صفحة جزء
5705 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرني كيف تحيي الموتى ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي متفق عليه .


5705 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرني كيف تحيي الموتى : تمامه : قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال ابن الملك : أراد - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن ما صدر من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن شكا ، بل كان طلبا لمزيد العلم ، وأنا أحق به ، لأنه مأمور بذلك لقوله تعالى : وقل رب زدني علما وأطلق الشك بطريق المشاكلة .

وقال الإمام المزي : معناه لو كان الشك متطرقا إليه ، لكنت أحق به ، وقد علمتم أني لم أشك ، فاعلموا أنه كذلك ، وإنما رجح إبراهيم على نفسه تواضعا ، أو لصدوره قبل أن يعلم أنه خير ولد آدم ، وأما سؤال إبراهيم عليه السلام ، فللترقي من علم اليقين إلى عين اليقين ، أو لأنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ويميت طلب ذلك ليظهر دليله عيانا ، وتوضيحه ما قال الخطابي : مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس ، وليس في قوله هذا اعتراف بالشك على نفسه ، ولا على إبراهيم ، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما يقول : إذا لم أشك أنا ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى بأن لا يشك فيه ولا يرتاب به ، وفيه الإعلام بأن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة الشك ، لكن من قبل طلب زيادة العلم ، واستفادة معرفة كيفية الإحياء ، والنفس تجد من الطمأنينة بعلم الكيفية ما لم تجده بعلم الأمنية ، والعلم في الوجهين حاصل والثالث مرفوع ، وقد قيل : إنه إنما طلب الإيمان حسا وعيانا ، لأنه فوق ما كان عليه من الاستدلال والمستدل لا تزول عنه الوساوس والخواطر ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ليس الخبر كالمعاينة " انتهى . وفيه أن عدم علم الأنبياء من باب الاستدلال غير ظاهر ، بل علمهم من باب الكشف والمعرفة التامة ، والعلم اليقيني الذي لهم في السرائر بحيث لا يتصور فيه تردد الخواطر ، وتوسوس الضمائر ، نعم مرتبة عين اليقين فوق مرتبة علم اليقين ، وأن هذا لهو حق اليقين والله الموفق والمعين .

[ ص: 3641 ] وفي بعض ( نسخ المصابيح ) : نحن أحق من إبراهيم بدون قوله بالشك ، ففال شارح له أي : نحن أحق منه بالسؤال الذي سأله يريد به تعظيم أمره ، وأن سؤاله هذا لم يكن لنقصان في عقيدته ، بل لكمال فكرته ، وعلو همته الطالبة لحصول الاطمئنان بالوصول إلى درجة العيان .

قال : وفي بعض الروايات : نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومعناه ما ذكرناه أي : لم يكن صدور هذا السؤال منه شكا من إبراهيم ، واختلج في صدره ، إذ لو كان الشك يعتريه لنحن أحق بالشك منه ، ولكنا لا نشك ، فكيف يجوز أن يشك هو فيه ؟ أقول : المراد بقوله : نحن ليس صيغة التعظيم ، ليحتاج إلى الاعتذار بأنه قال ذلك تواضعا لإبراهيم ، بل المعنى أن مع أمتي لا تشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، بل نحن معاشر الخلق من سائر الأمم غالبا نعتقد قدرته على الإحياء ، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام من أكمل الأنبياء في مرتبة التوحيد ، ومقام التفريد حتى أمرنا بمتابعته على طريقه القويم وسبيله المستقيم ، فكيف يتصور منه الشك ؟ إذ لو جاز عليه الشك ، وهو من المعصومين المتبوعين لجاز لنا بالأولى ، ونحن من اللاحقين التابعين . والحال أنه أراد بالدليل البرهاني نفي الشك عن الخليل الرحماني ، وإيصاله إياه إلى المقام الاطمئناني ، والحال العياني .

( ويرحم الله لوطا ) : قيل : تصدير الكلام هذا الدعاء لئلا يتوهم اعتراء نقص عليه فيما سيأتي من الأنبياء على طريقة قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم حيث كأنه تمهيد ومقدمة للخطاب المزعج . ( لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) ، أي عشيرة قوية . قال ابن الملك : فيه إشارة إلى وقوع تقصير منه . وقال شارح تبعا للقاضي : وكأنه استغرب منه وعده بادرة ، إذ لا ركن أشد من الركن الذي كان يأوي إليه ، وهو عصمة الله وحفظه ، وعندي أن أخذ هذا المعنى من هذا المبنى ليس من طريق الأدب في الإنباء عن الأنبياء ، لأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا كان ينهى عن غيبة أفراد العامة حيا وميتا ، فكيف يتصور أن يذكر في حق نبي مرسل ما يكون موهما لنقص مرتبته ، أو تنزلا عن علو همته ؟ فالمعنى ، والله تعالى أعلم أنه كان بمقتضى الجبلة البشرية في بعض الأمور الضرورية يميل إلى الاستعانة بالعشيرة القوية ، فيجوز لنا مثل ذلك المحال ، فإنا مأمورون بمتابعة أرباب الكمال في التعلق بالأسباب مع الاعتماد على رب الأرباب والله تعالى أعلم بالصواب .

ثم رأيت في ( الجامع الصغير ) ما يقوي المذكور من التقرير والتحرير ، وهو ما رواه الحاكم ، عن أبي هريرة مرفوعا " رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ، وما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه " . قلت : ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم شعيب عليه الصلاة والسلام : ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز وكذلك نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان معظما ومحميا ومكرما لقربه من أبي طالب وغيره ، وإليه الإيماء في قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف أي : مقدار طول زمن لبثه وجاءني داع بالطلب أو ساع إلى الخروج ( لأجبت الداعي ) . أي ولبادرت الخروج عملا بالجواز . لكن يوسف عليه الصلاة والسلام صبر لحكم تقضيه ذلك ، كما عبر الله سبحانه عنه : فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله إلى آخره وربما وجبته عليه في مرام ذلك المقام ممن قصده البراءة مما اشتهر في حقه من الكلام على ألسنة العوام ، ليقابل صاحب الأمر على جهة التعظيم والإكرام ، ألا ترى أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يكلم بعض أمهات المؤمنين في طريق ، فمر عليه صحابي فقال له عليه الصلاة والسلام : " إن هذه فلانة من الأزواج الطاهرات " . فقال : يا رسول الله ، أيظن فيك ظن السوء ؟ فقال : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " .

قال التوربشتي - رحمه الله : هو مبني على إحماده صبر يوسف عليه السلام ، وتركه الاستعجال بالخروج عن السجن مع امتداد مدة الحبس عليه ، قال : إن في ضمن هذا الحديث تنبيها على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، [ ص: 3642 ] وإن كانوا من الله بمكان لا ينازلهم فيه أحد ، فإنهم بشر يطرأ عليهم من الأحوال ما يطرأ على البشر ، فلا تعدوا ذلك منقصة ، ولا تحسبوه سيئة . قلت : هذا ما قررناه من قضية سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام .

وقال ابن الملك : اعلم أن هذا ليس إخبارا عن نبينا - صلى الله تعالى عليه وسلم - بتضجره وقلة صبره ، بل فيه دلالة علىمدح يوسف عليه السلام ، وتركه الاستعجال بالخروج ليزول عن قلب الملك ما اتهم به من الفاحشة ، ولا ينظر إليه بعين مشكوك . انتهى . وهو بعينه كما ذكرناه على ما لا يخفى ، وقيل : بل فيه إشارة إلى تقصيريوسف عليه السلام ، وذلك من جهة أنه لم يترك الوسائط ، ولم يفوض كل ما آتاه إليه تعالى .

قلت : سبق أن مباشرة الأسباب لا تنافي تفويض الأمر إلى رب الأرباب ، بل قال بعض العارفين : إن مرتبة جمع الجمع هي مباشرة السبب مع ملاحقة عمل الرب ، وقيل : بل فيه إيماء إلى تقصيره من جهة أنه كان رسولا ، ولذا دعا أهل السجن بقوله : أأرباب متفرقون إلخ . ولم يكن له طريق إلى عودة الملك ، فلما وجد إليه سبيلا قدم براءة نفسه مما نسب إليه على حق الله ، وهو دعوة الملك .

قلت : وهذا ظاهر البطلان إذ تقدير تسليم كونه رسولا عاما أو خاصا ، فتقدم ما يتوقف صحة الإرسال من البراءة عليه مما يجب المبادرة إليه ، لئلا يدور طعن الطاعن حواليه ، ومما يدل على صحة ما قررناه ، وعلى حقيقة ما حررناه ، ما أخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعا : ( رحم الله يوسف عليه السلام إن كان لذا أناة حليما ، لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا ) . وفي رواية أحمد في ( الزهد ) ، وابن المنذر عن الحسن مرسلا : ( رحم الله أخي يوسف لو أنا أتاني الرسول بعد طول الحبس لأسرعت الإجابة حين قال : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة كذا في ( الجامع الصغير ) . متفق عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية