صفحة جزء
5535 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا " ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ، " وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصيحابي أصيحابي فيقول : إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . فأقول أي قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله : العزيز الحكيم . متفق عليه .


5535 - ( وعن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنكم محشورون ) أي : ستبعثون ( حفاة ) : بضم الحاء جمع حاف وهو الذي لا نعل له ( عراة ) : بضم العين جمع عار وهو من لا ستر له ( غرلا ) : بضم الغين المعجمة وسكون الراء ، جمع الأغرل ، وهو الأقلف أي غير مختونين . قال العلماء : في قوله : غرلا إشارة إلى أن البعث يكون بعد رد تمام الأجزاء والأعضاء الزائلة في الدنيا إلى البدن ، وفيه تأكيد لذلك ، فإن القلفة كانت واجبة الإزالة في الدنيا ، فغيرها من الأشعار والأظفار والأسنان ونحوها أولى ، وذلك لغاية تعلق علم الله تعالى بالكليات والجزئيات ، ونهاية قدرته

[ ص: 3514 ] بالأشياء الممكنات ، ( ثم قرأ ) أي : استشهادا ، واعتضادا ، وقوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده : الكاف متعلق بمحذوف دل عليه نعيده أي نعيد الخلق إعادة مثل الأول ، والمعنى : بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، كذا نعيدهم يوم القيامة وعدا علينا أي : لازما لا يجوز الخلف فيه إنا كنا فاعلين أي ما وعدناه وأخبرنا به لا محالة .

قال الطيبي - رحمه الله : فإن قلت : سياق الآية في إثبات الحشر والنشر ; لأن المعنى نوجدكم عن العدم ، كما أوجدناكم أولا عن العدم ، فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور ؟ قلت : دل سياق الآية وعبارتها على إثبات الحشر ، وإشارتها على المعنى المراد من الحديث ، فهو من باب الإدماج . قلت : الظاهر أن الآية بعبارتها تدل على المعنيين وإن كان سياق الآية مختصا لأحدهما ، فإن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم في قوله : نوجدكم من العدم مسامحة ، والله أعلم . ( وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ) : عليه الصلاة والسلام ، قيل : لأنه أول من كسا الفقراء ، وقيل : لأنه أول من عري في ذات الله حين ألقي في النار ، لا لأنه أفضل من نبينا ، أو لكونه أباه فقدمه لعزة الأبوة ، على أنه قيل : إن نبينا يخرج في الناس من قبره في ثيابه التي دفن فيها ، وعندي - والله تعالى أعلم - أن الأنبياء ، يقومون من قبورهم حفاة عراة ، لكن يلبسون أكفانهم بحيث لا تكشف عوراتهم على أحد ، ولا على أنفسهم ، وهو المناسب لقوله - صلى الله عليه وسلم : ( أخرج من قبري وأبو بكر عن يميني وعمر عن يساري وآتي البقيع ) الحديث . ثم يركبون النوق ونحوها ، ويحضرون المحشر ، فيكون هذا الإلباس محمولا على الخلع الإلهية ، والحلل الجنتية ، على الطائفة الاصطفائية ، وأولية إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - يحتمل أن تكون حقيقية ، أو إضافية ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ثم رأيت في الجامع الصغير حديث : " أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ، ثم أقوم عن يمين العرش ، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري " . رواه الترمذي عن أبي هريرة ، ورواه الترمذي والحاكم عن ابن عمر : " أنا أول من تنشق عنه الأرض ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ، ثم أنتظر أهل مكة " . وقال التوربشتي - رحمه الله : نرى أن التقدم بهذه الفضيلة إنما وقع لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لأنه أول من عري في ذات الله حين أرادوا إلقاءه في النار ، فإن قيل : أوليس نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو المحكوم له بالفضل على سائر الأنبياء ، وتأخره في ذلك موهم أن الفضل للسابق ؟ قلنا : إذا استأثر الله سبحانه عبدا بفضله على آخر ، واستأثر المستأثر عليه على المستأثر بتلك الواحدة بعشر أمثالها أو أفضل كانت السابقة له ، ولا يقدح استئثار صاحبه عليه بفضيلة واحدة في فضله ، ولا خفاء بأن الشفاعة حيث لا يؤذن لأحد في الكلام لم تبق سابقة لأولي السابقة ، ولا فضيلة لذوي الفضائل إلا أتت عليها ، وكم له من فضائل مختصة به لم يسبق إليها ، ولم يشارك فيها . ( وإن ناسا من أصحابي ) أي : جماعة منهم ، والتنكير للتقليل ( يؤخذ بهم ذات الشمال ) أي : إلى النار مع أصحاب المشأمة ( فأقول : أصيحابي ) : بالتصغير للتقليل ، أي : هؤلاء أصحابي ( أصيحابي ! ) : كرره تأكيدا ، ويمكن أن يكون إشارة إلى جماعتين ، ( فيقول ) أي : قائل أو مجيب ( إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم ) .

قال القاضي - رحمه الله : يريد بهم من ارتد من الأعراب الذين أسلموا في أيامه ، كأصحاب مسيلمة ، والأسود وأضرابهم ، فإن أصحابه ، وإن شاع عرفا فيمن يلازمه من المهاجرين والأنصار ، شاع استعماله لغة في كل من تبعه ، أو أدرك حضرته ووفد عليه ولو مرة . قلت : الأول اصطلاح أصول الفقه ، والثاني مصطلح أهل الحديث . وقيل : أراد بالارتداد إساءة السيرة ، والرجوع عما كانوا عليه من الإخلاص ، وصدق النية ، والإعراض عن الدنيا . أقول : هذا بالإشارات الصوفية أنسب وأقرب ، وإلا فعبارة الارتداد غير مستقيمة على هذا المعنى أصلا ، ولا موافقة لقوله - عليه الصلاة والسلام : ( فأقول كما قال العبد الصالح ) : وهو عيسى - عليه الصلاة والسلام : وكنت عليهم أي : على أمتي شهيدا أي : مطلعا رقيبا حافظا ما دمت فيهم أي : موجودا فيما بينهم ( إلى قوله : العزيز الحكيم ) : وهو قوله : فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( متفق عليه ) ، ورواه الترمذي .

[ ص: 3515 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية