صفحة جزء
( 5 ) باب صفة الجنة وأهلها

الفصل الأول

5612 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . واقرءوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين . متفق عليه .


( 5 ) باب صفة الجنة وأهلها

الجنة : البستان من الشجر المتكاثف المطل بالتفاف أغصانه ، والتركيب دائر على معنى الستر في الجنة والجنة والجنة والجنون ونحوها ، فكأن الجنة لتكاثفها وتظللها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره ، كأنها سترة واحدة لفرط التفافها . وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان ، أو لكونها مستورة عن أعين الناس ؛ ليكون الإيمان بالغيب لا بالعيان ، أو لأن الله تعالى أخفى من قرة الأعين لأهلها الأعيان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الفصل الأول

5612 - ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( قال الله تعالى : أعددت ) أي : هيأت ( لعبادي الصالحين ) : بفتح ياء المتكلم ويسكن ( ما لا عين رأت ) ، قال الطيبي - رحمه الله - : ( ما ) هنا إما موصولة أو موصوفة ، وعين وقعت في سياق النفي فأفاد الاستغراق ، والمعنى ما رأت العيون كلهن ولا عين واحدة منهن ، والأسلوب من باب قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ، فيحتمل نفي الرؤية والعين معا ، أو نفي الرؤية فحسب ، أي : لا رؤية ولا عين ، أو لا رؤية ، وعلى الأول الغرض منه العين ، وبها ضمت إليه الرؤية ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر محقق لا نزاع فيه ، وبلغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة وعكسه ( ولا أذن ) : بضمتين ويسكن الذال ( سمعت ، ولا خطر ) أي : وقع ( على قلب بشر ) . قال الطيبي - رحمه الله - : هو من باب قوله تعالى : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم أي : لا قلب ولا خطور ، أو لا خطورا ، فعلى الأول لهم قلب مخطر ، فجعل انتفاء الصفة دليلا على انتفاء الذات أي : إذا لم يحصل ثمرة القلب وهو الإخطار فلا قلب ، كقوله تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " .

فإن قلت : لم خص البشر هنا دون القرينتين السابقتين ؟ قلت : لأنهم هم الذين ينتفعون بما أعد لهم ويهتمون بشأنه ويخطرون ببالهم ، بخلاف الملائكة ، والحديث كالتفصيل للآية ، فإنها نفت العلم ، والحديث نفى طريق حصوله . ( واقرءوا ) : ظاهره أنه مرفوع ، ويؤيده العاطف ، والأظهر أنه موقوف ؛ لقوله : إن شئتم أي : أردتم الاستشهاد والاعتضاد فلا تعلم : في محل النصب على أنه مفعول اقرءوا أو التقدير آية فلا تعلم : نفس أي : مقتضى من الملائكة وغيرهم ما أخفي لهم : قرأ الجمهور " أخفي " بتحريك الياء على البناء للمفعول ، وقرأ حمزة بسكونها على أنه مضارع مسند للمتكلم ، ويؤيده قراءة ابن مسعود " نخفي " بنون العظمة ، وقرئ " أخفى " بفتح أوله ، والفاعل هو الله تعالى : من قرة أعين ، الكشاف : لا تعلم النفوس كلهن ولا نفس واحدة منهم لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه ، لا يعلمه إلا هو مما تقر به عيونهم ، ولا مزيد على هذه النعمة ولا مطمح وراءهما . وفي " شرح السنة " : يقال : أقر الله عينك ، ومعناه برد الله دمعتها ؛ لأن دمعة الفرح باردة ، حكاه الأصمعي . وقال غيره : معناه بلغك الله أمنيتك حتى ترضى به نفسك وتقر عينك ولا تستشرف إلى غيره .

قال الطيبي - رحمه الله - : فعلى هذا الأول من القرة بمعنى البرد ، والثاني من القرار ، وفي قوله : أعددت دليل على أن الجنة مخلوقة ، ويعضده سكنى آدم وحواء الجنة ، ولمحبتها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام ، كالنجم والثريا والكتاب ونحوها ، وذلك أن الجنة كانت تطلق على كل بستان متكاثف أغصان أشجارها ، ثم غلبت [ ص: 3576 ] على دار الثواب ، وإنما قلنا : اللاحقة ؛ للإعلام لكونها غير لازمة للام ، وتحقيق القول أنها منقول شرعية على سبيل التغليب ، وإنما تغلب إذا كانت موجودة معهودة ، وكذلك اسم النار منقولة لدار العقاب على سبيل الغلبة ، وإن اشتملت على الزمهرير والمهل والضريع وغير ذلك ، ولولا ذلك لما كان يغني عن طلب القصور والحور والولدان بالجنة ، ولا عن طلب الوقاية من الزمهرير والمهل والضريع عن مطلق النار ( متفق عليه ) ، وكذا رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة من غير قوله : اقرءوا إن شئتم . . . إلى آخره ، على ما في الجامع فهو يؤيد كونه موقوفا . وروى الطبراني عن سهل بن سعد مرفوعا ولفظه : ( إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد ) . ورواه الطبراني في الأوسط ، والبزار عن أبي سعيد ولفظه : ( في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) . وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ، قال : ( لما خلق الله تعالى جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) . ثم قال لها : تكلمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون ، هذا وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - : سبب هذا الحديث أن موسى - عليه الصلاة والسلام - سأل ربه : من أعظم أهل الجنة منزلة ؟ فقال : غرزت كرامتهم بيدي وختمت عليها ، فلا عين رأت . . . وإلى آخره . أخرجه مسلم والترمذي ، انتهى . ولا يخفى أن الضمير في " ما أخفي لهم " لقوم خاص . تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون والمراد المتهجدون والأوابون ، ولما أخفوا أعمالهم عن أعين العباد جوزوا بإخفاء الله تعالى لهم ما أراد لهم من الإعداد جزاء وفاقا على حسب ما وفقوا من الإمداد والإسعاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية