صفحة جزء
5380 - وعنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت له نكتة بيضاء ، حتى يصير على قلبين : أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه " . رواه مسلم .


5380 - ( وعنه ) ، أي : عن حذيفة ( قال : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : " تعرض " ) بصيغة المجهول أي : توضع وتبسط ( " الفتن " ) أي : البلايا والمحن ، وقيل : العقائد الفاسدة والأهواء الكاسدة ( " على القلوب " ) ، وقيل : تعرض عليه أي يظهر لها ويعرف ما يقبل منها وما يأباه وينفر منها ، من عرض العود على الإناء إذا وضعه عليه بعرضه ، وقيل : هو من عرض الجند بين يدي السلطان لإظهارهم واختبار أحوالهم ( " كالحصير " ) أي : كما يبسط الحصير ( عودا عودا ) بضم عين ودال مهملة ، ونصبهما على الحال أي : ينسج الحصير حال كونه على هذا المنوال ، وقال التوربشتي - رحمه الله : قد روي بالرفع ، وكذا نرويه عن كتاب مسلم ، وعلى هذا الوجه أورده صاحب المصابيح ، والتقدير : هو عود عود ، ورواه آخرون بالنصب ، انتهى . فهو خبر مبتدأ مقدر ، أو التقدير ينسج عود عود ، فهو مفعول ما لم يسم فاعله ، وفي نسخة : عوذا عوذا بفتح العين والذال المعجمة ، أي : نعوذ بالله من ذلك عوذا بعد عوذ .

قال النووي - رحمه الله : هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه ، أظهرها وأشهرها : ضم العين والدال المهملة ، والثاني : فتح العين والدال المهملة أيضا ، والثالث : فتح العين والدال المعجمة ، ومعنى تعرض ، أي : تلصق بعرض القلوب ، أي : جانبها ، كما تلصق الحصير بجنب النائم وتؤثر فيه بشدة التصاقها ، ومعنى عودا عودا ، [ ص: 3378 ] أي : يعاد ويكرر شيئا بعد شيء ، قال ابن السراج رحمه الله : ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها ، كما يقال : غفرا غفرا أي : نسألك أن تعيذنا من ذلك وأن تغفر لنا ، وقال الخطابي : معناه : تظهر على القلوب أي تظهر بها فتنة بعد أخرى ، كما ينسج الحصير عودا عودا وشطية بعد أخرى . قال القاضي عياض : وعلى هذا تتوجه رواية العين ، وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه ، فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد ، انتهى . فإذا كان الأمر كذلك ( فأي قلب أشربها ) بصيغة المفعول ، يقال : أشرب في قلبه حبه أي : خالطه ، فالمعنى : خالط الفتن واختلط بها ، ودخلت فيه دخولا تاما ، ولزمها لزوما كاملا ، وحلت منه محل الشراب في نفوذ المسام وتنفيذ المرام ، ومنه قوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم أي : حب العجل ، والإشراب : خلط لون بلون كأن أحد اللونين شرب الآخر ، وكسي لونا آخر ، فالمعنى : جعل متأثرا بالفتن بحيث يتداخل فيه حبها كما يتداخل الصبغ الثوب ، ( " نكتت " ) بصيغة المجهول أي : نقطت وأثرت ، ( " فيه " ) أي : في قلبه ( " نكتة سوداء " ) ، وأصل النكت ضرب الأرض بقضيب فيؤثر فيها ، ( " وأي قلب أنكرها " ) أي : رد الفتن وامتنع من قبولها ( " نكت فيه نكتة بيضاء " ) أي : إن لم تكن فيه ابتداء وإلا فمعنى نكتت أثبتت فيه ودامت واستمرت ( " حتى " ) : غاية للأمرين ( " تصير " ) بالفوقية ، وفي نسخة بالتحتية ، أي : تصير قلوب أهل ذلك الزمان ، أو يصير الإنسان باعتبار قلبه أو يصير قلبه ( " على قلبين " ) أي : نوعين أو صنفين ( " أبيض " ) بالرفع ، أي : أحدهما أبيض ( " مثل الصفا " ) بالقصر أي : مثل الحجر المرمر الأملس من غاية البياض والصفا ، وفي نسخة بفتحهما على أن الأول بدل البعض من قلبين ، والثاني على الحال منه ، أي : مماثلا ومشابها للصفا في النور والبهاء ، ( " فلا تضره فتنة " ) وظلمة وبلية ( ما دامت السماوات والأرض ) ; لأنها قلوب صافية قد أنكرت تلك الفتن في ذلك الزمن ، فحفظها عنها بعد تلك الساعة إلى يوم القيامة ، ( والآخر ) بالرفع ، وكذا قوله : ( " أسود مربادا " ) بكسر الميم وبالدال المشددة : من ارباد كاحمار ، أي صار كلون الر‌‌ماد ، من الربدة لون بين السواد والغبرة ، وهو حال أو منصوب على الذم ، ( كالكوز ) ، أي : يشبه الآخر الكوز حال كوخ ( " مجخيا " ) بضم ميم وسكون جيم وخاء مكسورة وياء آخر الحروف مشددة وقد تخفف ، وفي النهاية : وروي بتقديم الخاء على الجيم أي مائلا منكوسا ، مشبها من هو خال من العلوم والمعارف بكوز مائل لا يثبت فيه شيء ولا يستقر ، وهذا معنى قوله : ( " لا يعرف " ) أي : هذا القلب ( " معروفا ولا ينكر منكرا ) ، والمعنى : لا يبقى فيه عرفان ما هو معروف ، ولا إنكار ما هو منكر ( " إلا ما أشرب " ) أي : القلب ( " من هواه " ) ، أي : فيتبعه طبعا من غير ملاحظة كونه معروفا أو منكرا شرعا . هذا مجمل الكلام ، وتفصيله ما ذكره شراح الكنز في هذا المقام .

قال القاضي - رحمه الله : أي حتى يصير جنس الإنس على قسمين : قسم ذو قلب أبي كالصفا ، وذو قلب أسود مربدا . قال المظهر : الضمير في يصير للقلوب أي : تصير القلوب على نوعين : أحدهما : أبيض ، وثانيهما : أسود . قال التوربشتي - رحمه الله : الصفا : الحجارة الصافية الملساء ، وأريد به هنا النوع الذي صفا بياضه ، وعليه نبه لقوله أبيض ، وإنما ضرب المثل به ; لأن الأحجار إذا لم تكن معدنية لم تتغير بطول الزمان ، ولم يدخلها لون آخر ، لا سيما النوع الذي ضرب به المثل فإنه أبدا على البياض الخالص الذي لا يشوبه كدرة ، وإنما وصف القلب بالربدة ; لأنه أنكر ما يوجد من السواد ، بخلاف ما يشوبه صفاء وتعلوه طراوة من النوع الخالص . وفي شرح مسلم : قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى : ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه ، لكنه صفة أخرى ; لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل ، وأن الفتن لم تلتصق به ولم تؤثر فيه كالصفا ، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء . وأما قوله : مربادا فكذا هو في روايتنا ، وأصول بلادنا ، وهو منصوب على الحال ، وذكر القاضي عياض - رحمه الله - خلافا في ضبطه ; فإن منهم من ضبطه كما ذكرناه ، ومنهم من روى ( مربئد ) بهمزة مكسورة بعد الباء ، وأصله أن لا يهمز ، ويكون مربدا مثل مسودا ومحمرا ; لأنه من أربد ، إلا على لغة من قال احمأر بهمز بعد الميم لالتقاء الساكنين ، فيقال : اربأد فهو مربئد والدال مشددة على القولين ، قال المظهر : قوله : إلا ما أشرب يعني : لا يعرف القلب إلا ما قيل من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية . وقال الطيبي - رحمه الله : ولعله أراد من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح ، أي : ليس في خير البتة إلا هذا ، وهذا ليس بخبر ; فيلزم منه أن لا يكون فيه خير . ( رواه مسلم ) .

[ ص: 3379 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية