صفحة جزء
5572 - وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك ، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا ! فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الناس ، خلقك الله بيده ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا . فيقول : لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب : أكله من الشجرة وقد نهي عنها - ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم - ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن . قال : فيأتون إبراهيم ، فيقول : إني لست هناكم - ويذكر ثلاث كذبات كذبهن - ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة ، وكلمه وقربه نجيا . قال : فيأتون موسى فيقول : إني لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب - قتله النفس - ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته قال : فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال : فيأتوني فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول : ارفع محمد ، وقل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج ، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، ثم أعود الثانية فأستأذن على ربي في داره . فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : " ارفع محمد ، وقل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه " . قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج ، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، ثم أعود الثالثة ، فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : " ارفع محمد ! وقل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه " قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج ، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، حتى ما يبقى في النار إلا من قد حبسه القرآن ، أي : وجب عليه الخلود ، ثم تلا هذه الآية : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال : " وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم " . متفق عليه .


5572 - ( وعن أنس أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : ( يحبس ) أي : يوقف ( المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا ) : بصيغة المفعول أي يحزنوا ( بذلك ) أي : بسبب ذلك الحبس ، وفي نسخة بفتح الياء وضم الهاء على بناء الفاعل وليس بشيء . قال التوربشتي - رحمه الله : هو على بناء المجهول ، أي : يحزنوا لما امتحنوا به من الحبس ، من قولهم : أهمني الأمر إذا أقلقك وأحزنك ( فيقولون : لو استشفعنا ) أي : ليت طلبنا أحدا ليشفع لنا ( إلى ربنا فيريحنا ) أي : يعطينا الراحة ويخلصنا ( من مكاننا ! ) ، قال الطيبي - رحمه الله : لو هي المتضمنة للتمني والطلب ، وقوله : فيريحنا من مكاننا من الإراحة ، ونصبه بأن المقدرة بعد الفاء الواقعة جوابا لـ ( لو ) ، والمعنى : لو استشفعنا أحدا إلى ربنا فيشفع لنا ; فيخلصنا مما نحن فيه من الكرب والحبس . قال في أساس البلاغة : شفعت له إلى فلان وأنا شافعه وشفيعه ، واستشفعني إليه فشفعت له واستشفع بي ، قال الأعمش :


مضى زمن والناس يستشفعونني فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع



( فيأتون آدم ) : الظاهر أن المراد بهم رؤساء أهل المحشر لا جميع أهل الموقف ( فيقولون ) أي : بعضهم ( أنت آدم ) : هو من باب قوله :


أنا أبو النجم وشعري شعري



وهو فيه معنى الكمال لا يعلم ما يراد منه ففسر بما بعد من قوله : ( أبو الناس من خلقك الله بيده ) أي : بلا واسطة ، أو بقدرته الكاملة ، أو إرادته الشاملة ( وأسكنك جنته ) ، فيه إيماء إلى حصول المآل ووصول المنال ، وما تميل إليه النفس من حسن المال ( وأسجد لك ملائكته ) أي : سجود تحية ، وفيه إشارة إلى كمال الجاه والعظمة ، ( وعلمك أسماء كل شيء ) : فيه إشعار بإعطاء الفضيلة العظمى والمرتبة الكبرى . قال الطيبي - رحمه الله : وضع كل شيء موضع أشياء ، أي : المسميات ; لقوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها أي : أسماء المسميات إرادة للتفصي ، أي : واحدا فواحدا حتى يستغرق المسميات كلها . ( اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ) ، أي : هذا المكان العظيم والموقف الأليم ( فيقول : لست هناكم ) ، قيل : هنا لحق به كاف الخطاب يكون للبعد من المكان المشار إليه ، فالمعنى

[ ص: 3539 ] أنا بعيد من مقام الشفاعة ، قال القاضي البيضاوي : أي يقول آدم - عليه الصلاة والسلام - لهم : لست في المكان والمنزل الذي تحسبونني فيه ، يريد به مقام الشفاعة . وقال القاضي عياض - رحمه الله : هو كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة ، قاله تواضعا وإكبارا لما يسألونه ، قال : وقد يكون فيه إشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري . قال العسقلاني - رحمه الله : وقد وقع في رواية فيقول : لست لها ، وكذا في بقية المواضع ، وفي رواية : ليست لصاحبك ذاك ، وهو يؤيد الإشارة المذكورة .

( ويذكر خطيئته التي أصاب ) أي : اعتذارا عن التقاعد والتأني عن الشفاعة ، والراجع إلى الموصول محذوف ، أي : التي أصابها ، وقوله : ( أكله من الشجرة ) : بالنصب بدل من خطيئته ، أي : يذكر أكله من الشجرة ، ذكره البيضاوي . قال الطيبي - رحمه الله : ويجوز أن يكون بيانا للضمير المبهم المحذوف ، نحو قوله تعالى : فسواهن سبع سماوات ، ( وقد نهي ) أي : آدم - عليه الصلاة والسلام - ( عنها ) أي : عن الشجرة أو عن الخطيئة ، والجملة حال من المفعول ، ( ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ) ، استشكلت هذه الأولية بأن آدم - عليه السلام - نبي مرسل ، وكذا شيث وإدريس وغيرهم ، وأجيب : بأن الأولية مقيدة بقوله أهل الأرض ، ويشكل ذلك بحديث جابر في البخاري في التيمم ، وكان النبي يبعث خاصة إلى قوم خاصة ، ويجاب بأن العموم لم يكن في أصل بعثة نوح ، وإنما اتفق باعتبار حصر الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس انتهى . وفيه نظر ظاهر لا يخفى ، وقيل : إن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلا ، ويرد عليه حديث أبي ذر عند ابن حبان ، فإنه كالصريح بإنزال الصحف على شيث ، وهو علامة الإرسال انتهى . وفيه بحث ; إذ لا يلزم من إنزال الصحف أن يكون المنزل عليه رسولا ; لاحتمال أن يكون في الصحف ما يعمل به بخاصة نفسه ، ويحتمل أن لا يكون فيه أمر ونهي ، بل مواعظ ونصائح تختص به . فالأظهر أن يقال : الثلاثة كانوا مرسلين إلى المؤمنين والكافرين ، وأما نوح - عليه السلام - فإنما أرسل إلى أهل الأرض ، وكلهم كانوا كفارا ، هذا وقد قيل : هو نبي مبعوث أي مرسل ، ومن قبله كانوا أنبياء غير مرسلين كآدم وإدريس - عليهم الصلاة والسلام - فإنه جد نوح على ما ذكره المؤرخون .

قال القاضي عياض : قيل إن إدريس هو إلياس ، وهو نبي من بني إسرائيل ، فيكون متأخرا عن نوح ; فيصح أن نوحا أول نبي مبعوث من كون إدريس نبيا مرسلا ، وأما آدم وشيث ، فهما وإن كانا رسولين إلا أن آدم أرسل إلى بنيه ولم يكونوا كفارا ، بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله ، وشيث كان خلفا له فيهم بعده ، بخلاف نوح ، فإنه مرسل إلى كفار أهل الأرض ، وهذا أقرب من القول بأن آدم وإدريس لم يكونا رسولين ، وقد يقال : إنه أول نبي بعثه الله بعد آدم ، على أن شيثا كان خليفة له فأوليته إضافية ، أو أول نبي بعثه من أولي العزم ، فالأولية حقيقية ، وهذا أوفق الأقوال ، وبه يزول الإشكال ، والله تعالى أعلم بالحال .

وفي شرح مسلم قال المازري : قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح ، فإن قام دليل على أنه أرسل أيضا لم يصح أنه قبل نوح ; لإخبار النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن آدم - عليه الصلاة والسلام - أن نوحا أول رسول بعث بعده ، وإن لم يقم دليل جازم قالوه ، وصح أن يحمل أن إدريس كان نبيا مرسلا . قال القاضي عياض : وقد قيل إن إدريس هو إلياس ، وأنه كان نبيا في بني إسرائيل ، كما جاء في بعض الأخبار ، فإن كان هكذا سقط الاعتراض ، وبمثل هذا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ، ورسالتهما إلى من معهما ، وإن كانا رسولين ، فإن آدم أرسل إلى بنيه ولم يكونوا كفارا ، وكذلك شيث خلفه بعده ، بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض . قال القاضي - رحمه الله : وقد رأيت أبا الحسن ذهب إلى أن آدم ليس برسول الله ليسلم من هذا الاعتراض ، وحديث أبي ذر نص دال على أن آدم وإدريس رسولان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ ص: 3540 ] ( فيأتون نوحا فيقول ) : إني على ما في نسخة ( لست هناكم ) : قال شارح : أي لست في مكان الشفاعة ، وأشار بقوله : هناكم إلى البعد من ذلك المكان ، وفي شرح مسلم للنووي . قال القاضي عياض : إنما يقولونه تواضعا ، وإكبارا لما يسألونه ، وقد يكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة ، وهذا المقام ليس له بل لغيره ، وكل واحد منهم يدل على الآخر حتى ينتهي الأمر إلى صاحبه ، ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - معينا ، ويكون إحالة كل واحد منهم على الآخر ، لأن تندرج الشفاعة في ذلك إلى نبينا محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - ومبادرة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لذلك ، وإجابته لرغبتهم ; لتحققه أن هذه الكرامة والمقام له خاصة . قال الشيخ محيي الدين - رحمه الله : والحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده - صلوات الله تعالى وسلامه عليهم - في الابتداء ، ولم يلهموا سؤال نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - إظهارا لفضيلة نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا ، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه ، فامتنعوا ، ثم سألوه فأجاب ، وحصل غرضهم ، فهو النهاية في ارتفاع المنزلة وكمال القرب ، وفيه تفضيله على جميع المخلوقين من الرسل الآدميين والملائكة المقربين ، فإن هذا الأمر العظيم وهي الشفاعة العظمى لا يقدر على الإقدام عليه غيره - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .

( ويذكر ) أي : نوح عليه السلام ( خطيئته التي أصاب - يعني سؤاله ربه بغير علم - ) أي : قوله : إن ابني من أهلي إلى آخره ، وكان سؤاله إنجاء ابنه ، وكان غير عالم بأنه لا يجوز هذا السؤال ; ولذا قال تعالى : إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إلى آخره . قال الطيبي - رحمه الله : قوله : سؤاله ربه بغير علم موقع سؤاله هنا موقع أكله في القرينة السابقة ، وقوله : بغير علم حال من الضمير المضاف إليه في سؤاله ، أي : صادرا عنه بغير علم وربه مفعول سؤاله ، والمراد بالسؤال قوله : إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ; طلب أن ينجيه من الغرق ، والمراد من قوله : بغير علم أنه سأل ما لا يجوز سؤاله ، وكان يجب عليه أن لا يسأل ، كما قال تعالى : فلا تسألن ما ليس لك به علم ; وذلك أنه قال : إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق أي : وعدتني أن تنجي أهلي من الغرق ، وأن ابني من أهلي فنجه ، قيل له : ما شعرت من المراد بالأهل ، وهو من آمن وعمل صالحا وإن ابنك عمل غير صالح . ( ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن . قال : فيأتون إبراهيم ، فيقول : إني لست هناكم - ويذكر ثلاث كذبات كذبهن - ) : بالتخفيف أي : قالهن كذبا . قال البيضاوي - رحمه الله : إحدى الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قوله : إني سقيم ، وثانيتها قوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وثالثتها قوله لسارة : هي أختي والحق أنها معاريض ، ولكن لما كانت صورتها صورة الكذب سماها أكاذيب ، واستنقص من نفسه لها ، فإن من كان أعرف بالله وأقرب منه منزلة كان أعظم خطرا وأشد خشية ، وعلى هذا القياس سائر ما أضيف إلى الأنبياء من الخطايا . قال ابن الملك : الكامل قد يؤاخذ بما هو عبادة في حق غيره ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين . ( ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله ) : استئناف تعليل وبيان ، والمعنى : أعطاه ( التوراة ) : وهي أول الكتب الأربعة المنزلة ( وكلمه ) أي : بلا واسطة ( وقربه نجيا ) أي : مناجيا له أو مناجى بناء على أنه حال من الفاعل أو المفعول . ( قال : فيأتون موسى فيقول : إني لست هناكم - ويذكر خطيئته التي أصاب - قتله النفس - ) أي : نفس القبطي ، وفي نسخة قتل النفس بغير ضمير ( ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله [ ص: 3541 ] وروح الله ) : أضافه إليه تشريفا ، ولأنه كان يحيي الموتى ( وكلمته ) أي : خلق بأمر ( كن ) أو كلمته في دعوته كانت مستجابة ، ( قال : فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ) : إنما قال كذا مع أن خطيئته غير مذكورة لعله لاستحيائه من افتراء النصارى في حقه بأنه ابن الله ونحو ذلك ، كذا ذكره ابن الملك في شرح المشارق . ( ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) أي : فلم يكن له مانع من مقام الشفاعة العظمى . قال النووي : هذا مما اختلفوا في معناه . قال القاضي : قيل المتقدم ما كان قبل النبوة ، والمتأخر عصمته بعدها ، وقيل : المراد به ما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - عن سهو وتأويل ، حكاه الطبري واختاره القشيري - رحمه الله - وقيل : ما تقدم لأبيه آدم - عليه الصلاة والسلام - وما تأخر من ذنوب أمته ، وقيل : المراد أنه مغفور له ، غير مؤاخذ بذنب لو كان ، وقيل : هو تنزيه له من الذنوب .

( قال : فيأتون ) : بتشديد النون وتخفيف كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام : أتحاجوني في الله وقد هدان ، ( فأستأذن على ربي ) أي : فأطلب الإذن منه ; للأدب مع الرب ( في داره ) أي : دار ثوابه وهو الجنة ، وقيل : ذلك تحت عرشه . قال الطيبي رحمه الله : أي فأستأذن في الدخول على دار ربي ( فيؤذن لي عليه ) أي : في الدخول على الرب سبحانه . قال التوربشتي - رحمه الله تعالى : إضافة دار الثواب إلى الله تعالى هنا كإضافته في قوله تعالى : لهم دار السلام عند ربهم على أن السلام من أسماء الله تعالى على أحد الوجهين ، وإضافتها إلى الله تعالى للشرف والكرامة ، والمراد بالاستئذان عليه أن يدخل مكانا لا يقف فيه داع إلا استجيب ، ولا يقوم به سائل إلا أجيب ، ولم يكن بين الواقف فيه وبين ربه حجاب ، والحكمة في نقله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن موقفه ذلك إلى دار السلام لعرض الحاجة هي أن موقف العرض والحساب موقف السياسة ، ولما كان من حق الشفيع أن يقوم مقام كرامته ; فتقع الشفاعة موقعها أرشد - صلى الله تعالى وسلم - إلى النقلة عن موقف الخوف في القيامة إلى موقف الشفاعة والكرامة ، وذلك أيضا مثل الذي يتحرى الدعاء في موقف الخدمة ليكون أحق بالإجابة . قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى : معناه فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها والمقام المحمود الذي أخره الله تعالى له فأعلمه أنه يبعثه فيه .

( فإذا رأيته ) أي : بارتفاع الحجاب عني ، وفي المشارق : فإذا أنا رأيته بزيادة أنا . قال ابن الملك : أي إني رأيتني ، وهذا التفات من التكلم إلى الغيبة ، ( وقعت ساجدا ) أي : خوفا منه وإجلالا ، أو تواضعا له وإذلالا ، أو انبساطا له وإذلالا . ( فيدعني ) أي : يتركني ( ما شاء الله أن يدعني ) أي : في السجود ، ففي مسند أحمد : أنه يسجد قدر جمعة من جمع الدنيا ، كذا ذكره السيوطي - رحمه الله - في حاشية مسلم ، ( فيقول : ارفع ) أي : رأسك من السجود ( محمد ) أي : يا محمد ; فإنك صاحب المقام المحمود ( وقل ) أي : ما شئت ( تسمع ) : بصيغة المجهول ، أي : يقبل قولك ، أو قل ما ألهمك من الثناء لتسمع ، أي : تجاب ( واشفع ) أي : فيمن شئت ( تشفع ) : بفتح الفاء المشددة أي : تقبل شفاعتك ( وسل ) أي : ما تريد من المزيد ( تعطه ) بهاء السكت ، في نسخة بالضمير ، أي : تعط ما تسأل ، فالضمير راجع إلى المصدر المفهوم من الفعل ، وهو بمعنى المفعول ( قال : فأرفع رأسي ، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ) : بتشديد اللام أي : يلهمنيه حينئذ ولا أدريه الآن ( ثم أشفع ) ، قال القاضي : وجاء في حديث أنس وحديث أبي هريرة : ابتدأ النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد سجوده وحمده والإذن له في الشفاعة بقوله : أمتي ( فيحد ) : بضم الياء وفتح الحاء ، وفي نسخة بالعكس ، أي : فيعين ( لي حدا ) : وهو إما مصدر أو اسم ، أي : مقدارا معينا في باب الشفاعة . قال التوربشتي - رحمه الله : يريد أنه يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده ، فلا أتعداه ، مثل أن يقول :

[ ص: 3542 ] شفعتك فيمن أخل بالجماعات ، ثم يقول : شفعتك فيمن أخل بالجمعات ، ثم يقول : شفعتك فيمن أخل بالصلوات ، ومثله فيمن شرب الخمر ، ثم فيمن زنى ، وعلى هذا ليريه علو الشفاعة في عظم الذنب على ما فيه من الشناعة ، ( فأخرج ) أي : من دار ربي ( فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ) .

قال الطيبي - رحمه الله : فإن قلت : دل أول الكلام على أن المستشفعين هم الذين حبسوا في الموقف وهموا وحزنوا لذلك ، فطلبوا أن يخلصهم من ذلك الكرب ، ودل قوله : فأخرجهم من النار على أنهم من الداخلين فيها فما وجهه ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : لعل المؤمنين صاروا فرقتين : فرقة سار بهم إلى النار من غير توقف ، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به - صلى الله تعالى عليه وسلم - فخلصهم مما فيه ، وأدخلهم الجنة ، ثم شرع في شفاعة الداخلين في النار زمرا بعد زمر ، كما دل عليه قوله : ( فيحد لي حدا ) إلى آخره ، فاختصر الكلام وهو من حلية التنزيل ، وقد ذكرنا قانونا في فتوح الغيب في سورة هود يرجع إليه مثل هذا الاختصار . قلت : مراده أنه ذكر الفرقة الثانية ، واقتصر على خلاصها ; لأنه يفهم منها خلاص الفرقة الأولى بالأولى ، وقد يقال : إنه من باب الاكتفاء ، وثانيهما : أن يراد بالنار الحبس والكربة ، وما كانوا به من الشدة ودنو الشمس إلى رءوسهم وحرها وإلجامهم العرق ، وبالخروج الخلاص منها . قلت : وهذا القول وإن كان مجازا لكنه إلى حقيقة الأمر أقرب ، وإلى أصل القضية أنسب ; فإن المراد بهذه الشفاعة الكبرى ، وهي المعبر عنها بالمقام المحمود واللواء الممدود على ما قاله - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) ، ومحط هذه الشفاعة هي الخلاص من الحبس والقيام ، والأمر بالمحاسبة للأنام ، وأما له - صلى الله تعالى عليه وسلم - وكذا لغيره من الأنبياء والأولياء ، والعلماء والشهداء ، والصالحين والفقراء بعد ذلك شفاعات متعددة في إدخال بعض المؤمنين الجنة بلا حساب ، وإدخال بعضهم الجنة ولو استحقوا دخول النار ، وإخراج بعضهم من النار ، وفي تخفيف عذاب بعضهم ، وفي ترقي درجات بعضهم في الجنة وأمثالها ، ولكن فيه أنه لو أريد هذا المعنى لما كررت هذه القضية مرات على ما لا يخفى ، اللهم إلا أن يقال : ينقسم أهل الموقف من المؤمنين العصاة على أقسام ثلاثة . وقال ابن الملك : تكون الشفاعة أقساما : أولها للإراحة من الموقف ، وثانيها : لإدخالهم الجنة بغير حساب ، وثالثها : عند المرور على الصراط ، ورابعها : للإخراج من النار ، فذكر في الحديث القسمين وطوى الآخرين من البين ، والله تعالى أعلم .

( ثم أعود ) أي : أرجع إلى ربي ( الثانية ) أي : المرة الثانية ( فأستأذن على ربي في داره ) أي : في دخولها ( فيؤذن لي عليه ) أي : بالدخول عليه ( فإذا رأيته ) أي : ذلك المكان ، أو رأيت ربي مع تنزيهه عن المكان ، وعن سائر صفات الحدثان ( وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ) أي : في مقام الفناء ( ثم يقول ) : ردا لي إلى حال البقاء ( ارفع محمد ، وقل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ) . قال : ( فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج ، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، ثم أعود الثالثة ، فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ) قال ( فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج ، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، حتى ما يبقى في النار ) أي : من هذه الأمة ( إلا من قد حبسه

[ ص: 3543 ] القرآن ) أي : منعه من خروج النار بأن أخبر أنه مخلد في دار الفجار ، وهذا معنى قول الراوي للحديث عن أنس ، وهو قتادة من أجلاء التابعين ( أي : وجب عليه الخلود ) أي : دل القرآن على خلوده وهم الكفار ، ومعنى وجب أي ثبت وتحقق ، أو وجب بمقتضى إخباره تعالى ; فإنه لا يجوز فيه التخلف أبدا ( ثم تلا هذه الآية ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أو أنس ، أو قتادة ، تذكرا أو استشهادا أو اعتضادا ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ( قال ) أي : أنس وهو أنسب ، أو قتادة وهو أقرب ، ويحتمل أن فاعله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - على بعد ، ( وهذا المقام ) : مبتدأ وخبر موصوف بقوله : ( المحمود الذي وعده ) أي : الله سبحانه ( نبيكم ) ، وفي نسخة : وعد نبيكم بصيغة المجهول ، وهذا على أن فاعل قال غيره - صلى الله تعالى عليه وسلم - ظاهر لا إشكال ، وأما على القول بأن القائل هو - صلى الله تعالى عليه وسلم - فتوجيهه أنه وضع المظهر موضع المضمر ، وكان الأصل أن يقول : وعدنيه . وقالالطيبي - رحمه الله : يحتمل أن يكون فاعل قال الراوي ، وأن يكون النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - على سبيل التجريد تعظيما لشأنه ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية