صفحة جزء
5372 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفا فجعل ينادي : " يا بني فهر ! يا بني عدي ! " لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : نعم ؟ ما جربنا عليك إلا صدقا ، قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ ! فنزلت : تبت يدا أبي لهب وتب . متفق عليه .

وفي رواية : نادى : " يا بني عبد مناف ! إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله ، فخشي أن يسبقوه ، فجعل يهتف : يا صباحاه ! " .


5372 - ( وعن ابن عباس قال : لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين صعد ) بكسر العين وهو جواب لما ، وفي بعض النسخ فصعد بالفاء فلا وجه له ، أي : طلع ( النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الصفا ) وهو جبل معروف بمكة من شعائر الله ( فجعل ) أي : فشرع ( النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ينادي ) أي : قبائل العرب ( يا بني فهر ) بكسر الفاء وسكون الهاء : قبيلة من قريش ، على ما في القاموس ( يا بني عدي ) وهم قبيلة من قريش أيضا ، على ما في القاموس ، فقوله : ( لبطون قريش ) فيه إشكال ; إذ البطن دون القبيلة أو دون الفخذ وفوق العمارة ، والقبيلة واحد قبائل الرأس لقطع الشعوب بعضها إلى بعض ، ومنه قبائل العرب واحدهم قبيلة ، وهم بنو أب واحد ، كذا في القاموس ، والحاصل أن القبيلة بمنزلة الجنس ، والبطن بمنزلة النوع ، والفخذ بمنزلة الفصل ، وقد يستعار بعضها لبعض ، والله تعالى أعلم .

وقال الطيبي - رحمه الله : اللام فيه بيان ، كقوله تعالى : لمن أراد أن يتم الرضاعة كأنه قيل لمن قيل لبطون قريش ( حتى اجتمعوا ) أي : من كل قبيلة وبطن جمع ( فقال : " أرأيتكم " ) بفتح التاء ، ويجوز تحقيق الهمزة الثانية وتسهيلها وإبدالها وحذفها ، والمعنى : أخبروني ، وتحقيقه ما ذكر الطيبي - رحمه الله - من أن الضمير المتصل المرفوع من الخطاب العام ، والضمير الثاني لا محل له وهو كالبيان للأول ; لأن الأول بمنزلة الجنس الشائع في المخاطبين ، فيستوي فيه التذكير والتأنيث ، والإفراد والجمع ، فإذا أريد بيانه بأحد هذه الأنواع بين به ، فأتى في الحديث بعلامة الجمع بيانا للمراد ، انتهى . فكأنه قال : أرأيتم فإن رأيتم فأعلموني ( لو أخبرتكم أن خيلا ) أي : جيشا ( بالوادي ) أي : نزل به ، قال شارح : وهو موضع معروف بقرب مكة ، وكأنه أريد به الوادي المشهور [ ص: 3370 ] بوادي فاطمة بين مكة والمدينة شرفها الله ( تريد ) أي : الخيل ( أن تغير عليكم ) : من الإغارة ، وهي النهب والبيوتة بالغفلة يعني أصحابها على أحد المجازين في قوله تعالى : واسأل القرية ، ( أكنتم مصدقي ) ؟ أي مصدقين لي في قولي ( قالوا : نعم ) أي : كنا نصدقك ; وسببه أنا في جميع عمرنا ( ما جربنا عليك إلا صدقا ) .

قال الطيبي - رحمه الله : ضمن جرب معنى الإلقاء وعداه بعلى أي : ما ألقينا عليك قولا مجربين لك فيه هل تكذب فيه أم لا ، ما سمعناه منك إلا صدقا ( قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " ) أي : قبل نزول عذاب عظيم وعقاب أليم ، والمعنى : أنكم إن لم تؤمنوا بي ينزل عليكم عذاب قريب .

قال الطيبي - رحمه الله - قوله : بين يدي ظرف لغد نذير ، وهو بمعنى قدام ; لأن كل من يكون قدام أحد يكون بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله ، وفيه تمثيل ، مثل إنذاره القوم بعذاب الله تعالى النازل على القوم بنذير قوم يتقدم جيش العدو فينذرهم ، ( فقال أبو لهب ) : مشهور بكنيته واسمه عبد العزى ، وهو ابن عبد المطلب بن هاشم عم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( تبا لك ) أي : خسرانا وهلاكا ، ونصبه بعامل مضمر ، قاله القاضي ، فهو إما نصب على المصدر ، والمعنى : تب تبا ، أو بإضمار فعل أي : ألزمك الله هلاكا وخسرانا وألزم تبا لك ( سائر اليوم ) أي : وباقي الأوقات أو في جميع الأيام .

قال التوربشتي - رحمه الله : من ذهب في " سائر " إلى البقية فإنه غير مصيب ; لأن الحرف من السير لا من السور ، وفي أمثالهم في اليأس من الحاجة : أسائر اليوم وقد زال الظهر ، قال الطيبي - رحمه الله : وفيه نظر ; لأنه قال صاحب النهاية : السائر مهموز : الباقي ، والناس يستعملون في معنى الجميع وليس بصحيح ، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث ، وكلها بمعنى باقي الشيء ، ويدل على تصحيح ما في النهاية ما في أساس البلاغة ، فإنه أورده في باب السين مع الهمزة قائلا : سار الشارب في الإناء سورا وسورة أي : بقية ، وفى المثل : أسائر اليوم ، وقد زال الظهر ، انتهى كلامه ، فعلى هذا : المراد بسائر اليوم بقية الأيام المستقبلة ، في القاموس : السؤر البقية والفضلة ، وأسأر أبقاه كسأر كمنع والفاعل فيها سائر والقياس مسئر ، ويجوز والسائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات ، أو قد يستعمل له ، ومنه قول الأحوص :


فجلتها لنا لبابة لما وفد القوم سائر



وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطييبه ، فقال : بطني عطري وسائري ذري . وأغير على قوم فاستصرخوا بني عمهم فأبطأوا عنهم حتى أسروا ، وذهب بهم ، ثم جاءوا يسألون عنهم فقال لهم المسئول : أسائر اليوم وقد زال الظهر ، أي : تطمعون فيما بعد وقد تبين لكم اليأس ; لأن من كانت حاجته اليوم بأسره وزال الظهر وجب أن ييأس منها بالغروب ، ( ألهذا ) أي : هذا الاستخبار والإخبار ( جمعتنا ) ؟ أي بالمناداة ( فنزلت : تبت أي هلكت وخسرت يدا أبي لهب بفتح الهاء ويسكن أي : نفسه ، كقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم أي : بأنفسكم والباء زائدة ، وقيل : المراد بهما دنياه وأخراه ، وقيل : إنما خصتا لأنه لما قال : ألهذا دعوتنا ؟ أخذ حجرا ليرميه به فنزلت ، إنما كناه والكنية تكرمة لاشتهاره بكنيته ; أو لأن اسمه عبد العزى فاستكره ذكره ، أو لأنه لما كان من أهل النار كانت الكنية أوفق بحاله ، وإن كان كني لكمال جماله ، وقرئ أبو لهب كما قيل : علي بن أبي طالب على لغة من قصر على الواو في الأسماء الستة ، كما قصر بعضهم على الألف فيها كقوله : إن أباها وأبا أباها ، وتب : إخبار بعد خبر للتأكيد ، والتعبير بالماضي لتحقق وقوعه ، أو الأول دعاء والثاني إخبار ( متفق عليه ) .

[ ص: 3371 ] ( وفى رواية ) قال ميرك : هذه الرواية من أفراد مسلم ( نادى : " يا بني عبد مناف " ) هو أخو هاشم وعبد شمس والمطلب ، ومناف صنم ، كذا في القاموس ، ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو ) أي : بعينه ( فانطلق ) أي : ذهب مسرعا ( " يربأ " ) بفتح الموحدة وبالهمزة أي : يحفظ من العدو ( " أهله " ) أي : قومه ، ويرقبهم بقتالهم على موضع عال .

( " فخشي " ) أي : الرجل ( " أن يسبقوه " ) أي : يسبق العدو إلى أهله ، ويصلوا إلى القوم قبل أن يصل إليهم بنفسه ( " فجعل " ) أي : فشرع ( يهتف ) بكسر التاء أي : يصيح وينادي من أعلى جبل ، وربما يجعل ثوبه على يده ، أو على خشب يرفعه لزيادة الإعلام ، ومنه النذير العريان ، أو هو كناية عن خلوه من العرض ، أو إيماء إلى أنه أخذ وسلب عنه ثوبه وهرب منهم ، فحينئذ كل أحد يصدقه في قوله : ( " يا صباحاه " ) بسكون الهاء ، ولما كانت الغارة غالبا تكون في الصباح خصت به ، ولو كانت في المساء أيضا ، والله تعالى أعلم ، فهي كلمة تقال لإنذار أمر مخوف ، والمعنى : يا قوم احذروا الإغارة بالذهاب قبل مجيء العدو ، فكأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : احذروا عقاب الله بالإيمان قبل نزوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية