صفحة جزء
[ 6 ] - باب في المعراج .

الفصل الأول

5862 - ( عن قتادة ، عن أنس بن مالك [ عن مالك ] بن صعصعة رضي الله عنه ، أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به : ( بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت ، فشق ما بين هذه إلى هذه ) يعني من ثغرة نحره إلى شعرته " فاستخرج قلبي ، ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا ، فغسل قلبي ، ثم حشي ، ثم أعيد ) - وفي رواية : " ثم غسل البطن بماء زمزم ، ثم ملئ إيمانا وحكمة لله ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار ، أبيض يقال له : البراق ، يضع خطوه عند أقصى طرفه ، فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم : قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، ففتح فلما خلصت ، فإذا فيها آدم فقال : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية ، فاستفتح : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا له ، فنعم المجيء جاء ، ففتح . فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال : هذا يحيى وهذا عيسى فسلم عليهما ، فسلمت فردا ، ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي إلى السماء الثالثة ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما دخلت إذا يوسف ، قال : هذا يوسف ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد . ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما خلصت فإذا إدريس ، فقال : هذا إدريس ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، ففتح ، فلما دخلت ، فإذا هارون . قال : هذا هارون فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح . ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قال : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت فإذا موسى ، قال : هذا موسى ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، فلما جاوزت بكى ، قيل : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ؛ ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبرئيل ، قيل : من هذا : قال : جبرئيل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ، فلما خلصت ، فإذا إبراهيم ، قال : هذا أبوك إبراهيم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت إلى سدرة المنتهى ، فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، قال : هذا سدرة المنتهى ، فإذا أربعة أنهار : نهران باطنان ونهران ظاهران ، قلت : ما هذان يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم رفع لي البيت المعمور ، ثم أتيت بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، وإناء من عسل ، فأخذت اللبن ، فقال : هي الفطرة أنت عليها وأمتك ، ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم ، فرجعت فمررت على موسى ، فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بخمسين صلاة كل يوم . قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم ، وإني والله قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فوضع عنى عشرا . فأمرت بعشر صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى ، فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم ، وإني قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك ، قال : سألت ربي حتى استحييت ، ولكني أرضى وأسلم . قال : فلما جاوزت ، نادى مناد : أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي ) . متفق عليه .


[ 6 ] - باب في المعراج

العروج : هو الذهاب في صعود . قال تعالى : تعرج الملائكة والروح والمعراج بالكسر شبه السلم مفعال من العروج بمعنى الصعود ، فكأنه آلة له ، وقيل : بل هو آلة ، وفرق بينه وبين الإسراء ، كما بينته في رسالتي المسماة بالمدراج للمعراج ، وإنما سميت ليلة المعراج لصعود النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها إلى السماء ، وفي شرح السنة قال القاضي عياض : اختلف الناس في الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : إنما كان جميع ذلك في المنام ، والحق الذي عليه أكثر الناس ، ومعظم السلف ، وعامة المتأخرين من الفقهاء ، والمحدثين ، والمتكلمين ، أنه أسري بجسده ، فمن طالعها وبحث عنها ، فلا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ، ولا استحالة في حملها عليه ، فيحتاج إلى تأويل ، وقيل : ذلك قبل أن يوحى إليه ، وهو غلط يوافق عليه ، فإن الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر شهرا . وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة ، وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين ، وقال ابن إسحاق : أسري به - صلى الله عليه وسلم - وقد فشا الإسلام بمكة ، وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق ، وقد أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه ؟ وأما قوله في رواية شريك : وهو نائم ، وفي الرواية الأخرى : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه ، إذ قد يكون فيه ذلك حالة أول وصول الملك إليه ، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها وقال محيي السنة في المعالم : والأكثرون على ذلك . قلت : ومن القليل من قال بتعداد الإسراء نوما ويقظة وبه يجمع بين الأدلة المختلفة .

[ ص: 3757 ] قال الطيبي : وقد روينا عن البخاري والترمذي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ( ثم ) : قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل ، عن ابن عباس قال : شيء أريه النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة رآه بعينه ، ولأنه قد أنكرته قريش وارتدت جماعة ممن أسلموا حين جمعوه ، وإنما ينكر إذا كانت في اليقظة ، فإن الرؤيا لا ينكر منها ما هو أبعد من ذلك على أن الحق أن المعراج مرتان : مرة بالنوم وأخرى باليقظة . قال محيي السنة : رؤيا أراه الله قبل الوحي بدليل قول من قال : فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ، ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه ، كما أنه رأى فتح مكة في المنام سنة ست من الهجرة ، ثم كان تحقيقه سنة ثمان وعن بعض المحققين ، أن الأرواح مأخوذة من أنوار الكمال والجلال ، وهي بالنسبة إلى الأبدان بمنزلة قرص الشمس بالنسبة إلى هذا العالم ، وكما أن كل جسم يصل إليه نور الشمس تتبدل ظلماته بالأضواء ، فكذلك كل عضو وصل إليه نور الروح انقلب حاله من الموت إلى الحياة .

وقالوا : الأرواح أربعة أقسام . الأول : الأرواح المكدرة بالصفات البشرية وهي أرواح العوام غلبته القوى الحيوانية لا تقبل العروج ، والثاني : الأرواح التي لها كمال القوة النظرية باكتساب العلوم ، وهذه أرواح العلماء ، والثالث : الأرواح التي لها كمال القوة المدبرة للبدن باكتساب الأخلاق الحميدة ، وهذه أرواح المرتاضين إذا كبر وأقوى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة ، والرابع : الأرواح الحاصلة لها كمال القوتين ، وهذه غاية الأرواح البشرية وهي للأنبياء والصديقين ، فلما ازداد قوة أرواحهم ازداد ارتفاع أبدانهم عن الأرض ، وبهذا لما كان الأنبياء عليهم السلام قويت فيهم هذه الأرواح عرج بهم إلى السماء ، وأكملهم قوة نبينا ، فعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى .

الفصل الأول

5862 - ( عن قتادة ) ، تابعي جليل ( عن أنس بن مالك ) أي : خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( عن مالك بن صعصعة ) : أنصاري مزني مدني سكن البصرة ، وهو قليل الحديث ( أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم ) أي : الصحابة : ومنهم أنس ( عن ليلة أسري به ) : بالإضافة وفي نسخة بالتنوين أي : ليلة أسري به فيها . قال زين العرب في شرح المصابيح : إنها مضافة إلى الماضي ، وفي نسخة روايتي مجرورة منونة . وقال الطيبي : يجوز بناء ليلة وإعرابها ، وأسري بصيغة المجهول إيماء إلى قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا والإسراء : من السرى ، وهو السير في الليل . يقال : سرى وأسرى بمعنى ، وقيل : أسرى سار من أول الليل وسرى من آخره . قيل : وهو أقرب فالباء في به للتعدية ، وذكر الليل للتجريد أو للتأكيد . وفي الآية بالتنكير للتقليل والتعظيم . ( بينما أنا في الحطيم ) : قال القاضي ، قيل هو الحجر سمي حجرا لأنه حجر عنه بحيطانه ، وحطيما لأنه حطم جداره عن مساواة الكعبة ، وعليه ظاهر قوله : بينما أنا في الحطيم ( وربما قال في الحجر ) : فلعله - صلى الله عليه وسلم - حكى لهم قصة المعراج مرات ، فعبر بالحطيم تارة ، وبالحجر أخرى . وقيل : الحطيم غير الحجر ، وهو ما بين المقام إلى الباب ، وقيل : ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر ، والراوي شك في أنه جمع في الحطيم أو في الحجر انتهى .

وقال ابن حبيب : الحطيم ما بين الركن الأسود إلى الباب إلى المقام حيث ينحطم الناس للدعاء ، وقيل : كان أهل الجاهلية يتحالفون هنالك ، وينحطمون بالإيمان ، كذا ذكره الشارح الأول والله أعلم . ( مضطجعا ) : قيد للروايتين وهو يحتمل النوم واليقظة ( إذ أتاني آت ) أي : جاءني ملك ( فشق ) أي : قطع ( ما بين هذه إلى

[ ص: 3758 ] هذه ) يعني ) : تفسير من مالك على ما هو الظاهر أي : يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله هذا ( من ثغرة نحره ) : بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة أي : نقرة نحره التي بين الترقوتين ( إلى شعرته ) . بكسر الشين أي عانته ، وقيل منبت شعرها كذا في النهاية . ( فاستخرج قلبي ) : قال شارح : وهذا الشق غير ما كان في زمن الصبا إذ هو لإخراج مادة الهوى من قلبه ، وهذا لإدخال كمال العلم والمعرفة في قلبه . قلت : وفيه إيماء إلى التخلية والتحلية ومقام الفناء والبقاء ونفي السوي وإثبات المولى ، كما تشير إليه الكلمة العليا .

ثم اعلم أن هذا معجزة فإن من المحال العادي أن يعيش من ينشق بطنه ويستخرج قلبه ، وكأن بعضهم حملوها على المعاني المجازية ، ولذا قال التوربشتي : ما ذكر في الحديث من شق النحر واستخراج القلب ، وما يجري مجراه ، فإن السبيل في ذلك التسليم دون التعرض بصرفه من وجه إلى وجه بمنقول متكلف دعاء للتوفيق بين المنقول والمعقول ، هربا مما يتوهم أنه محال ، ونحن بحمد الله لا نرى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق عن الأمر لعدم المحال به على القدرة . ( ثم أتيت بطست ) : بفتح الطاء وتكسر وسينه مهملة في العربية ومعجمة ( من ذهب ) : لعل الاستعمال كان قبل التحريم أو القضية من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ( مملوءة ) : على وزن مفعول بالهمز ويشدد ( إيمانا ) : تمييز . قال القاضي : لعله من باب التمثيل إذ تمثل له المعاني كما تمثل له أرواح الأنبياء الدارجة بالصور التي كانوا عليها قبله الطيبي ، وفيه أن الأرواح أجساد لطيفة على الصحيح من الأقوال ، إلا أن يقال : المراد ممثل له الأرواح بأجسادهم الفانية ، ولكن فيه أن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ، نعم لو قيل ببقاء أجسادهم المتعلقة بها أرواحهم في عالم الملك وبتمثلها في عالم الملكوت ، لكان توجيها وجيها وتنبيها نبيها ، بل هو الظاهر ، ولا يبعد عن قدرة القاهر . وفي شرح مسلم معنى جعل الإيمان في الطست جعل شيء فيه يحصل به الإيمان ، فيكون مجازا ، وقد قال الشارح : الأول لا مانع من إرادة الحقيقة أقول : والحاصل أن المعاني قد تتجسم كما حقق في وزن الأعمال وذبح كبش الموت ونحوهما . ( فغسل قلبي ، ثم حشي ) : ماض مجهول من الحشو أي : ملئ من حب ربي ( ثم أعيد ) . أي : القلب إلى موضعه الأول على الوجه الأكمل .

( وفي رواية : ( ثم غسل البطن ) أي : الجوف مطلقا أو محل القلب فإنه بيت الرب ( بماء زمزم ثم ملئ إيمانا وحكمة ) أي : إيقانا وإحسانا فهو تكميل وتذييل ( ثم أتيت بدابة ) : هي تطلق على الذكر والأنثى لقوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها والتاء فيها للوحدة ، فالمعنى بمركوب متوسط . ( دون البغل ) : أصغر منه ( وفوق الحمار ) أي : أكبر منه ( أبيض ) : بالنصب على الحال أو الصفة ( يقال له البراق ) : بضم أوله ، سمي به لبريق لونه ، أو لسرعة سيره كبرق السحاب ولا منع من الجمع ، وإن كان يؤكد الثاني قوله : ( يضع خطوه عند أقصى طرفه ) ، بفتح فسكون في كل منهما أي : يضع قدمه عند منتهى بصره وغاية نظره قيل : الأصح أنه كان معدا لركوب الأنبياء ، وقيل : لكل نبي براق على حدة ، وهو المناسب لمراتب الأصفياء ، ففي شرح مسلم قالوا : هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء . قال الزبيدي في مختصر العين ، وصاحب التحرير : هي دابة كانت الأنبياء عليهم السلام يركبونها ، وهذا الذي قالاه محتاج إلى نقل صحيح .

قال الطيبي : ولعلهم حسبوا ذلك من قوله في حديث آخر : فربطه بالحلقة التي تربط بها الأنبياء أي : ربطت البراق . قلت وليس فيه دلالة على تقدير تسليم تقديره ، لأن المراد بالبراق الجنس في الثاني : قال : وأظهر منه حديث أنس في الفصل الثاني قول جبريل للبراق : فما ركبك أحد أكرم على الله منه . قلت : هو مع ظهوره لا يخفى ما فيه من الاحتمال المانع من صحة الاستدلال ، إذ محتمل أنه ركبه بعض الملائكة أو جبريل قبله عند نزوله إليه - صلى الله عليه وسلم - ، أو التقدير : فما ركب مثلك أو جنسك أحد أكرم على الله منه فلا معنى لتنفرك عنه . ( فحملت عليه ) : بصيغة المجهول أي : ركبت عليه بمعونة الملك أو بإعانة الملك ، وفيه إيماء إلى صعوبته كما سيأتي وجهه ، ( فانطلق بي جبريل حتى أتى باب السماء الدنيا ) ، ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء ، وتمسك به من زعم أن .

[ ص: 3759 ] المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس ، فأما المعراج فعلى غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق ، بل رقي في المعراج وهو السلم ، كما وقع به مصرحا ذكره العسقلاني . أقول : الأظهر أن هذا اقتصار من الراوي وإجمال لما سبق أنه ربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، نعم يمكن أن يكون سيره على البراق إلى بيت المقدس ، ثم إسراؤه إلى السماء بالمعراج الذي هو السلم والله أعلم . فكأن الراوي طوى الرواية ، فاختل به أمر الدراية ، ثم قيل : الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إظهار الحق للمعاندين ، لأنه لو عرج به عن مكة إلى السماء أولا لم يكن سبيل إلى إيضاح الحق للمعاندين ، كما وقع في الأخبار بصفة بيت المقدس ، وما صادفه في الطريق من العير مع ما في ذلك من حيازة فضيلة الرحيل إليه لأنه محل هجرة غالب الأنبياء ، ولما روي أن باب السماء الذي يقال له : مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس ، فأسري إليه ليحصل العروج مستويا من غير تعويج ذكره السيوطي .

( فاستفتح ) أي : طلب جبريل فتح باب السماء الدنيا ( قيل : من هذا ) ؟ أي : المستفتح ( قال : جبريل ) : بتقدير هو أو أنا ، قال القاضي عياض : وفيه أن للسماء أبوابا حقيقة وحفظة موكلين بها ، وفيه إثبات الاستئذان ، وأنه ينبغي أن يقول أنا زيد مثلا يعني : لا يكتفي بقوله أنا ، كما هو المتعارف إذ قد ورد به النهي ( قيل : ومن معك ) ؟ أي : أنت نعرفك ومن معك حتى تستفتح ( قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ) الواو للعطف وحرف الاستفهام مقدر أي : أطلب وأرسل إليه بالعروج أو بالوحي ، والأول أشهر وأظهر ، وعليه الأكثر . قال النووي : وفي رواية أخرى ، وقد بعث إليه أي بعث إليه للإسراء وصعود السماء ، وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة ، فإن ذلك لا يخفى على الملائكة إلى هذه المدة ، وهذا هو الصحيح . وقال البيضاوي أي : أرسل إليه بالعروج ، وقيل : معناه أوحي إليه ، وبعث نبيا ، والأول أظهر لأن أمر نبوته كان مشهورا في الملكوت لا يكاد يخفى على خزائن السماوات وحرسها ، وأوفق للاستفتاح والاستئذان ، ولذلك تكرر معه وتحت هذه الكلمات ونظائرها أسرار يتفطن لها من فتحت بصيرته واشتعلت قريحته . قلت : ولعل مأخذها وقوفه على جميع الأبواب على دأب آداب أرباب الألباب ، ثم السؤال من وراء الحجاب ، وكذا الجواب . بمرحبا مرحبا بذلك الجناب ، المشعر بالتنزل الرحماني ، والاستقبال الصمداني ، والإقبال الفرداني ، المشير إلى ما قال في الحديث القدسي المعبر عن الكلام النفسي ( من أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ) المومئ إلى قوله سبحانه : وهو معكم أين ما كنتم المصرح بالمعية الخاصة في مقام مريد المزيد ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، ثم الوارد على لسانه بلسان الجمع : إن الله معنا ، ثم عرض علو مقامه ، وحصول مرامه على آبائه الكرام ، وإخوانه العظام في تلك المشاهد الفخام ، فيا لها من ساعة سعادة لا يتصور فوقها زيادة ! وقيل : كان سؤالهم للاستعجاب بما أنعم الله عليه ، أو للاستبشار بعروجه إليه إذ كان من البين عندهم أن أحدا من البشر لا يترقى إلى أسباب السماوات من غير أن يأذن الله له ، ويأمر ملائكته بإصعاده ، فإن جبريل لم يصعد بمن لم يرسل إليه ، ولا يستفتح له أبواب السماء .

( قال ) أي : جبريل ( نعم ) أي : أرسل إليه بالتقريب لديه والإنعام عليه ( قيل مرحبا به ) أي : أتى الله بالنبي مرحبا أي : موضعا واسعا ، فالباء للتعدية ، ومرحبا مفعول به ، والمعنى جاء أهلا وسهلا لقوله : ( فنعم المجيء ) أي : مجيئه ( جاء ) ، فعل ماض وقع استئناف بيان زمانا أو حالا والمجيء فاعل نعم ، والمخصوص بالمدح محذوف . قال المظهر : فيه تقديم وتأخير ، وحذف المخصوص بالمدح أي : جاء فنعم المجيء مجيئه ، وقيل : تقديره نعم المجيء الذي جاءه ، فحذف الموصول واكتفي بالصلة أو نعم المجيء مجيء جاء فحذف الموصوف واكتفي بالصفة . ( ففتح ) أي : باب السماء ( فلما خلصت ) : بفتح اللام أي : وصلت إليها ودخلت فيها ( فإذا فيها آدم ، [ ص: 3760 ] فقال ) أي : جبريل ( هذا أبوك ) أي : جدك أي آدم ( فسلم عليه ) : قال التوربشتي : أمر بالتسليم على الأنبياء ، لأنه كان عابرا عليه وكان في حكم القائم ، وكانوا في حكم القعود ، والقائم يسلم على القاعد ، وإن كان أفضل منهم ، وكيف لا ، والحديث دل على أنه أعلى مرتبة وأقوى حالا وأتم عروجا ، ( فسلمت عليه فرد السلام ) ، أي : ردا جميلا ، وفيه دليل على أن الأنبياء أحياء حقيقة . ( ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ) : قيل : وبها اقتصر الأنبياء على هذا الوصف ، لأن الصلاح صفة تشمل جميع خصائل الخير وشمائل الكرم ، ولذا قيل : الصالح من يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق عباده ، ولذا ورد في الدعاء على ألسنة الأنبياء : توفني مسلما وألحقني بالصالحين ، ويمكن أن يكون المراد به الصالح لهذا المقام العالي ، والصعود المتعالي ( ثم صعد بي ) : بكسر العين أي : طلع - صلى الله عليه وسلم - جبريل والباء للتعدية أو المصاحبة ( حتى أتى السماء الثانية ) : وقد ورد أن بين كل سماء وسماء مسافة خمسمائة عام ، ( فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ) : في تكرار هذا السؤال والجواب في كل من الأبواب إشعار بأنه بسط له الزمان وطوي له المكان ، واتسع له اللسان ، وانتشر له الشأن في ذلك الآن بعون الرحمن . ( ففتح ، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة ) : جملة معترضة محتملة أن تكون من أصل الحديث ، وأن تكون مدرجة من كلام الراوي ، هذا وقال ابن الملك في شرح المشارق : المرئي كأن أرواح الأنبياء متشكلة بصورهم التي كانوا عليها ، إلا عيسى فإنه مرئي بشخصه ، وسبقه التوربشتي حيث قال : ورؤية الأنبياء في السماوات ، وفي بيت المقدس حيث أبهم يحمل على رؤية روحانيتهم الممثلة بصورهم التي كانوا عليها غير عيسى فإن رؤيته محتملة للأمرين ، أو أحدهما . قلت . وقد قدمنا أن الأنبياء لا يموتون كسائر الأحياء ، بل ينتقلون من دار الفناء إلى دار البقاء ، وقد ورد به الأحاديث والأنباء ، وأنهم أحياء في قبورهم فإنهم أفضل من الشهداء وهم أحياء عند ربهم .

( قال ) أي : جبريل ( هذا يحيى ) : قدمه لسبقه في الوجود ( وهذا عيسى ) : ختم به لأنه أتم في الشهود وخاتمة أرباب الفضل والجود . ( السلام عليهما ) . أي : جملة أو على حدة ( فسلمت فردا ) ، أي : السلام علي بأحسن رد ( ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح ) : لقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة ولما سبق في الحديث ، من أن الأنبياء إخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد . ( والنبي الصالح ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل ومن معك ؟ قال : محمد . وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ) : فيه إشعار بأن كلا من الأنبياء لم يحصل لهم الاستعلاء إلا بالاستئذان الملكي والفتح الإلهي ، وأن كلا منهم كالملائكة لهم مقام معلوم ، وحال مفهوم ، لا مقدم لما أخر ، ولا مؤخر لما قدم ، والله أعلم ( فلما خلصت إذا يوسف قال : هذا يوسف فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ) أي : ردا حسنا ( ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة ، فاستفتح . قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ) : وهذا التكرار ، والبيان على وجه التكثير يعد من قبيل :

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع [ ص: 3761 ] ففتح ، فلما خلصت فإذا إدريس ، قال : هذا إدريس ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ) : قال عياض هذا يخالف قول أهل التاريخ : إن إدريس كان من آبائه صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون قول إدريس ذلك تلطفا وتأدبا ، وهو أخ أيضا وإن كان أبا فإن الأنبياء إخوة ، كذا في شرح مسلم . ( ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة ، فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ففتح ) : فيه إشعار بأنه لم يفتح باب السماء إلا لمن يكون مسبوقا بنعت العلاء ووصف الولاء ، وأما الأعداء فلا تفتح لهم أبواب السماء ، حتى يلج الجمل في سم الخياط . ( فلما خلصت فإذا هارون قال : هذا هارون ، فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد ، ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة ، فاستفتح ، قيل من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ففتح ) ، فيه تنبيه نبيه على أن من منح له بفتح باب ما منع من باب آخر ، ولم يقع له حجاب ، بل يفتح له أبواب الرحمة ، ثم أبواب الجنة ، وما أحسن من قال من أرباب الحال :

على بابك الأعلى مددت يد الرجا ومن جاء هذا الباب لا يختشي الردى ( فلما خلصت إذا موسى ، قال : هذا موسى ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد ، ثم قال ، مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، فلما جاوزت ) أي : موسى أو مقامي ( بكى ) ، أي : موسى تأسفا على أمته وشفقة على أهل ملته ، فإنهم قصروا في الطاعة ، ولم يتبعوه حق المتابعة مع طول مدته وامتداد أيام دعوته ، فلم ينتفعوا به انتفاع هذه الأمة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مع قلة عمره وقصر زمانه ، وهذا يظهر وجه قوله : ( قيل له : ما يبكيك ؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي ) ؟ فإنه لم يرد بذلك استقصار شأنه ، فإن الغلام قد يطلق ويراد به القوي الطري الشاب ، وهذا زبدة كلام التوربشتي ، وقد حمله بعضهم على الغبطة وفيه نظر ظاهر لأهل الفطنة ، اللهم إلا أن يحمل على التمني ؛ فإنه يتصور في أمر المحل والله أعلم بالحال .

وقال بعض العلماء : لم يكن بكاء موسى عليه السلام حسدا معاذ الله ، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين ، فكيف ممن اصطفاه الله وهو في عالم الملكوت ، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم الملزوم لنقص أجره ، لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه ، وأما قوله : غلام فليس على سبيل التنقيص ، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه ، إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أحسن منه . وقال العسقلاني : ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا - صلى الله عليه وسلم - من استمرار القوة في الكهولة إلى أن دخل في أول الشيخوخة ، ولم يدخل على بدنه هرم ، ولا اعترى قوته نقص . قلت : ويمكن أن يكون وجه تسميته غلاما أنه حين مروره على الأنبياء كان في مدة عمره قليل بالنسبة إلى أعمارهم في الدنيا ، ثم مرور الأزمنة عليهم في حال البرزخ ، وقد يعتبر كونه غلاما لما حصل له المرتبة العلية في قليل من مدة البعثة النبوية ، فإن المعراج على ما سبق إنما كان بعد الوحي بزمان قليل إذ أقصى ما قيل فيه : أنه قبل الهجرة بسنة فيصدق عليه عمر الغلام بناء على أن قبله ليس من العمر التمام ، والله أعلم بحقيقة المرام .

[ ص: 3762 ] ( ثم صعد بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم . قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء ) : في إطباق كلمتهم واتفاق جملتهم على هذا المدح المطلق إشعار بأن ألسنة الخلق أقلام الحق ، وليس هنا في الأصول لفظ : ففتح ، فكأنه سقط من لفظ الراوي ، أو اكتفاء بما سبق ، ودلالة عليه بقوله : ( فلما خلصت ، فإذا إبراهيم ، قال : هذا أبوك ) أي : جدك الأقرب ( إبراهيم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ) ، وكان نبينا عليه السلام كان في الاستغراق التام ، ومشاهدة المرام غافلا عن الأنام ، كما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : ما زاغ البصر وما طغى حتى احتاج في كل من المقام إلى تعليم جبريل بالسلام . ( ثم قال : مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ) .

قال الحافظ السيوطي : استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم ، وأجيب : بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم ، أو أحضرت أجسادهم لملاقاته أي تلك الليلة تشريفا له ، واختلف في حكمة اختصاص من ذكر من الأنبياء بالسماء التي لقيه ، والأشهر أنه على حسب تفاوتهم في الدرجات ، وعن هذا قال ابن أبي جمرة : اختصاص آدم بالأولى ؛ لأنه أول الأنبياء وأول الآباء ، فكان في الأولى أولى ، وعيسى بالثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من نبينا - صلى الله عليه وسلم - ويليه يوسف لأن أمة محمد يدخلون الجنة على صورته ، وإدريس في الرابعة لقوله تعالى : ورفعناه مكانا عليا والرابعة من السبع وسط معتدل ، وهارون في الخامسة لقربه من أخيه ، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله تعالى ، وإبراهيم فوقه لأنه أفضل الأنبياء بعد نبينا . أقول : بقي الكلام على سائر الأنبياء عليهم السلام ، ولعلهم كانوا موجودين في السماوات بما يناسبهم من المقام ، ولم يذكر في كل سماء إلا واحد من المشاهير الأعلام ، واكتفى بذكرهم عن بقية الكرام .

( ثم رفعت إلى سدرة المنتهى ) : وفي نسخة السيد ، وبعض النسخ : رفعت لي سدرة المنتهى ، ويؤيده قوله الآتي : ثم رفع لي البيت المعمور ، وفي نسخة إلي بتشديد الياء . قال الحافظ العسقلاني : الأكثر بضم الراء وسكون العين وضم التاء بضمير المتكلم ، وبعده حرف الجر ، وللكشميهني : رفعت لي بفتح العين وسكون التاء أي : رفعت السدرة لي باللام ، أي : من أجلي ، ويجمع بين الروايتين بأن المراد رفعه إليها أي : ارتقى به وأظهرت له ، والرفع إلى الشيء يطلق على التقرب منه . وقال التوربشتي : الرفع تقريبك الشيء ، وقد قيل في قوله تعالى : وفرش مرفوعة أي : مقربة لهم فكأنه أراد أن سدرة المنتهى استبينت له بنعرتها كل الاستبانة ، حتى اطلع عليها كل الاطلاع بمثابة الشيء المقرب إليه ، وفي معناه رفع لي البيت المعمور ، ورفع لي بيت المقدس . قال النووي : سميت سدرة المنتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها ، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وحكي عن عبد الله بن مسعود أنها سميت بذلك لكونه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تبارك وتعالى . وقال السيوطي : وإضافتها إلى المنتهى لأنها مكان ينتهي دونه أعمال العباد وعلوم الخلائق ، ولا تجاوز للملائكة والرسل منها إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في السماء السابعة ، وأصل ساقها في السادسة .

( فإذا نبقها ) : بكسر الموحدة ويسكن أي ثمرها من كبره الدال على كبرها ( مثل قلال هجر ) ، بكسر القاف جمع قلة بالضم وهي إناء للعرب كالجرة الكبيرة ، وهجر اسم بلد ينصرف ولا ينصرف ، ولما كانت الثمرة في قشرها كالمطعوم في ظرفه ضرب مثل ثمرتها بأكبر ما كانوا يتعارفونه بينهم من الظروف ، كذا ذكره شارح . وفي القاموس : هجر محركة بلد باليمن مذكر مصروف ، وقد يؤنث ويمنع ، وقرية كانت قرب المدينة ينسب إليها القلال وينسب إلى هجر اليمن . ( وإذا ورقها ) أي : أوراقها في الكبر ( مثل آذان الفيلة ) ، بكسر الفاء وفتح التحتية واللام جمع الفيل ، مثل الديكة جمع الديك ، والآذان بالمد جمع الأذن .

[ ص: 3763 ] ( قال ) أي : جبريل ( هذا ) أي : هذا المقام أو هذا الشجر ( سدرة المنتهى ، فإذا أربعة أنهار ) أي : ظاهرة . وقال شارح : إذا للمفاجأة أي : فإذا أنا بأربعة أنهار ( نهران باطنان ونهران ظاهران قلت : ما هذان ) أي : النوعان من الأربعة نحو قوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم ( يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ) ، قال ابن الملك : يقال لأحدهما الكوثر وللآخر نهر الرحمة ، كما في خبر ، وإنما قال باطنان لخفاء أمرهما فلا تهتدي العقول إلى وصفهما ، أو لأنهما مخفيان عن أعين الناظرين ، فلا يريان حتى يصبا في الجنة ، ( وأما الظاهران فالنيل والفرات ) ، قال القاضي : الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها . وقال ابن الملك : يحتمل أن يكون المراد منهما ما عرفا بين الناس ، ويكون ماؤهما مما يخرج من أصل السدرة ، وإن لم يدرك كيفيته وأن يكون من باب الاستعارة في الاسم بأن شبههما بنهري الجنة في الهضم والعذوبة ، أو من باب توافق الأسماء بأن يكون نهري الجنة موافقين لاسمي نهري الدنيا . وفي شرح مسلم قال مقاتل : الباطنان هو السلسبيل والكوثر ، والظاهر أن النيل والفرات يخرجان من أصلها ، ثم يسيران حيث أراد الله تعالى ، ثم يخرجان من الأرض ويسيران فيها ، وهذا لا يمنعه شرع ولا عقل ، وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه .

( ثم رفع لي ) أي : قرب وأظهر لأجلي ( البيت المعمور ) ، وهو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة وحرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض ( ثم أتيت بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، وإناء من عسل ، فأخذت اللبن ) ، قال ابن الملك : اعلم أن اللبن لما كان ذا خلوص وبياض ، وأول ما يحصل به تربية المولود صور به في العالم المقدس مثل الهداية والفطرة التي يتم به القوة الروحانية ، وهي الاستعداد للسعادة الأبدية . أولها انقياد الشرع ، وآخرها الوصول إلى الله تعالى . ( فقال : هي الفطرة ) : أنث مرجع اللبن مع أنه مذكر مراعاة للخبر ( أنت عليها وأمتك ) ، أي : عليها أو كذلك ( ثم ) : يعني بعد وصوله إلى مقام : ( دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ( فرضت علي الصلاة ) : وفي الحديث الآتي : على أمتي ولا منافاة . ( خمسين صلاة ) : بتقدير أعني ، وقوله : ( كل يوم ) ، أي : وليلة ظرف ( فرجعت فمررت على موسى ) ، أي : بعد إبراهيم ، فقد روى الترمذي ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال : يا محمد أقرئ أمتك السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ( فقال ) أي : موسى ( بما أمرت ) : من العبادة ( قلت : أمرت بخمسين صلاة ) أي : أقلها ركعتان . قال ابن الملك : وقيل كانت كل صلاة على ركعتين ، ألا ترى أن من قال علي صلاة يلزمه ركعتان ( كل يوم ) . يحتمل اختصاصه بالنهار ، والأظهر أن المراد كل يوم وليلة لما سيأتي من قوله : خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فيكون من باب الاكتفاء للظهور والاستغناء .

( قال : إن أمتك لا تستطيع ) : قيد بالأمة لأن قوة الأنبياء وعصمتهم تمنعهم عن المخالفة ، وتعينهم على الموافقة في الطاعة ، ولو على أقصى غاية المشقة والطاقة ، والمعنى لا تقدر أمتك عادة أو سهولة لضعفهم أو كسلهم . ( خمسين صلاة ) أي : أداءها ( كل يوم ) ، ثم بين عدم استطاعتهم بقوله : ( وإني والله قد جربت الناس ) أي : زاولت ومارست الأقوياء من الناس ( قبلك ) ، يعني : ولقيت الشدة فيما أدت منهم ، ( وعالجت بني إسرائيل ) أي : بالخصوص ( أشد المعالجة ) أي : ولم يقدروا على مثل ذلك ، فكيف أمتك ؟ ( فارجع إلى ربك )

[ ص: 3764 ] فاسأله ) : أمر من سأل مهموزا أو مبدلا أو منقولا نسختان مقبولتان وقراءتان صحيحتان أي : فاطلب ( التخفيف لأمتك ، فرجعت ) أي : إلى ربي ( فوضع عني عشرا ) : وهو خمس الأصل ، وسيأتي أنه وضع عنه خمسا ، وكأنه كان أولا ثم صار عشرا ، أو عبر عن الخمس بالعشر اقتصارا ( فرجعت إلى موسى فقال مثله ) ، أي : مثل مقالته الأولى ( فرجعت ) أي : ثانيا ( فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت ) أي : ثالثا ( فوضع عني عشرا ، فرجعت إلى موسى ، فقال مثله . فرجعت ) أي : رابعا ( فأمرت بعشر صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال مثله ، فرجعت ) أي : خامسا ( فأمرت بخمس صلوات كل يوم ) أي : وليلة ، ولعل الاكتفاء فيه للتغليب حيث أكثر الصلوات فيه ، أو لأن الليل تابع لما قبله كما في ليلة عرفة وليالي أيام النحر ، ( فرجعت إلى موسى فقال : بما أمرت ؟ قلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم قال : إن أمتك ) أي : أكثرهم ( لا تستطيع خمس صلوات ) أي : مواظبتها ومداومتها ومحافظتها ( كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ) أي : ولم يستطيعوا ما دون ذلك ( فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ) ، قال الخطابي : مراجعة الله في باب الصلاة إنما جازت من رسولنا محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام لأنهما عرفا أن الأمر الأول غير واجب قطعا لما صدرت منهما المراجعة ، فصدور المراجعة دليل على أن ذلك غير واجب قطعا ، لأن ما كان واجبا قطعا لا يقبل التخفيف ، ذكره الطيبي . وتبعه ابن الملك ، وأقول : ما لم يكن واجبا لا يحتاج إلى سؤال التحفيف قطعا ، فالصحيح ما قيل أنه تعالى في الأول فرض خمسين ، ثم رحم عباده ونسخها بخمس كآية الرضاع عند بعض ، وعدة المتوفى عنها زوجها على قول ، وفيه دليل على أنه يجوز نسخ الشيء قبل وقوعه ، كما قال به الأكثرون ، وهو الصحيح . وقالت المعتزلة ، وبعض العلماء : لا يجوز . ذكره النووي .

( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سألت ربي ) أي : التخفيف ( حتى استحييت ) أي : من كثرته ، وفي نسخة بياء واحدة ، فهما لغتان ، أو الثانية تخفيف للأولى بالنقل والحذف ، والمعنى فلا أرجع لطلب التخفيف ، وإن كان الظن في الأمة أن لا يستطيعوا دوام المحافظة ، ( ولكني أرضى ) أي : بما قضى ربي وقسم ( وأسلم ) أي : أمري وأمرهم إلى الله وأنقاد بما حكم . قال الطيبي ، فإن قلت : حق ، لكن أن يقع بين كلامين متغايرين معنى فما وجهه ها هنا ؟ قلت : تقدير الكلام هنا حتى استحييت فلا أرجع ، فإني إذا رجعت كنت غير راض ولا مسلم ، ولكني أرضى وأسلم انتهى . ولا يخفى أن المراجعة غير نافية للرضا والتسليم ، وإلا لما رضي بها موسى ونبينا عليهما أفضل الصلاة وأكمل التسليم ، وتوضيحه ؛ أن سؤال العافية ودفع البلاء وطلب الرزق ودعاء النصر على الأعداء ، وأمثال ذلك كما صدر من الأنبياء والأولياء لا ينافي الرضا بالقضاء أبدا ، ولا التسليم لما في الأزل أبدا .

( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فلما جاوزت ) ، أي : موسى وتركت المراجعة ( نادى مناد ) أي : حاكيا كلام ربي ( أمضيت فريضتي ) أي : أحكمتها وأنفدتها أولا . ( وخففت عن عبادي ) . أي : ثانيا وسيأتي لهذا تتمة معرفتها مهمة ( متفق عليه ) : ورواه النسائي .

[ ص: 3765 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية