صفحة جزء
5555 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قالوا : يا رسول الله ! هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة ؟ قالوا : لا ، قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليست في سحابة ؟ قالوا : لا . قال : فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما . قال : فيلقى العبد فيقول : أي فل : ألم أكرمك وأسودك وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى . قال : فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا . فيقول : فإني قد أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثاني فذكر مثله ، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول : يا رب ! آمنت بك ، وبكتابك وبرسلك ، وصليت وصمت ، وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع ، يقول : هاهنا إذا ، ثم يقال : الآن نبعث شاهدا عليك ، ويتفكر في نفسه : من ذا الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه : انطقي ; فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ، وذلك ليعذر من نفسه ، وذلك المنافق ، وذلك الذي سخط الله عليه . رواه مسلم .

وذكر حديث أبي هريرة ( يدخل من أمتي الجنة ) في ( باب التوكل ) برواية عباس


5555 - ( وعن أبي هريرة قال : قالوا ) أي : بعض الصحابة ( يا رسول الله ! هل نرى ربنا ) : الاستفهام للاستخبار والاستعلام ( يوم القيامة ) ؟ قيد به للإجماع على أنه تعالى لا يرى في الدنيا ; لأن الذات الباقية لا ترى بالعين الفانية . ( قال : هل تضارون ) : بضم التاء وتفتح وتشديد الراء ، على أنه من باب المفاعلة أو التفاعل من الضرر ، والاستفهام للتقرير ، وهو حمل المخاطب على الإقرار ، والمعنى : هل يحصل لكم تزاحم وتنازع يتضرر به بعضكم من بعض ؟ ( في رؤية الشمس ) أي : لأجل رؤيتها أو عندها ( في الظهيرة ) : وهي نصف النهار ، وهو وقت ارتفاعها وظهورها وانتشار ضوئها في العالم كله . ( ليست ) : أي الشمس ( في سحابة ) ؟ أي غيم تحجبها عنكم ، ( قالوا : لا ، قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة ؟ قالوا : لا ، قال : فوالذي نفسي بهذه لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما ) . قال النووي - رحمه الله : روي تضارون بتشديد الراء وتخفيفها والتاء مضمومة فيهما ، وفي الرواية الأخرى : هل تضامون بتشديد الميم وتخفيفها ، فمن شددها فتح التاء ، ومن خففها ضمها ، وفي رواية البخاري : لا تضارون أو لا تضامون على الشك .

قال القاضي البيضاوي - رحمه الله : وفي تضارون المشدد من الضرر ، والمخفف من الضير أي : تكون رؤيته جلية بينة لا تقبل مراء ولا مرية ، فيخالف فيها بعضكم بعضا ويكذبه ، كما لا يشك في رؤية إحداهما يعني الشمس والقمر ، ولا ينازع فيها ، فالتشبيه إنما وقع في الرؤية باعتبار جلائها وظهورها ; بحيث لا يرتاب فيها لا في سائر كيفياتها ، ولا في المرئي ; فإنه سبحانه منزه عن الجسمية وعما يؤدي إليها ، وفي تضامون بالتشديد من الضم ، أي : لا ينضم بعضكم إلى بعض في طلب رؤيته ; لإشكاله وخفائه كما يفعلون في الهلال ، أو لا يضمكم شيء دونه فيحول بينكم وبينها ، وبالتخفيف من الضيم ، أي : لا ينالكم ضيم في رؤيته ، فيراه بعض دون بعض ، بل يستوون فيها ، وأصله تضيمون ، فنقلت فتحة الياء إلى الضاد ، فصارت ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها ، كذلك تضارون بالتخفيف ، وأما المشدد فيحتمل أن يكون مبنيا للفاعل على معنى لا تضارون ، أي : تتنازعون في رؤيته ، هذا ، وقال الطيبي : قوله : إلا كما تضارون ، كان الظاهر أن يقال : لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدها ، ولكنه أخرج مخرج قوله :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب



أي : لا تشكون فيه إلا كما تشكون في رؤية القمرين ، وليس في رؤيتهما شك فلا تشكون فيها ألبتة . ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فيلقى ) أي : الرب ( العبد ) أي : عبدا من عباده ( فيقول : أي فل ) : بضم الفاء وسكون اللام وتفتح وتضم أي فلان ، ففي النهاية معناه يا فلان وليس ترخيما له ; لأنه لا يقال إلا بسكون اللام ، ولو كان ترخيما لفتحوها أو ضموها . قلت : وقيل فلا ، كما يقال : سعى في سعيد . قال سيبويه : ليست ترخيما وإنما هي صيغة ارتجلت في باب النداء ، وقد جاء في غير النداء قال :


في لجة أمسك فلان عن فل



بكسر اللام للقافية ، وإنما قيل : ليس مرخما لأن شرط مثله أن يبقى بعد حذف النون والألف ثلاثة أحرف كـ " مروان " ، وقال قوم : إنه ترخيم فلان فحذفت النون للترخيم والألف لسكونها ، ويفتح اللام ويضم على مذهبي الترخيم ( ألم أكرمك ) أي : ألم أفضلك على سائر الحيوانات ( وأسودك ) أي : ألم أجعلك سيدا في قومك ( وأزوجك ) أي : ألم أعطك زوجا من جنسك ومكنتك منها ، وجعلت بينك وبينها مودة ورحمة ومؤانسة وألفة ، ( وأسخر لك الخيل والإبل ) أي : أذللها لك ، وخصتا بالذكر لأنهما أصعب الحيوانات ، ( وأذرك ) أي : لم

[ ص: 3529 ] أذرك ، والمعنى : ألم أدعك ولم أمكنك على قومك ( ترأس ) أي : تكون رئيسا على قومك ، والجملة حال ، ( وتربع ) ؟ أي : تأخذ رباعهم وهو ربع الغنيمة ; وكان ملوك الجاهلية يأخذونه لأنفسهم ، ( فيقول : بلى ) أي : في كل أو في الكل ( قال : فيقول ) أي : الرب ( أفظننت ) أي : أفعلمت ( أنك ملاقي ) ؟ بضم الميم وتشديد الياء المحذوفة العائدة بحذف التنوين والثانية ياء المتكلم المضاف إليه ، ( فيقول لا ، فيقول : فإني قد أنساك ) أي : اليوم أتركك من رحمتي ( كما نسيتني ) أي : في الدنيا من طاعتي . قال الطيبي - رحمه الله : هو مسبب عن قوله : أفظننت أنك ملاقي ، يعني سودتك وزوجتك ، وفعلت بك من الإكرام حتى تشكرني وتلقاني لأزيد في الإنعام ، وأجازيك عليه ، فلما نسيتني في الشكر نسيناك وتركنا جزاءك ، وعليه قوله تعالى : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ونسبة النسيان إلى الله تعالى إما مشاكلة أو مجاز عن الترك . ( ثم يلقى ) أي : الرب ( الثاني ) أي : من العبد ( فذكر مثله ) أي : قال الراوي : ذكر - صلى الله عليه وسلم - في الثاني مثل ما ذكر في الأول من سؤال الله تعالى له وجوابه . ( ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول : يا رب آمنت بك ، وبكتابك وبرسلك ، وصليت وصمت ، وتصدقت ، ويثني ) أي : يمدح الثالث على نفسه ( بخير ما استطاع ، فيقول ) أي : الرب ( هاهنا إذا ) : بالتنوين . قال الطيبي - رحمه الله : إذا جواب وجزاء ، والتقدير : إذا أثنيت على نفسك بما أثنيت إذا فأثبت هنا ; كي نريك أعمالك بإقامة الشاهد عليها ، قال شارح : أي يقول : إذا تجزى بأعمالك هاهنا ، وقال ابن الملك : أي أقر الثالث بظنه لقاء الله تعالى وعد أعماله الصالحة فيقول : هاهنا إذا ، أي قف في هذا الموضع إذا ذكرت أعمالك حتى تتحقق خلاف ما زعمت ، ( ثم يقال : الآن نبعث شاهدا عليك ، ويتفكر ) أي : العبد الثالث ( في نفسه : من ذا الذي يشهد علي ) : حال تقديره يتفكر في نفسه قائلا من ذا الذي يشهد علي ( فيختم على فيه ) أي : فمه ( فيقال ) : وفي نسخة ويقال ( لفخذه انطقي ، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه ) أي : المتعلقة بفخذه ( بعمله ، وذلك ) أي : إنطاق أعضائه أو بعث الشاهد عليه ، وقال الطيبي - رحمه الله : أشار إلى المذكور من السؤال والجواب ، وختم الفم ونطق الفخذ وغيره ، ( ليعذر من نفسه ) ، قال التوربشتي - رحمه الله : ليعذر على بناء الفاعل من الإعذار ، والمعنى : ليزيل الله عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه ; بحيث لم يبق له عذر يتمسك به ، وقيل ليصير ذا عذر في تعذيب من قبل نفس العبد ، ( وذلك ) أي : العبد الثالث ( المنافق ، وذلك الذي سخط ) : بكسر الخاء أي : غضب ( الله عليه ) . ( رواه مسلم ) .

( وذكر حديث أبي هريرة : يدخل من أمتي الجنة ) : صوابه على ما سبق : " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " ، ( في باب التوكل ، برواية ابن عباس ) . فكان البغوي - رحمه الله - ذكر الحديث مكررا بإسنادين : أحدهما هنا عن أبي هريرة ، والآخر هناك عن ابن عباس ، فحذف صاحب المشكاة ما هنا ، وأشار إلى أنه ذكر سابقا برواية ابن عباس تنبيها على ذلك ، فاندفع ما يتوهم من التدافع بين قوله حديث أبي هريرة ، وقوله براوية ابن عباس .

[ ص: 3530 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية