أن النصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ، ولن يغلب عسر يسرين . والحديث بطوله قد جاء مثله أو نحوه في مسند أحمد بن حنبل - رحمه الله - . في النهاية : معنى تعرف إلى الله أي : اجعل تعرفك بطاعتك والعمل فيما أولاك من نعمته ، فإنه يجازيك عند الشدة والحاجة إليه في الدنيا والآخرة ، وأراد بقوله : لن يغلب عسر يسرين أن التعريف في العسر الثاني في قوله تعالى للعهد ، والتنكير في " يسرا " للنوع ، فيكون العسر واحدا واليسر اثنين ، فالعسر ما كانوا عليه من متاعب الدنيا ومشاقها ، واليسر في الدنيا الفتح والنصرة على الأعداء ، وفي العقبى الفوز بالحسنى ولقاء الأحباء .

[ ص: 3326 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية