صفحة جزء
5841 - وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة . فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ . فقال : ( ما أنا بقارئ ) . قال : " فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية ، حتى بلغ في الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) . فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة ، فقال : ( زملوني زملوني ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها : ( لقد خشيت على نفسي ) فقالت خديجة : كلا ، والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم وتقري الضعيف ، وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ، ابن عم خديجة . فقالت له : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى . فقال ورقة : هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجي هم ؟ ) قال : نعم ؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي . متفق عليه .


5841 - ( وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) : قال النووي : هذا الحديث من مراسيل الصحابة فإن عائشة لم تدرك هذه القضية ، فتكون سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي ، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني . قال الطيبي : والظاهر أنها سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقولها : قال : فأخذني فغطني ، فيكون قولها : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكاية ما تلفظ به - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى : قل للذين كفروا ستغلبون بالتاء والياء على تأويل أنه - صلى الله عليه وسلم - يؤدي لفظ ما أوحي إليه ، أو معناه فلا يكون الحديث حينئذ من المراسيل . قلت : هذا غريب من الطيبي لأنها لما لم تسند في صدر الحديث أنها سمعت منه - صلى الله عليه وسلم - كان من المراسيل ، إما عنه أو عن صحابي ، ولا ينافيه قولها : قال ، فإنه نقل كلامه - صلى الله عليه وسلم - أو نقل كلام الصحابي ، والتقدير : قال ناقلا عنه عليه الصلاة والسلام والله أعلم بالمرام .

[ ص: 3728 ] ثم الظاهر أن من في قولها : ( من الوحي ) : تبعيضية لا بيانية كما قيل أي : أول ما ابتدئ به من أقسام الوحي ( الرؤيا الصادقة ) : وقوله ( في النوم ) ، إما تأكيد وإما في الرؤيا تجريد ، إذ الرؤيا ما رأيت في منامك على ما في القاموس ، ثم اعلم أن حقيقة الرؤيا الصادقة أن الله يخلق في قلب النائم أو في حراسه الأشياء كما يخلقها في اليقظة ، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا غيره عنه ، فربما يقع ذلك في اليقظة ، كما رآه في المنام ، وربما يكون ما رآه علما على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال ، أو كان قد خلقها ، فيقع ذلك كما جعل الله تعالى الغيم علامة للمطر كذا حققه العلامة الكرماني ، ( فكان لا يرى رؤيا ) : وفي نسخة الرؤيا ( إلا جاءت ) أي : تلك الرؤيا بمعنى أثرها الدال على تحققها ( مثل فلق الصبح ) ، بفتح الفاء واللام أي : ضوئه إذا انفلق كما في شرح السنة ، والمعنى مشبهة بضيائه أو مجيئا مثله . قال شارح : الفلق بالتحريك الصبح بعينه ، وحسن إضافته إلى الصبح ، وإن كانت باختلاف اللفظين ، لكونه من الألفاظ المشتركة ؛ فإنه يطلق الفلق على الصبح ، وعلى المطمئن من الأرض ، فشبهت ما جاءه في اليقظة موافقا لما رآه في المنام بالفلق لإنارته ، وإضاءته وصحته .

وقال القاضي : شبه ما جاءه في اليقظة ، ووجده في الخارج طبقا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه ، والفلق الصبح ، لكن لما كان مستعملا في هذا المعنى وفي غيره كالفلق في قوله : قل أعوذ برب الفلق وغير ذلك أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام إلى الخاص ، كقولهم : عين الشيء ونفس الشيء .

وقال الطيبي : للفلق شأن عظيم ، ولذلك جاء وصفا لله تعالى في قوله سبحانه فالق الإصباح وأمر بالاستعاذة برب الفلق لأنه ينبئ عن انشقاق ظلمة عالم الشهادة وطلوع تأثير الصبح بظهور سلطان الشمس وإشراقها الآفاق ، لأن الرؤيا الصالحة مبشرات تنبئ عن وفور أنوار عالم الغيب ، وآثار مطالع الهامات شبه به الرؤيا التي هي جزء يسير من أجزاء النبوة ، وتنبيه من تنبيهاتها لمشتركي العقول على ثبوت النبوة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سمي نبيا لأنه ينبئ عن عالم الغيب الذي لا تستقل العقول بإدراكه . وفي شرح مسلم للنووي قالوا : إنما ابتدأ - صلى الله عليه وسلم - بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ، ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوى البشرية فبدئ بتباشير الكرامة وصدق الرؤيا استئناسا . قلت : وهو مقتضى الأمور التدريجية في الأمور الدينية والدنيوية ، وكأن الرؤيا شبهت بالفلق الذي هو الصبح ، وهو مقدمة طلوع الشمس المشبه به إتيان جبريل بالوحي المنزل الذي هو نور وكتاب مبين يهدي الله لنوره من يشاء ، ثم بون بين النور الحسي الآفاقي والنور العلمي الخلاقي .

( ثم حبب إليه الخلاء ) : بالمد أي : الخلوة المناسبة لمرتبة التخلية عن الغير المقدمة على التحلية المتربعة عليها بثبوت نور وجوده وظهور كرمه وجوده . قال النووي : الخلوة شأن الصالحين وعباد الله العارفين . قال الخطابي حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب ، وهي معينة على التفكر ، وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويخشع قلبه ويجمع همه ، فالمخلص في الخلوة يفتح الله عليه ما يؤنسه في خلوته من تعويض الله تعالى إياه عما تركه لأجله " واستنار قلبه بنور الغيب حين تذهب ظلمة الشمس ، واختيار الخلوة لسلامة الدين وتفقد أحوال النفس وإخلاص العمل اهـ . واختلف في أفضلية الخلوة والجلوة والخلطة والعزلة ، والصحيح أن كل واحدة بشروطها المعتبرة في محلها هي الأفضل والأكمل للمصلحة المترتبة عليها الحكمة الإلهية ، واقتضاء صفة الربوبية . ( وكان يخلو بغار حراء ) ، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد وهو مذكر مصروف على الصحيح ، وقيل : مؤنث غير مصروف ذكره النووي . وقال القاضي الزاهد صاحب الثعلبي والخطابي وغيرهما : العوام يخطئون في حراء في ثلاثة مواضع : يفتحون الحاء وهي مكسورة ، ويكسرون الراء وهي مفتوحة ، ويقصرون الألف وهي ممدودة وهو جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى ، وقال شارح : هو بالكسر والمد والقصر خطأ يذكر ويؤنث ، فيصرف على الأول ولا يصرف على الثاني . أقول : ولعل وجه التذكير اعتبار الموضع والتأنيث باعتبار البقعة . وقال العسقلاني : حراء هو بالمد وكسر أوله ، وهو الصحيح رواية ، وحكي فيه غير ذلك جوازا لا رواية ، وعند الأصيلي بالفتح

[ ص: 3729 ] والقصر ( فيتحنث فيه ) أي : فيتعبد في ذلك الغار فرارا من الأغيار . وفي سيرة ابن هشام : فيتحنف بالفاء أي : يتبع الحنيفية ، وهي دين إبراهيم ، والفاء تبدل تاء في كثير من كلامهم ذكره السيوطي . ( وهو ) أي : التحنث ( التعبد ) : وكان المتعبد يتحرز عن الحنث بمعنى الإثم ، ويجتنب عنه بعبادته ، وهذا التفسير إما من قول عائشة رضي الله عنها ، أو من قول الزهري ، أدرجه في الحديث ، والتحنث في اللغة : إلقاء الحنث عن نفسه ، وقيل : لم يرد من باب التفعل في معنى إلقاء الشيء عن النفس إلا التحنث والتأثم والتجوب ، كذا ذكره شارح . وقال السيوطي ، قوله : وهو التعبد مدرج في الخبر قطعا . قال العسقلاني : وهو محتمل أن يكون من كلام عروة ، أو من دونه . قال : وجزم الطيبي بأنه من تفسير الزهري ولم يذكر دليله اهـ .

وقال التوربشتي : فسرت التحنث بقولها : وهو التعبد . ويحتمل أن يكون التفسير من قول الزهري أدرجه في الحديث ، وذلك من دأبه قال النووي ، وقوله : ( الليالي ذوات العدد ) . متعلق بيتحنث لا بالتعبد ، ومعناه يتحنث الليالي ولو جعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى ، فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي ، بل يطلق على القليل والكثير ، وهذا التفسير اعترض بين كلام عائشة رضي الله عنها ، وإنما كلامها فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ، وإنما أطلق الليالي وأريد بها الليالي مع أيامهن على سبيل التغليب ، لأنها أنسب للخلوة ، وقيد بذوات العدد لإرادة التقليل ، كما في قوله تعالى : دراهم معدودة اهـ .

فالمراد بذات العدد القلة ، وقيل : يحتمل الكثرة إذ الكثير يحتاج للعدد لا القليل ، وقيل : إبهام العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدة التي يتخللها مجيئه إلى أهله ، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر في كل سنة ، وذلك الشهر كان رمضان . أقول : ويمكن أن يكون المدة أربعين قياسا على ميقات موسى عليه السلام ، ولما فيها من الخواص والأسرار التي تظهر آثارها وأنوارها على الصوفية الأبرار مع ما فيها من مطابقة الأربعينات في الأطوار ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم : ( من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ) . هذا وقال الحافظ العسقلاني : ولم يأت التصريح بصفة تعبده ، لكن في رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق ، فيطعم من يرد عليه من المشركين ، وجاء عن بعض المشايخ أنه يتعبد بالتفكير ذكره السيوطي في حاشية مسلم ، وفي التحرير للإمام ابن الهمام أن المختار أنه - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه متعبد ، فقيل بشرع نوح ، وقيل إبراهيم ، وقيل موسى ، وقيل عيسى ، ونفاه المالكية والآمدي ، وتوقف الغزالي أي : في تعبده قبل البعثة بشرع من قبله . وفي شرح التحرير قال إمام الحرمين ، والمازري وغيرهما : لا يظهر لهذه المسألة ثمرة في الأصول ، ولا في الفروع ، بل يجري مجرى التواريخ المنقولة ، ولا يترتب عليها حكم في الشريعة اهـ .

والظاهر أن المراد بالتعبد هنا التجرد للعبودية ، وهو الانقطاع عن الخلق بالكلية والتبتل إلى الحق بحسب ما يقتضيه صفة الربوبية ، والخلو عن المطالب النفسية ، والمآرب الشهوية ، وخلاصته الغيبة عما سواه ، والحضور مع الله المترجم عنه قول : لا إله إلا الله الوارد فيه : أفضل الذكر لا إله إلا الله المعنى بقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله المعبر عنه عند الصوفية بالفناء والبقاء ، والانفصال ، والبينونة والكينونة ، وهو نهاية مراتب العباد وغالب مطالب العباد . ( قبل أن ينزع إلى أهله ) ، يقال : نزع إلى أهله ينزع أي اشتاق ومال ، ولذا قيل : ينزع يرجع زنة ومعنى . قال شارح : والمعنى أنه كان لا يميل عن أهله بالكلية إلى خلوته ، ويدل عليه قوله : ( ويتزود ) : بالرفع أي : فيجيء أهله ويأخذ زاده ( لذلك ) ، أي : لتعبده الليالي ذوات العدد ، أو لما ذكر من الليالي مشتغلا برب العباد ومتهيئا لأمر المعاد إلى فراغ الزاد . ( ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ) ، أي : لمثل تلك الليالي ، أو لنحو تلك العودة التي فيها الجودة ، وفيه إيماء إلى أن أخذ الزاد لا ينافي التوكل والاعتماد ، والحاصل أنه - صلى الله عليه وسلم - استمر على تلك الحال من الذهاب للآمال والرجوع .

[ ص: 3730 ] لنيل المنال وحسن المآل . ( حتى جاءه الحق ) أي : أمر الحق وهو الوحي ، أو رسول الحق وهو جبريل عليه السلام ، ذكره التوربشتي ، أو معنى تبين له الحق وظهر له الجمال المطلق بلا مراعاة ولا مراء . ( وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ) : اللام للعهد وهو جبريل ، وقيل إسرافيل ( قال : اقرأ ) . أي : مطلقا وهو مقتضى الأمر الباهر أو كما أقرأ وهو الظاهر ( قال : ( ما أنا بقارئ ) أي : لا أحسن القراءة ، ولم أتعلم القراءة كما هو المعتاد فيمن يقرأ . ( قال : ( فأخذني فغطني ) : بتشديد الطاء أي : عصرني قبل الغط . في الأصل المقل في الماء ، والتغويص فيه على ما في النهاية وغيره ، ولما كان الغط مما يأخذ بنفس المغطوط استعمل مكان الخنق ، وفي بعض الروايات فخنقني . أقول : الأظهر أن الغط هو العصر إما من جهة البطن أو الظهر ، لكن شدته ربما تضيق النفس ، فيشابه حالة الخنق ، فعبر عنه بالخنق ، وهذا المعنى أولى وأخلق . وفي شرح مسلم قالوا : والحكمة في الغط شغله عن الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله ، وإنما كرره ثلاثا مبالغة في التنبيه ، ففيه أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم ، ويأمره لإحضار قلبه ، وقيل إنما غط ليختبره ، هل يقول من تلقاء نفسه شيئا ، وحاصل المعنى عصرني عصرا شديدا . ( حتى بلغ مني الجهد ) ، بضم الجيم ويفتح بالرفع وينصب . قال النووي : الجهد يجوز فيه فتح الجيم وضمها ، وهو الغاية والمشقة ، ويجوز نصب الدال ورفعها ، فعلى النصب بلغ جبريل في الجهد ، وعلى الرفع بلغ الجهد مني مبلغه وغايته ، وقد ذكر الوجهين - أعني نصب الدال وفتحها - صاحب التحرير اهـ .

وقال شارح : هو بضم الجيم ورفع الدال وهو بالضم الوسع والطاقة وبالفتح المشقة ، وقيل المبالغة والغاية ، وقيل هما لغتان في الوسع ، وأما المشقة والغاية بالفتح لا غير . وقال التوربشتي : لا أرى الذي يرويه بنصب الدال إلا قد وهم فيه ، أو جوزه من طريق الاحتمال فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوته في ضغطه وجهد جهده ، بحيث لم يبق فيه مزيد ، وهذا قول غير سديد ، فإن البنية البشرية لا تستدعي استيفاء القوة الملكية ، لا سيما في مبدأ الأمر ، وقد دلت القضية على أنه اشمأز من ذلك وتداخله الرعب . قال الطيبي : لا شك أن جبريل في حالة الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تحلى بها عند سدرة المنتهى ، وعندما رآه مستويا على الكرسي ، فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى له وغطه ، وإذا صحت الرواية اضمحل الاستبعاد . أقول : لا يلزم من تشكل الملك بصورة الآدمي وتبدله عن أصل هيئة الملك - سلب القوة عنه ، ونفي الغلبة منه فإن الأمر المعنوي لا يتغير بتغير الهيكل الصوري ، فكلام الشيخ في محله وصحة الرواية موقوفة على نقلها لا بمجرد جوازها وذكرها وحملها .

( ثم ) أي : بعدما بلغ بقربه مني الجهد ( أرسلني ) أي : تركني في مقام البعد ، وكأنه نقل من مقام الجمع إلى حال التفرقة ، ومن مرتبة الولاية إلى مرتبة النبوة ترقيا إلى درجة جمع الجمع ( فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ) الظاهر من صنيع الشراح أن قوله ما أنا بقارئ في كل مرتبة على معنى واحد ، ويمكن أن يقال أن ( ما ) في الأولى نافية ، وفي الثانية استفهامية ، والباء زائدة أو على لغة أهل مصر أي : أي شيء أنا أقرؤه . ( فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ) . أي : الذي أنا بقارئ ما هو ؟ على أن ما : موصولة مبتدأ وخبره محذوف ، والفرق بينه وبين ما قبله في المعنى المرام أن الأول استفهام الإنكار ، وهذا استفهام الإعلام . ( فأخذني فغطني الثالثة ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : ( اقرأ باسم ربك ) : قال النووي : هذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن : اقرأ ، وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف ، وقيل أوله : ياأيها المدثر وليس بشيء . قلت : الظاهر أن اقرأ أوله الحقيقي ويا أيها المدثر أوله الإضافي ، وهو بعد فترة الوحي إلا الإلهي قال : واستدل بهذا الحديث من يقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ليست بقرآن في أوائل السور ، لكونها لم تذكر هنا ، وجواب المثبتين لها أنها لم تنزل أولا ، بل نزلت البسملة في وقت آخر ، كما نزلت باقي السور في وقت آخر . فلا تكون البسملة جزءا لجميع أوائل السور لعدم القائل بالفصل ، فثبت مدعي أهل الفضل ، ولعل النووي لما أشعر ضعف الجواب أسنده إليهم تبريا من قولهم والله أعلم بالصواب .

[ ص: 3731 ] قال الطيبي : اقرأ أمر بإيجاد القراءة مطلقا ، وهو لا يختص بمقروء دون مقروء ، فقوله : ( باسم ربك ) حال أي : اقرأ مفتتحا باسم ربك أي قل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم اقرأ ، وهذا يدل على أن البسملة مأمور قراءتها في ابتداء كل قراءة ، فيكون مأمورا قراءتها في هذه السورة أيضا . قلت : لا يخفى بعد ما ذكره على أولي النهى . أما قوله : أمر بإيجاد القراءة ففيه بحث ، فإن الإيجاد والإمداد من أفعال رب العباد على ما هو مقرر في الاعتقاد ، فالأمر إنما توجه بمباشرة القراءة لا بإيجادها ، ثم قوله : وهو لا يختص بمقروء دون مقروء ، ففيه أن لفظ اقرأ هنا أيضا مقروء ، فالظاهر أن الباء للاستعانة أو للإلصاق أو الملابسة ، كما حقق في البسملة أول الفاتحة أي : اقرأ مستعينا باسم ربك ، أو ملصقا به قراءتك ، أو حال كونك متلبسا به وعلى المنزل ، فلا يلزم من الافتتاح باسم الرب أن يؤتى : بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم يقرأ كما هو ظاهر ، بل ظاهره خلاف المأمور على أنه يلزم منه أن المقروء بعد قوله : اقرأ باسم ربك والحال أن الأمر ليس كذلك ، فإن مدعى الشافعية أن يثبتوا البسملة قبل قوله : اقرأ باسم ربك ثم قوله : وهذا يدل على أن البسملة مأمور قراءتها في ابتداء كل قراءة ممنوع ومدفوع ، لاتفاق العلماء على استحباب التعوذ ، أو وجوبه قبل القراءة وعلى جواز البسملة كذلك إلا في أول براءة على الصواب ، وفي أثناء سورتها خلاف والمعتمد منعها . ( الذي خلق ) . أي : الأشياء ومن جملتها خلق القدرة على القراءة والقوة على الطاعة ( خلق الإنسان من علق ) : تخصيص بعد تعميم إشعارا بأن الإنسان خلاصة المخلوقات وزبدة الموجودات ، وهو أولى مما اختاره الطيبي من أنه إبهام وتبيين ، ولعل العدول عن قوله : خلق الإنسان من نطفة ، لمراعاة الفواصل وللإشارة إلى تنقله في أطوار الخلقة إلى مرتبة النبوة بالوصول إلى الحق المطلق ، وإلى مقام الرسالة من دعاء الخلق إلى دعوة الحق . ( اقرأ ) : تأكيد للتقرير وتكرير للتكثير ( وربك الأكرم ) أي : من كل كريم ، فإن كرم كل كريم من أثر كرمه ، وذرة من شعاع ظهور شمس نعمه ، وفيه إشارة إلى أن وصفه الأكرم اقتضى بلوغ وصول الأمي إلى حصول مقام الأعلم ، وصيره واسطة إيصال فيض العلم إلى أفراد العالم . ( الذي علم بالقلم ) أي : بواسطته كثيرا من العلوم المتعارف لأفراد بني آدم ( علم الإنسان ) أي : بطريق بيان اللسان وتبيان الجنان ( ما لم يعلم ) ، أي : من الأشياء الحادثة في المكان والزمان ، ويمكن أن يراد بالإنسان هو الكامل في هذا الشأن ، واللام للمعهود في الأذهان ، فيكون فيه إشارة إلى قوله تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما فصلوا عليه وسلموا تسليما .

( فرجع بها ) أي : رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالآيات أي : معها متوجها إلى مكة ( يرجف ) : بضم الجيم أي : يضطرب ( فؤاده ) ، ويتحرك شديدا من الرعب الذي دخل في قلبه ( فدخل على خديجة ) ، قال الطيبي أي : صار بسبب تلك الضغطة يضطرب فؤاده ، ورجع يجيء بمعنى قصد أيضا اهـ . وما قدمناه هو الظاهر كما لا يخفى ( فقال : ( زملوني ) : بتشديد الميم المكسورة أي : غطوني بالثياب ولفوني بها ( زملوني ) : كرره للتأكيد أو زيادة التأبيد . ( فزملوه حتى ذهب عنه الروع ) ، بفتح الراء أي : الخوف والرعب الشديد ( فقال لخديجة وأخبرها الخبر ) أي : خبر ما تقدم والجملة حالية معترضة بين القول ومقوله وهو : ( لقد خشيت ) أي : خفت ( على نفسي ) أي : من الجنون أو الهلاك . وقال شارح : أدهشته هيبته البديهة فخشي على نفسه من تخبط الشيطان ، وفي شرح مسلم للنووي قال القاضي عياض : ليس هو بمعنى الشك فيما آتاه الله تعالى ، لكنه ربما خشي أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي ، فتزهق نفسه ، أو يكون هذا لأول التباشير في النوم أو اليقظة ، وسمع الصوت قبل لقاء الملك ، وتحقيق رسالة ربه ، فيكون قد خاف أن يكون من الشيطان ، فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى ، فلا يجوز الشك فيه وتسليط الشيطان عليه . قال الشيخ محيي الدين : وهذا الاحتمال ضعيف لأنه تصريح بأن هذا بعد غط الملك وإتيانه : بـ اقرأ باسم ربك . وقال السيوطي ، قيل : خشي الجنون ، وأن

[ ص: 3732 ] يكون ما رآه من جنس الكهانة . قال الإسماعيلي : وذلك قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك ، وأنه من عند الله ، وقيل الموت من شدة الرعب ، وقيل المرض ، وقيل العجز عن حمل أعباء النبوة ، وقيل عدم الصبر على أذى قومه ، وقيل أن يقتلوه ، وقيل أن يكذبوه ، وقيل أن يعيروه . ( فقالت خديجة : كلا ) ، هي كلمة ردع أي : لا تظن ذلك ، أو لا تخف أو معناه حقا ، فقولها ( والله ) : للتأكيد وتأييد للتأبيد ، لا يخزيك الله أبدا ) ، قال النووي : هو بضم الياء وبالخاء المعجمة في رواية يونس وعقيل ، وفي رواية معمر بالحاء المهملة والنون ، ويجوز فتح الياء في أوله وضمها ، وكلاهما صحيح أقول : لا يخفى أن فتح الياء إنما يكون مع فتح الزاي بخلاف ضم الياء ، فإنه مع كسر الزاي كما قرئ بها متواترا في قوله تعالى : ولا يحزنك قولهم ونحوه . وأما الرواية الأولى : فمن الإخزاء بمعنى الإفضاح والإهانة ، ومنه قوله تعالى : يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ( إنك ) : بالكسر استئناف فيه شائبة تعليل ( لتصل الرحم ) ، أي : ولو قطعوك ( وتصدق الحديث ) ، بضم الدال أي : تتكلم بصدق الكلام ولو كذبوك أو كذبوك ( وتحمل ) : بكسر الميم ( الكل ) : بفتح الكاف وتشديد اللام ، وهو ما لا يستقل بأمره وقد يعبر عن الثقيل ، ومنه قوله تعالى : وهو كل على مولاه والمعنى أنك تتحمل مؤنة الكل ، وتقبل محنة الكل ، وإن تركوك ولم يساعدوك ، ويدخل في حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والأرامل والعيال من النساء والرجال . ( وتكسب المعدوم ) ، بفتح التاء هو الصحيح المشهور ، وروي بضمها ذكره النووي ، والمعنى تحصل المال للخير ، أو تعطي المحتاج ، فكأن الفقير معدوم في نفسه ، أو في نظر الغني ، أو لأن الفقر يقتضي الفناء والإسكان ، كما أن الغنى يوجب الظهور والتحرك والطغيان . ( وتقري ) : بفتح التاء وكسر الراء أي : تطعم ( الضعيف ) ، أي : النازل بك ( وتعين على نوائب الحق ) ، أي : الحوادث الجارية على الخلق بتقدير الحق أي : يناب فيها ، وقيل : النوائب جمع النائبة وهي الحادثة ، وإنما أضيفت إلى الحق لأن النائبة قد تكون في الخير ، وقد تكون في الشر . قال لبيد :


نوائب من خير وشر كلاهما فلا الخير ممدود ولا الشر لازب

هذا مجمل المرام في هذا المقام . وأما تفصيل الكلام على ما بينه علماء الأعلام ، فقد قال ثعلب والخطابي وغيرهما : يقال : كسبت الرجل مالا وأكسبته مالا لغتان ، أفحمهما كسبته بحذف الألف ، فمعنى الضم تكسب غيرك المال المعدوم ، أي : تعطيه إياه تبرعا ، فحذف الموصوف ، وأقيم الموصوف به مقامه ، وقيل : المعنى تعطي الناس مالا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق ، أو تصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله ، وكانت العرب تتمادح بكسب المال ، لا سيما قريش ، وكان - صلى الله عليه وسلم - مغبوطا في تجارته . قال النووي : وهذا القول ضعيف أو غلط ، ويمكن تصحيحه بأن يضم معه زيادة ، فمعناه تكسب المال العظيم الذي يعجز غيري عنه ، ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم ، كما ذكرت من حمل الكل وصلة الرحم وغيرهما ، وصاحب التحرير جعل المعلوم عبارة عن الرجل المحتاج المعلوم العاجز عن الكسب ، وسماه معلوما لكونه كالمعلوم الميت حيث لم يتصرف في معيشة الحياة اهـ .

وقيل : الصواب وتكسب المعدوم أي تعطي العائل وتمنحه لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال . قال التوربشتي : المعدوم هي اللفظة الصحيحة بين أهل الرواية ، وأجراها بعضهم على التوسع ، فرأى أنه نزل العائل منزلة المعدوم مبالغة في العجز كقولك للبخيل والجبان : ليس بشيء . قال : ويكسب من كسبت زيدا مالا أو كسبت مالا ، ويجوز بضم التاء من أكسبت زيدا مالا . قال الخطابي : والأفصح كسبته ، فمعنى تكسب إن جعل متعديا إلى واحد أنك تكسب ما لا يكون موجودا ولا حاصلا لنفسك ، وتقري به الضيف ، فيكون المجموع سببا لأن لا يخزيه الله أو تكسب المعدوم ، وهو الفقير سمي معدوما للمبالغة ، كأنه صار من غاية فقره معدوما والمتصدق عليه يكسبه ويجعله ؛ موجودا ، وإن جعل متعديا إلى اثنين فالمحذوف إما المفعول الأول ، أي : تكسب غيرك المعدوم ، أي : يعطيه مالا يكون .

[ ص: 3733 ] موجودا عنده وتوصله إليه أو المفعول الثاني أي : تكسب المعدوم أي : الفقير مالا أي : تعطيه إياه ، وإنما ذكرت لفظ الكسب إرادة أنك لن تزال تسعى في طلب عاجز تنعشه كما يسعى غيرك في طلب مال ينعشه اهـ . وزبدته ، أنها أرادت أنك ممن لا يصيبه مكروه لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشمائل ، وفيه دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء ، وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة تطرأ ، وفيه تأنيس من حصلت له مخالفة من أمر وتبشيره ، وذكر أسباب السلامة ، وفيه أعظم دليل وأدل حجة على كمال خديجة رضي الله عنها وجزالة رأيها وقوة نفسها وثبات قلبها وعظم فقهها ، وفيه تنبيه على أن فقره - صلى الله عليه وسلم - كان مرضيا اختياريا لا مكروها اضطراريا ، ومنشؤه كمال الكرم والسخاوة ، وعلى أن هذه الصفات المذكورة والنعوت المسطورة كانت له جبلية خلقية قبل بعثته الباعثة لتتميم مكارم الأخلاق .

( ثم انطلقت به خديجة إلى ورقة ) بفتحتين ( بن نوفل ) أي : ابن أسد القرشي ( ابن عم خديجة ) أي : ابنة خويلد بن أسد ، فهو ابن عمها حقيقة ، واختلف في إسلامه ، ذكره صاحب القاموس . ( فقالت لي : يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك ) . وهذا بطريق المجاز كقولهم : يا أخا العرب وقال شارح : إنما قالت ذلك على سبيل التعظيم لا على سبيل الحقيقة . ( فقال له ورقة ) : وقد كان تنصر في الجاهلية ، وقرأ الكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، ذكره المؤلف في فصل الصحابة . ( يا ابن أخي ! ماذا ترى ) ؟ قيل : ذا ، زائدة ، وما استفهامية ، وقيل ذا : موصولة أي : ما الدين تراه ؟ ( خبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى ) أي : بخبره ، وأطلعه على ما ظهر عليه من الملك وأثره ، فقال ورقة : هذا ) أي : الملك الذي رأيته ( هو الناموس الذي أنزل ) أي : أنزل الله ( على موسى ) ، قيل : ناموس الرجل صاحب سره الذي يطلعه على باطن أمره ، وأهل الكتاب يسمون جبريل بالناموس ، فقد قال أهل اللغة : الناموس : صاحب سر الخير ، والجاسوس : صاحب سر الشر ، فقيل : سمي بذلك لأن الله تعالى خصصه بالوحي . ( يا ليتني ) أي : كنت كما في نسخة ( فيها ) أي : في أيام النبوة أو مدة الدعوة أو الأزمنة التي تظهر فيها ( جذعا ) : بفتح الجيم والذال المعجمة أي : جلدا شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك بمنزلة الجذع من الخيل ، وهو ما دخلت في السنة الثالثة ، فالجذع في الأصل للدواب ، وهنا استعارة ، ونصبه إما بإضمار كنت أو بليت على تأويل تمنيت ، والأصح أنه حال أي : ليتني حاصل فيها جذعا كما هو مذهب البصريين في :


يا ليت أيام الصبا رواجعا

قال الخطابي والمازري وغيرهما : نصب على أنه خبر كان المحذوفة تقديره : ليتني أكون فيها جذعا على مذهب الكوفيين ، وقال القاضي : الظاهر عندي أنه منصوب على الحال ، وخبر ليت قوله : فيها ، والعامل متعلق الظرف ، هذا وفي قوله : يا ليتني المنادى محذوف أي : يا محمد ، وقال ابن مالك : ظن أكثر الناس أن ( يا ) التي يليها ليت حرف نداء ، والمنادى محذوف ، وهو عندي ضعيف ، لأن قائل ليتني قد يكون وحده ، فلا يكون معه منادى كقول مريم : ياليتني مت قبل هذا قلت : يمكن أن يكون التقدير : يا رب أو يا نفسي أو يا ولدي أو أرادت به الخطاب العام المقصود في أوهام الأفهام ، ثم قال : ولأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادعي فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته كحذف المنادى قبل أمر أو دعاء ، فإنه يجوز حذفه لكثرة ثبوته منه ، فمن ثبوته قبل الأمر : يايحيى خذ الكتاب بقوة وقيل الدعاء ياموسى ادع لنا ربك ومن حذفه قبل الأمر ( ألا يا اسجدوا ) في قراءة الكسائي أي : ألا يا هؤلاء ، وقبل الدعاء قوله :


ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا

[ ص: 3734 ] أي : ألا يا دار مي اسلمي فحسن حذف المنادى جعلها اعتمادا على ثبوته ، بخلاف ليت ، فإن العرب لم تستعمله ثابتا فادعاء حذفه باطل ، فتعين كون يا هذه لمجرد التنبيه مثل ألا في نحو :


ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

قلت : لعل وجه حذف المنادى مع ليت كثرة استعماله ، فتارة يكون مفردا مذكرا أو مؤنثا ، وتارة تثنية أو جمعا كذلك ، وتارة يكون محققا وأخرى يكون موهوما ، ولا شك أن كثرة الاستعمال موجبة للحذف والتخفيف ، حتى ربما تجعل الحذف واجبا ، فادعاء حذفه بهذا الاعتبار حق ، بل واجب لا باطل وذاهب ، ثم رأيت في القاموس ذكر جواز الوجهين ، وقدم ما قدمناه حيث قال : وإذا ولي يا ما ليس بمنادى كالفعل في : ألا يا اسجدوا ، والحرف في نحو : ( ياليتني كنت معهم ) ، ويا رب كاسية في الدنيا عارية في العقبى ، والجملة الاسمية نحو :


يا لعنة الله والأقوام كلهم     والصالحين على سمعان من جار

فهي للنداء والمنادى محذوف أو لمجرد التنبيه لئلا يلزم الإجحاف بحذف الجملة كلها اهـ . وتبعه صاحب المغني ، وفيه بحث لا يخفى والله تعالى يعلم السر وأخفى . ( ليتني أكون حيا ) أي : وإن لم أكن قويا ( إذ يخرجك ) : إذ هنا للاستقبال كإذا ، والمعنى حين يتسبب لخروجك من بلدك ( قومك ) أي : أقاربك من كفار قريش ، ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( أو مخرجي هم ) ؟ بفتح الواو وتشديد الياء المفتوحة ويجوز كسرها كقوله : مصرخي وهو خبر لقوله : هم ، وأصله مخرجون أضيف إلى ياء الإضافة بكسر الجيم للمناسبة ، فإعرابه تقديري كمسلمي ، والجملة عطف على مقدر ، والاستفهام للاستعلام على وجه التعجب من هذا الإقدام لتأكيد المرام أي : أيكون ما قلت وهو مخرجي ؟ ( فقال : نعم ) . أي : يخرجونك وسببه ( أنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به ) أي : من الرسالة ( إلا عودي ) : ماض مجهول من المعاداة ، والاستثناء مفرغ من أعم عام الأحوال ( وإن يدركني يومك ) : شرط جزاؤه ( أنصرك نصرا مؤزرا ) . بتشديد الزاي المفتوحة . قال القاضي : يريد باليوم الزمان الذي أظهر فيه الدعوة ، أو عاداه قومه فيه ، وقصدوا إيذاءه ، وإخراجه ، والمؤزر البالغ في القوة من الأزر ، وهو القوة . قلت : ومنه قوله تعالى : اشدد به أزري . ( ثم لم ينشب ورقة ) : بسكون النون وفتح الشين أي : لم يلبث ولم يبرح ، وحقيقته أنه لم يتعلق بشيء ، لم يشتغل بغير ما هو عليه ، فكنى به عن ذلك وقوله : ( أن توفي ) ، نصب على التمييز أي : من جهة الوفاة أي : لم تلبث وفاته بأن جاءت سريعا . وقال الطيبي : بدل اشتمال من ورقة أي : لم يلبث وفاته ( وفتر الوحي ) أي : انقطع أياما كما سيأتي في الحديث الآتي . ( متفق عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية