صفحة جزء
5577 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله تعالى في إبراهيم رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني وقال عيسى : إن تعذبهم فإنهم عبادك فرفع يديه ، فقال : " اللهم أمتي أمتي " . وبكى ، فقال الله تعالى : " يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فسله ما يبكيه ؟ فأتاه جبريل ، فسأله فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال ، فقال الله لجبريل : اذهب إلى محمد فقل : " إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك " . رواه مسلم .


5577 - ( وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - تلا قول الله تعالى في إبراهيم ) : عليه السلام ، أي : في سورته أو حاكيا في حقه ( رب إنهن ) أي : الأصنام ( أضللن كثيرا من الناس ) أي : صرن سبب ضلال كثير منهم ( فمن تبعني ) أي : في التوحيد والإخلاص والتوكل ( فإنه مني ) [ ص: 3547 ] أي من أتباعي وأشياعي ، وتمامه : ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) أي : تغفر ما دون الشرك لمن تشاء وترحمه بالتفضل على من تشاء ، أو تغفر للعاصي المشرك بأن توفقه للإيمان والطاعة في الدنيا ، وترحم عليه بزيادة المثوبة في العقبى . ( وقال عيسى عليه السلام ) ، قال النووي - رحمه الله : هو مصدر ، يقال : قال قولا وقيلا ، وقد أضاف إلى عيسى عطفا على مفعول تلا ، أي : تلا قول الله وقول عيسى : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وآخره : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي : لا يغلبنك شيء ; فإنك القوي القادر وتحكم بما تشاء ، فأنت الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، أو الحكيم الذي يضع الأشياء في موضعها ، ويتقن الأفعال ويحسنها ، ( فرفع ) أي : النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ( يديه ) أي : كريمتيه ( فقال : اللهم أمتي أمتي ) أي : اللهم اغفر لأمتي ، اللهم ارحم أمتي ، ولعل هذا وجه التكرار ، أو أريد به التأكيد ، أو قصد به الأولون والآخرون ( وبكى ) ; لأنه تذكر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - الشفاعة الصادرة عن الخليل وروح الله فرق لأمته ( فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ) : جملة معترضة حالية دفعا لما يوهمه قوله : ( فاسأله ) : بالهمز والنقل ( ما يبكيه ، فأتاه جبريل فسأله ، فأخبره رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم بما قال ) أي : بشيء قاله النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - من سبب البكاء ، وهو الخوف لأجل أمته ( فقال له لجبريل : اذهب إلى محمد ، فقل : إنا ) أي : بعظمتنا ( سنرضيك ) أي : سنجعلك راضيا ( في أمتك ) أي : في حقهم ( ولا نسوءك ) أي : ولا نحزنك في حق الجميع ، بل ننجيهم ، ولأجل رضاك نرضيهم ، وهو في المعنى تأكيد ; إذ ربما يتوهم من سنرضيك نرضيك في حق البعض ; ولذا قال بعضهم : ما يرضى محمد وأحد من أمته في النار . قال الطيبي - رحمه الله : لعله - عليه الصلاة والسلام - أتى بذكر الشفاعة التي صدرت عن النبيين عن الخليل بتقدير الشرط والصيغة الشرطية ; لأن المعنى أن الأصنام أضللن كثيرا من الناس ، فمن تاب من عبادتها وتبعني في التوحيد ، فإنه متصل بي فأقبل شفاعتي فيهم ، فلا بد من تقدير تاب لأنه مصحح الشفاعة في حق المشركين . قلت إنما يحتاج تقدير تاب في الشرطية الثانية ، وهي قوله : ومن عصاني . قال : وعن روح الله كذلك ; لأن الضمير في ( تغفر لهم ) راجع إلى من اتخذه وأمه إلهين من دون الله ، فيكون التقدير : إن تغفر لهم بعدما تابوا عن ذلك ; فإنك غفور رحيم . قلت : لا يلائمه ما قبله ، وهو قوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك ، مع أن هذا الكلام يصدر عنه يوم القيامة ، ولا يمكن تقدير التوبة هناك ، ثم الجزاء في الآية إنما هو قوله : فإنك أنت العزيز الحكيم في كلام عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأما قوله : فإنك غفور رحيم جزاء للشرطية الواقعة في كلام إبراهيم ( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) ، ثم قال وعقبه بقوله : اللهم أمتي ; ليبين لهم الفرق بين الشفاعتين ; ويبين ما بين المنزلتين ، وفيه أن هذا البيان يحتاج إلى البرهان والتبيان ، فإن العرض بطريق الكناية أبلغ من التصريح بالدعاء ، كما هو مقرر عند أرباب الفناء والبقاء ، وكذلك طريق التفويض والتسليم والرضا بالقضاء ، ولا يظهر بيان للمدعي ولا تبيان للمعنى في قوله ، وتحريره أن قوله : أمتي أمتي متعلق بمحذوف إما أن يقدر شفعني في أمتي وأرضني فيها ، أو أمتي ارحمهم وأرضني بالشفاعة فيهم ، والحذف لضيق المقام وشدة الاهتمام . قلت : يحتاج أيضا هذا الكلام إلى توضيح المرام . قال : وهذا يدل على الجزم والقطع . قلت : الدعاء لا يكون بطريق القطع ; إذ لا حكم على الله سبحانه ، فمآل الطريقين في الدعاء واحد ، وليس لهذا المقصد جاحد . قال : والتكرير لمزيد التقرير . قلت : قد تقدم وجوه أخر ، والأظهر أنه من مستحبات الدعاء ; فإن الإلحاح من العبد في المسألة لا ينافي الرضا بالقضاء . قال : ومن ثم أجيب في الحديث بقوله :

[ ص: 3548 ] إنا سنرضيك ; حيث أتى بأن وضمير التعظيم وسين التأكيد ، ثم أتبعه بقوله : لا نسوءك تقريرا بعد تقرير على الطرد والعكس وفي التنزيل : ولسوف يعطيك ربك فترضى زيد لام الابتداء على حرف الاستقبال ولفظة : ربك ، وجمع بين حرفي التأكيد والتأخير ; فيكون المعنى : ولأنت سوف يعطيك ربك ، وإن تأخر العطاء ، وقوله : وربك أعلم من باب التتميم صيانة عما لا ينبغي أن يتوهم ، فهو كقوله : والله يعلم إنك لرسوله في قوله تعالى : قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون .

قال النووي - رحمه الله : هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد ، منها : بيان كمال شفقته - صلى الله تعالى عليه وسلم - على أمته ، واعتنائه بمصالحهم ، واهتمامه في أمرهم ، ومنها : البشارة العظيمة لهذه الأمة المرحومة بما وعده الله تعالى بقوله : سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة ، ومنها : بيان عظم منزلة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عند الله تعالى ، والحكمة في إرسال جبريل - عليه الصلاة والسلام - لسؤاله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إظهارا لشرفه ، وأنه بالمحل الأعلى ; فيرضى ويكرم . ( رواه مسلم ) ، وكذا البخاري ، والنسائي ، ذكره السيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية