صفحة جزء
5700 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق : إن رحمتي سبقت غضبي ; فهو مكتوب عنده فوق العرش . متفق عليه .


5700 - ( وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول : " إن الله كتب ) أي أثبت أو أمر أن يكتب الملائكة ( كتابا ) أي مكتوبا وهو اللوح ، أو كتب كتابة مستقلة ( قبل أن يخلق الخلق : إن رحمتي ) بكسر الهمزة وفتحها ( سبقت غضبي ) أي غلبت ، كما في رواية ، والمعنى غلبت الرحمة بالكثرة في متعلقها على الغضب ، والحاصل أن إرادة الخير والنعمة والمثوبة منه سبحانه لعباده أكثر من إرادة الشر والنقمة والعقوبة ؛ لأن الرحمة عامة ، والغضب خاص ، كما حقق في قوله : الرحمن الرحيم حيث قيل : رحمة الرحمن عامة للمؤمن والكافر ، بل لجميع الموجودات ؛ ولذا لا يطلق الرحمن على غيره سبحانه ، فإذا عرفت هذا فالكسر على الحكاية ، ويكون لفظة " إن " من جملة المكتوب ، والفتح على أنها بدل من كتابا ، وعلى كل فالمكتوب إنما هو هذه الجملة ، ويؤيده قوله : ( فهو مكتوب عنده فوق العرش ) والمعنى أنه مكتوب عن سائر الخلائق مرفوع عن حيز الإدراك ، وقيل : معناه أنه مثبت في علمه سبحانه ، وأما اللوح المحفوظ فقد يطلع على بعض معلوماته من أراد الله من ملائكته وأنبيائه وخلص أوليائه من أرباب الكشوف ، لا سيما إسرافيل عليه السلام ، فإنه موكل عليه ويأخذ الأمور منه ، فيأمر جبريل وميكائيل وعزرائيل عليهم الصلاة والسلام كلا بما هو من جنس عمله على ما ورد في بعض الأخبار والآثار ، وأما على قول من فسر الكتاب هنا باللوح المحفوظ أو القضاء الإجمالي والتفصيلي ، فيتعين الكسر على الاستئناف ، اللهم إلا أن تجعل هذه الجملة المستفادة من الحكمة الإجمالية زبدة في اللوح المحفوظ ، وعمدة ما فيه من أنواع الحظوظ .

قال التوربشتي - رحمه الله - : يحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، ويكون معنى قوله : فهو مكتوب عنده ، فعلم ذلك عنده ، ويحتمل أن يراد منه القضاء الذي قضاه ، وعلى الوجهين فإن قوله : فهو عنده فوق العرش تنبيه على كينونته مكنونا عن سائر الخلائق ، مرفوعا عن حيز الإدراك ، ولا تعلق لهذا القول بما يقع في النفوس من التصورات تعالى عن صفات المحدثات فإنه هو المباين عن جميع خلقه المتسلط على كل شيء بقهره وقدرته . وفي سبق الرحمة بيان أن قسط الخلق هاهنا أكثر من قسطهم من الغضب ، وأنها تنالهم من غير استحقاق ، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق ، ألا يرى أنها تشمل الإنسان جنينا ورضيعا وفطيما وناشئا من غير أن يصدر منه طاعة استوجب بها ذلك ، ولا يلحقه الغضب إلا بما يصدر عنه من المخالفات ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ، فلله الحمد على ما ساق إلينا من النعم قبل استحقاقها .

[ ص: 3635 ] وقال النووي : غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى المطيع إثابة وعقاب العاصي ، والمراد بالسبق هنا والغلبة في أخرى كثرة الرحمة وشمولها ، كما يقال : غلب على فلان الكرم والشجاعة ، إذا كثر منه . أقول : ولو أبقيا على حقيقتهما من غير إرادة المجاز جاز أيضا ؛ لأن رحمته تعالى سابقة على غضبه باعتبار التعلق بالنسبة إلى كل أحد من مخلوقاته ، فإن أول الرحمة نعمة الإيجاد ، ثم نعمة الإمداد ، فلا يخلو عن النعمتين أحد من العباد ، وكذا منحه سبحانه بالنسبة إلى محنه غالبة كثيرة شاملة لعموم الخلائق ، سواء من أطاعه أو عصاه في البلاد .

قال الطيبي - رحمه الله - : يحتمل أن تكون أن مفتوحة بدلا من كتابا ، ومكسورة حكاية لمضمون الكتاب ، وهو على وزن قوله تعالى : كتب ربكم على نفسه الرحمة أي أوجب وعدا أن يرحمهم قطعا بخلاف ما يترتب عليه مقتضى الغضب ، فإن الله تعالى غفور كريم يتجاوز عنه بفضله ، وأنشد :


وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فالمراد بالسبق هنا القطع لوقوعها . قلت : لا بد وأن يخص بالمؤمنين ممن تعلق المشيئة بمغفرتهم وسبق الإرادة برحمتهم ، وإلا فعذاب الكافر مقطوع الوقوع ، بل واجب الحصول ؛ لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به والتخلف في خبره غير جائز قطعا ، وقد حررت هذه المسألة في خصوص رسالة سميتها بـ " القول السديد في خلق الوعيد " . ( متفق عليه )

التالي السابق


الخدمات العلمية