صفحة جزء
5582 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " آخر من يدخل الجنة رجل ، يمشي مرة ، ويكبو مرة ، وتسفعه النار مرة ، فإذا جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين ، فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها

فيقول الله : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟ فيقول : لا يا رب ، ويعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه يعذره ; لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها ; فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها ، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى ، فيقول : أي رب ! أدنني من هذه الشجرة لأشرب من مائها ، وأستظل بظلها ، لا أسألك غيرها ، فيقول : يا ابن آدم ! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ فيقول : لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها ; فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها ، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين ، فيقول : أي رب ! أدنني من هذه فلأستظل بظلها وأشرب من مائها ، لا أسألك غيرها ، فيقول : يا ابن آدم ! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ قال : بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها ، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها ، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة ، فيقول : يا رب ! أدخلنيها ، فيقول : يا ابن آدم ما يصريني منك ؟ أيرضيك إن أعطيتك الدنيا ومثلها معها ، قال : أي رب ! أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ فضحك ابن مسعود ; فقال : ألا تسألوني مما أضحك ؟ فقالوا : مم تضحك ؟ فقال ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : مم تضحك يا رسول الله ؟ قال : من ضحك رب العالمين حين قال : أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ؟ فيقول : إني لا أستهزئ منك ، ولكني على ما أشاء قادر
" . رواه مسلم .


5582 - ( وعن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : آخر من يدخل الجنة رجل ، فهو يمشي مرة ) : قال الطيبي - رحمه الله : الفاء يجوز أن تكون تفصيلية أبهم أولا دخوله الجنة ، ثم فصل كيفية دخولها ثانيا ، وأن تكون لتعقيب الأخبار ، وإن تقدم ما بعدها على ما قبلها في الوجود ، فوقعت موقع ثم في هذا المعنى ، كأنه قيل : أخبركم عقيب هذا القول حاله ، فهو يمشي قبل دخوله في الجنة مرة ( ويكبو ) : بضم الموحدة أي : يقف ، وقيل : يسقط لوجهه ( مرة ) أي : أخرى ( وتسفعه النار ) : بفتح الفاء أي : تحرقه ( مرة ) ، أو يجعل علامة عليه من سواد الوجه وزرقة العين ، يقال : سفع من النار أي علامة منها ، وسفعت الشيء إذا جعلت عليه علامة . قال ابن الملك : أي تلفحه لفحا يسيرا ; فيتغير لون بشرته ، وقيل : أي تعلمه علامة ، أي : أثرا منها ، وفي القاموس : لفحت النار بحرها أحرقت ، وسفع الشيء كمنعه أعلمه ووسمه والسموم وجهه : لفحه لفحا يسيرا ( فإذا جاوزها التفت إليها فقال : تبارك ) أي : تعظم وتعالى أو تكاثر خيره ( الذي نجاني منك ) : هذا فرح بما أعطيه من النجاة ، وقوله : لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين ) : جواب قسم محذوف ، أقسم من الفرح أن نجاته نعمة ما ظفر بها أحد من العالمين ، ولعل وجهه أنه ما رأى أحدا مشاركا له في خروجه من النار ، ولم يدر أن الأبرار في نعيم دار القرار ، ( فترفع له شجرة ) أي : عندها عين ماء ; لما سيأتي ، ( فيقول : أي رب ) : وأي في الأصل لنداء القريب ، ويا : للبعيد ، فتارة ينظر إلى قرب الرب من العبد ، كما قال سبحانه وتعالى : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، وتارة يراعى بعد العبد من الرب كما قيل : يا للتراب ، ورب الأرباب ، ( أدنني ) : أمر من الإدناء أي : قربني ( من هذه الشجرة فلأستظل ) : بكسر اللام الأولى ونصب الفعل ، قال الطيبي - رحمه الله : الفاء سببية واللام مزيدة ، أو بالعكس ، يعني : والفاء مزيدة واللام للعلة ، ففيه مسامحة لا تخفى ، ثم في الكلام تجريد ، والمعنى لأنتفع ، ( بظلها وأشرب من مائها ، [ ص: 3558 ] فيقول الله : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها ) أي : مسألتك أو أمنيتك ( سألتني غيرها ) : هو جواب الشرط ، وهو دال على خبر لعل ، ( فقول : لا يا رب ، ويعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه يعذره ) : بفتح الياء ويضم ، أي : يجعله معذورا . وفي النهاية : وقد يكون أعذر بمعنى جعله موضع العذر ، وفي ( المشارق ) : عذرته وأعذرته أي : قبلت عذره ، وفي ( المصباح ) عذرته فيما صنع عذرا ، من باب ضرب ، رفعت عنه اللوم فهو معذور ، وأعذرته بالألف لغة ، واعتذر أي : طلب قبول معذرته ، واعتذر عن فعله أظهر عذره ، ( لأنه ) أي : العبد ( يرى ما لا صبر له عليه ) ، كذا في الأصول في المرتين الأوليين ، وكذا في الثالثة في بعض الأصول ، وفي أكثرها عليها بتأويل ما بنعمة ، وعلى بمعنى عن ، كذا في شرح مسلم للنووي ، وقرره السيوطي في حاشية على مسلم ، ( فيدنيه منها ) أي : فيقربه من الشجرة ( فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها ، ثم ترفع له شجرة ) أي : أخرى ، هي ( أحسن من الأولى ) ; لأنه أراد له الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ( فيقول : أي رب ! أدنني من هذه الشجرة لأشرب من مائها ، وأستظل بظلها ) : الواو لمطلق الجمع ; لأن الظاهر أن الاستراحة بظلها قبل الشرب من مائها ، ( لا أسألك غيرها ) : قال الطيبي - رحمه الله : هو حال تنازع فيه أستظل وأشرب ( فيقول : يا ابن آدم ! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ فيقول ) أي : الرب ( لعلي إن أدنيتك منها تسألني ) : بالرفع أي : تطلب مني ( غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها ، وربه يعذره ; لأنه يرى ما لا صبر له عليه ، فيدنيه منها فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها ، ثم ترفع له شجرة ) أي : ثالثة ( عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين ، فيقول : أي رب ! أدنني من هذه فلأستظل بظلها ، وأشرب من مائها ، لا أسألك غيرها ، فيقول : يا ابن آدم ! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ قال : بلى يا رب هذه ) : منصوب المحل بفعل يفسره ما بعده ، أي : هذه أسألك ( لا أسألك غيرها ) : حال أو استئناف ( وربه يعذره ; لأنه يرى ما لا صبر له عليه ) ، وفي بعض النسخ ( عليها ) ، وقد سبق الكلام عليهما ، ( فيدنيه منها ، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة ) أي : في مصاحبتهم مع أزواجهم ، ومجاوزتهم مع أصحابهم ; فأراد الاستئناس بهم ، أو في غنائهم ; فأراد التقرب ليتلذذ بأنغامهم ، ( فيقول : يا رب ! أدخلنيها ، فيقول : يا ابن آدم ! ما يصريني ) ؟ : بفتح الياء وسكون الصاد المهملة .

قال صاحب النهاية : وفي رواية ما يصريك من ، أي : ما يقطع مسألتك ويمنعك من سؤالي ؟ يقال : صريت الشيء إذا قطعته ، وصريت الماء جمعته وحبسته انتهى . والمعنى : قد كررت سؤالك مع معاهدتك أن لا تسأل ، فماذا يقطع سؤالك عني ويرضيك ؟ قال التوربشتي : صرى عنه شره أي دفع ، وصريته منعته ، وصريت ما بينهم صريا أي : فصلت ، يقال : اختصمنا إلى الحاكم فصرى ما بيننا أي : قطع ما بيننا وفصل ، وحسن أن يقال : ما يفصل بيني وبينك ، أي : ما الذي يرضيك حتى تترك مناشدتك ؟ والمعنى أني أجبتك إلى مسألتك كرة بعد أخرى ، وأخذت ميثاقك أن لا [ ص: 3559 ] تعود ولا تسأل غيره ، وأنت لا تفي بذلك ، فما الذي يفصل بيني وبينك في هذه القضية ؟ ويكون على وجه المجاز والاتساع ، والمبتغى منه التوفيق على فضل الله ورحمته ، وكرمه وبره بعباده ، حتى إنه يخاطبهم مخاطبة المستعطف الباعث سائله على الاستزادة . قال : وفي كتاب ( المصابيح ) ما يصريني منك ، وهو غلط ، والصواب ما يصريني مني ، كذا رواه المتقنون من أهل الرواية . قال المظهر : يمكن أن يحمل على القلب ; فأصله ما يصريك مني ، وقلب للعلم به ، والقلب شائع في كلامهم ، ذائع في استعمالهم .

قال الطيبي - رحمه الله : الرواية صحيحة والمعنى صحيح على سبيل الكناية . قال النووي : ما يصريني منك ، بفتح الياء وإسكان الصاد المهملة ، كذا في صحيح مسلم ، وروي في غير مسلم ما يصريك مني . قال إبراهيم الحربي - رحمه الله : هو الصواب ، وأنكر الرواية التي في صحيح مسلم - رحمه الله - وغيره ، وليس كما قال ، بل كلاهما صحيح ، وأن السائل متى انقطع عن المسئول ، انقطع المسئول عنه ، والمعنى : أي شيء يرضيك ويقطع السؤال بيني وبينك ( أيرضيك أن أعطيك الدنيا ) أي : قدرها ( ومثلها معها قال : أي رب ! أتستهزئ مني ) أي : أتحلني محل المستهزأ به ، ( وأنت رب العالمين ) ؟ والجملة حالية ، والاستهزاء بالشيء إذا أسند إلى الله تعالى يراد إنزال الهوان عليه ، وإحلاله إياه محل المستهزأ به ، كذا ذكره شارح . وقال في شرح مسلم للنووي : هذا وارد من السؤال على سبيل الفرح والاستبشار . قال القاضي عياض : هذا الكلام صادر عنه ، وهو غير ضابط لما نال من السرور بلوغ ما لم يخطر بباله ; فلم يضبط لسانه دهشة وفرحا ، على عادته في الدنيا مخاطبة المخلوق ، ونحوه حديث التوبة ، قول الرجل عند وجدان زاده مع راحلته من شدة الفرح : أنت عبدي وأنا ربك انتهى .

وتوضيحه ، ما ذكره ابن الملك : إن قيل : صدر منه هذا القول بعد كشف الغطاء ، واستواء العالم والجاهل في معرفة الله تعالى فيما يجوز على الله ، وما يجوز ؟ قلت : مثابة هذا العالم مثابة العالم الذي يستولي عليه الفرح بما آتاه الله ; فيزل لسانه من شدة الفرح ، كما أخطأ في القول من ضلت راحلته بأرض فلاة ، عليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، ثم بعدما وجدها وأخذ بخطامها قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك . ( فضحك ابن مسعود ، فقال : ألا ) : بالتخفيف ( تسألوني ) : بالنون وتخفيف ( مم أضحك ) ؟ أي : من أي شيء أضحك ؟ ( فقالوا : مم تضحك ؟ فقال ضحك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقالوا : مم تضحك يا رسول الله ؟ فقال : من ضحك رب العالمين حين قال له : أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ) ؟ قال التوربشتي - رحمه الله : الضحك من الله ومن رسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وإن كانا متفقين في اللفظ ، فإنهما متباينان في المعنى ; وذلك أن الضحك من الله سبحانه يحمل على كمال الرضا عن العبد ، وإرادة الخير ممن يشاء من عباده أن يرحمه . وقال القاضي - رحمه الله : وإنما ضحك - صلى الله تعالى عليه وسلم - استعجابا وسرورا بما رأى من كمال رحمة الله ولطفه على عبده المذنب وكمال الرضا عنه ، وأما ضحك ابن مسعود ; فكان اقتداء بسنة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لقوله : هكذا ضحك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم . قلت : الظاهر أنه لاحظ المعنى الموجب للضحك ، لا أنه مجرد تقليد وحكاية لفعله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فإنه ليس أمرا اختياريا ، ولا يصدر من غير باعث من قول عجيب ، أو فعل غريب . ( فيقول : إني لا أستهزئ منك ، ولكني على ما أشاء قادر ) : وفي نسخة قدير .

قال الطيبي - رحمه الله : فإن قلت : مم استدركه ؟ قلت : عن مقدر ; فإنه تعالى لما قال له : أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ، فاستبعده العبد لما رأى أنه ليس أهلا لذلك ، وقال : أتستهزئ بي ؟ قال سبحانه وتعالى : نعم ، كنت لست أهلا له ، لكني أجعلك أهلا لها ، وأعطيك ما استبعدته ; لأني على ما أشاء قدير . ( رواه مسلم ) : أي : عن ابن مسعود .

[ ص: 3560 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية